أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
هنري أيرنسايد يحجم الكثيرون عن دراسة أسفار الأنبياء الصغار (من هوشع إلى ملاخي)؛ فالبعض يتخوف من ذلك اعتقادًا بصعوبة فهمها واستخراج فوائد منها، والبعض الآخر يجهل الدرر والنفائس التي تحويها هذه الأسفار بين دفتيها. والواقع أن هذه الأسفار وإن صغر حجمها – وهذا سر تسميتها – عظمت قيمتها. ففيها نجد مستودعًا لأفكار الله، ومعرضًا لطرقه ومعاملاته المختلفة؛ فنراه داعيًا تارة، محذرًا تارة أخرى، معلنًا عن محبته لشعبه، موضحًا متطلباته في هذا الشعب الذي ارتبط به، فاتحًا بالنعمة باب رد شعبه إليه من أجل اسمه. ولذلك فكل من يحب الاطلاع على أفكار الله كما أعلنها هو – تبارك اسمه – ومن يهمه أمور الله وطرقه ومعاملاته؛ عليه ألا يهمل دراسة هذه الأسفار الثمينة، شأنها شأن كل كلمة الله. وكاتب هذه التأملات؛ هنري أيرنسايد، كاتب متعلم في ملكوت الله، وهبه الله بصيرة مفتوحة على الحق، كما منحه أسلوبًا سلسًا، فتميز بقدرته على تبسيط الصعوبات التي قد تواجه الدارس. وهو، في هذه التأملات، يقدِّم دراسة تأملية في أسفار الأنبياء الصغار، ملقيًا الضوء على محتواها، مستخرجًا الكثير من الدروس العملية لنا نحن الذين كُتِبَت كل هذه لتعليمنا وإنذارنا. والكتاب يُعَد إضافة لمكتبتنا العربية كنا في حاجة شديدة إليها. لذلك نستودع الكتاب وقرّاءه بين يدي الرب، ليكون سبب بركة وفهم أعمق للمكتوب. والكتاب صدر في ثلاثة أجزاء متوفرة في مكتبة الإخوة الجزء الأول: هوشع – يوئيل – عاموس – عوبديا ١٥٥ صفحة الجزء الثاني: يونان – ميخا – ناحوم – حبقوق – صفنيا ١١٤ صفحة الجزء الثالث: حجي – زكريا – ملاخي ١٣٤ صفحة نشجعك على اقتنائه وقراءته.
 
 
عدد مايو السنة 2023
تَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«لَمَّا جَاءَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعَبْرِ نَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: انْظُرُوا، وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ» (مت ١٦: ٥، ٦)

قال الرب يسوع لتلاميذه: «انْظُرُوا، وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ»، ثم أفهمهم «أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْخُبْزِ، بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ» (ع ١٢). وكان الرب يُحذرنا من نتائج إنكار حقيقة القيامة كما يفعل الصَّدُّوقِيِّون «لأَنَّ الصَّدُّوقِيِّينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَيْسَ قِيَامَةٌ وَلاَ مَلاَكٌ وَلاَ رُوحٌ» (أع ٢٣: ٨)، وكان – تبارك اسمه – يُحذرنا أيضًا من رياء الْفَرِّيسِيِّينَ، لأنه قال أيضًا لتلاميذه: «أَوَّلاً تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ» (لو ١٢: ١). ونحن – في أيامنا هذه - نواجه أشباه الصَّدُّوقِيِّينَ والْفَرِّيسِيِّينَ، فلا بد أن نحترس من خَمِيرِ الاثنين!

الصَّدُّوقِيِّون اليوم

الأشخاص المُتديّنون الذين يُشبهون الصَّدُّوقِيِّين هم الربوبيون*. وهم يؤمنون بالله ويستشهدون بالكتاب المقدس، لكن يرفضون الحقائق الهامة التي يحتويها كالقيامة والمعجزات والوحي الكتابي. وعادة يكون هؤلاء الأشخاص مُتعلمين تعليمًا عاليًا، وأشخاصًا ذوي أهمية كبيرة في هذا العالم.

إنكار القيامة

إنكار حقيقة القيامة ليست ظاهرة جديدة؛ ففي أيام الرب يسوع «جَاءَ إِلَيْهِ صَدُّوقِيُّونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ»، وسألوه سؤالاً ساخرًا مُخادعًا: لو أن امرأة تزوجت وترملت عدة مرات فلمن تكون زوجة في القيامة؟ (مت ٢٢: ٢٣ - ٢٨). وفي أيام الرسول بولس اختلفت الأسئلة التهكمية؛ فكانوا يسألون: «كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ؟ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟» (١كو ١٥: ٣٥).

والرب يسوع – كلي الحكمة – أجاب عن سؤال الصَّدُّوقِيِّين بخصوص الزواج قائلاً: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ» (متى ٢٢ : ٢٩، ٣٠). واهتم الرسول بولس بالإجابة على موضوع أجساد القيامة بقوله إن الأجساد المائتة ستلبس عدم موتٍ، وسنتغيـر كلنا (١كو ١٥: ٥١ - ٥٤). أما عن كيف أن الله خالقنا يصنع أجسادًا جديدة من تلك التي لدينا الآن أو مِن التي فسدت بطريقة ما؛ فهذا يظل أمرًا سيعلنه الله لنا فيما بعد.

إننا نبني إيماننا بحقيقة القيامة على حقيقة أن قيامة المسيح قد أكدها شهود عيان كثيرون، كان أكثرهم على قيد الحياة عندما كتب الرسول بولس رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس «أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا» (١كو ١٥ : ٣ ٦). وأيضًا كما علَّمنا الرب يسوع: «لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يو٥ : ٢٨، ٢٩).

