أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2024
نيران صديقة!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

في منتصف تسعينات القرن الماضي، كشفت محكمة عسكرية أمريكية، النقاب، عن حادثة فظيعة حدثت فوق العراق، حيث أسقطت طائرتان مقاتلتان أمريكيتان، من طراز أف ١٥، طائرتين هليوكوبتر، أمريكيتين أيضًا. وأشارت التحقيقات إلى أن الحادث نجم عن خطأ شخصي من الضابط المسؤول عن وحدة الرادار، إبان حدوث الواقعة، والتي خلفت ٢٦ قتيلاً.

إن مثل هؤلاء هم ضحايا ”نيران صديقة“. وهذا مصطلح يعني أن أولئك المُستهدفين، ينتمون إلى ذات فريق المهاجمين، أي أن هؤلاء ليسوا من الأعداء! إن مثل هذه الاعتداءات الناتجة عن الخطأ في تحديد الهوية، تطرأ عادة نتيجة عدم وضوح الرؤية، أو عن خطأ في الاتصال، أو خلل في الأجهزة، أو قصور بشري!

ولعله من نافلة القول: إن وضف هذه المهاجمات بـ”الصديقة“، لا ينتقص من فداحة الخسارة، ولا يُقلل من الألم الناشئ عن مثل هذه المآسي. فالقتلى هم ضحايانا، كما لو كانوا قُتلوا بأيدي الأعداء. والعائلات تتجرع مرارة الفقد، كما لو كانوا قُتلُوا بواسطة العدو. بل لعل المرارة في حالات النيران الصديقة، تكون أقسى، لأن الخسران لم يكن لازمًا.

نيران مسيحية صديقة!

حذر الرسول بولس مؤمني غلاطية من تبعات ”النيران الصديقة“ بين المسيحيين: «إِذَا كُنْتُمْ تَنْهَشُونَ وَتَأْكُلُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَانْظُرُوا لِئَلاَّ تُفْنُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (غل٥: ١٥). ولا نعرف إن كان الغلاطيون قد تعلَّموا هذا الدرس، أو لا. ولكن الحقيقة المُحزنة أنه في القرن الحادي والعشرين، لم تتعلَّم الكنيسة بعد هذا الدرس! فنحن نسمع عن مهاجمات كثيرة جدًا، من مسيحيين ضد مسيحيين، وانتقادات لاذعة وهدَّامة، مِن قِبَل مسيحيين ضد مسيحيين. ورغم أننا ندعو هذه المهاجمات ”نيران صديقة“، إلا أن ثمة فارقًا مهمًا بين تلك، وبين الضربة العسكرية. وهذا الفارق هو أن الأخيرة تنجم عادة عن خطأ في التقدير، أو قصور في الإدراك، إزاء الهدف ”الصديق“، كما أنها غير مقصودة بالمرة. بينما النيران الصديقة الشائعة بين المسيحيين، هي في الواقع عمدية ومقصودة ومُوّجهة ضد أفراد أو جماعة مسيحية أخرى.

وعادة ما تأتي هذه النيران الروحية الصديقة، نتيجة فهم خاطئ، أو اختلاف في الهوية. وقد تحدث نتيجة وجهة نظر خاصة بالمُهاجِم، يُمكن أن تكون غير دقيقة، أو مُنحازة. وفي مرات عديدة يهنئ هؤلاء المُهاجمون أنفسهم، بزعم أنهم يقومون بعمل صالح، وأنهم يُدافعون عن مجد وكرامة الرب، وأنهم يفضحون خطأ أو شرًا ما. ومع ذلك يُمكن أن يكون هؤلاء ببساطة يفضحون أراءً مُخالفة، أو لا تتفق مع إدراكهم الخاص المحدود. إن مثل هذه الهجمات، سواء عشوائية أو عمدية، قد تكون دوافعها سياسية، ولا صلة لها بالإخلاص في الذود عن مجد المسيح.

ومهما يكون إخلاص المُهاجمين، فالدمار الناتج واسع، لأن ”النيران العسكرية الصديقة“، تُخلف ضحايا قليلين وحكومات مُحرجة، بينما ”النيران الروحية الصديقة“، لا تُدمر الهدف المقصود فحسب، ولكنها تُصيب - عرضًا – طرفًا بريئًا ثالثًا، ربما يطاله دمار أكبر، لأنها غالبًا ما تكون علانية. ومن شأن ذلك أن يضر بالشهادة المسيحية ككل.

هل هم حقًا مسيحيون؟

إن هؤلاء الأصدقاء القناصة، هم - في ذواتهم - يعيشون تناقضًا بَيَّنًا مع هويتهم المسيحية. قال قائدنا الأعظم: «بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ» (يو١٣: ٣٥). وقد سطر الرسول بولس أبجدية السلوك بالمحبة، فقال: «الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.» (١كو١٣: ٤-٧).

وقد مارس الرسول بولس نفسه مبدأ المحبة، كما يتضح من فيلبي ١: ١٥-١٨: «أَمَّا قَوْمٌ فَعَنْ حَسَدٍ وَخِصَامٍ يَكْرِزُونَ بِالْمَسِيحِ ... فَهؤُلاَءِ عَنْ تَحَزُّبٍ يُنَادُونَ بِالْمَسِيحِ لاَ عَنْ إِخْلاَصٍ، ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى وُثُقِي ضِيقًا ... فَمَاذَا؟ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقّ يُنَادَى بِالْمَسِيحِ، وَبِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا». لقد فرح لأن الإنجيل يُكرز به، حتى لئن كانت دوافعهم عليلة؛ إنه لم يدن أولئك المُبشرين، حتى وإن كانوا يقصدون أن يُضايقوه. لقد التزم الرسول بولس بمبدأ قرره في رومية ١٤: ٤: «مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ». ثم أَلم يُعلّمنا مُخلّصنا الصفوح المُحب: «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (مت٧: ١)؟

وقد أعطانا سليمان مبدأ صالحًا لوزن الأمور: «أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ» (أم٢٧: ٦)؛ إن جُرُوح الْمُحِبِّ (الصديق)، هي تلك الآلام التي قد تنشأ عرضًا عن مشورة خاصة تصحيحية، من طرف أخ أمين يُحاول – بدافع المحبة المُخلِّصة – أن يُعين أخاه؛ شيء ما أشبه بالألم الناتج عن جروح عملية جراحية صعبة، ولكن لازمة لإنقاذ الحياة.

كتب الرسول بولس إلى الكورنثيين، الذين بينهم أُسيء فهمه، واُفتُرى عليه، وشُهِرَ به، فقال: «لِذلِكَ أَكْتُبُ بِهذَا وَأَنَا غَائِبٌ، لِكَيْ لاَ أَسْتَعْمِلَ جَزْمًا وَأَنَا حَاضِرٌ، حَسَبَ السُّلْطَانِ الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهُ الرَّبُّ لِلْبُنْيَانِ لاَ لِلْهَدْمِ» (٢كو١٣: ١٠). فلا الرسول بولس، ولا أحد آخر، كائنًا مَن كان، له السلطان لكي يهدم عمل الله: الكنيسة!

الآن نحن نسمع انتقادات كثيرة قاسية، ضد خدام وحركات وخدمات، يستخدمها الله بشكل ظاهر ليُوقظ كنيسته، ويبنيها، وليُحذّر العالم بشأن خطورة وضعه وأحواله. ثم إن البعض ينشرون هجمات تحاول توثيق ما يعتبرونه - من وجهة نظرهم الخاصة - ممارسات عالمية أو شريرة، من جانب خدام وإرساليات، قدمت أوراق اعتمادها، وترسخت خدمتها. وهذا هو عمل الشيطان «الْمُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا» (رؤ١٢: ١٠). دعونا لا نعمل معه في عمله القذر.

كتب الرسول بولس إلى المؤمنين في رومية: «فَإِذًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَابًا ِللهِ. فَلاَ نُحَاكِمْ أَيْضًا بَعْضُنَا بَعْضًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ احْكُمُوا بِهذَا: أَنْ لاَ يُوضَعَ لِلأَخِ مَصْدَمَةٌ أَوْ مَعْثَرَةٌ» (رو١٤: ١٢، ١٣). وقد صوَّر الذين يرتكبون مثل هذه الأمور، على النحو الخطير: «وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ. لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ لاَ يَخْدِمُونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ بَلْ بُطُونَهُمْ. وَبِالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ» (رو١٦: ١٧، ١٨).

يقينًا هناك أخطاء، وممارسات تثور حولها الريبة، ومجموعات فاسدة في أماكن عديدة. ومن ناحيتنا، واجبنا التحذير ضدها، ولكن دون الاشتراك في هجمات شخصية ضد قديسين، رفقاء لنا، قد يكونون على أرض زلقة، بل بالأحرى أن نُصلي من أجلهم، ونُقدِّم لهم المعونة البناءة، متى أمكن ذلك.

أيها الأحباء: إن الاغتياب خطية غادرة، ترعى كآكلة، وعلينا أن نُحاذر كل الحذر. وفي ١ كورنثوس ٥: ٩-١١، يُوّضع الشَتَّام (النمَّام) جنبًا إلى جنب، مع الزاني، وعابد الأوثان، والسكير، والسرَّاق. إن هؤلاء الذين هم من خارج، مُعرضون لدينونة الله، ولانقضاض الشيطان المُهلِك ذاته!

العدو الحقيقي:

لا ينبغي أن تكون هناك ”نيران صديقة“ بين شعب الله، فعدونا الحقيقي مُحدَّد بدقة في المكتوب (أف٦: ١٢؛ ١بط٥: ٨، ٩). إن التركيز والطاقة الموجهان للاقتتال الداخلي، هي موارد مهدرة، كان ينبغي تكريسها للحرب ضد عدونا الحقيقي، ولا نهيئ له الفرصة لإتمام أغراضه الخسيسة. ونحن ننضوي تحت لواء الشيطان بالفعل عندما نشترك في مهاجمة أعدائه.

بل فان راين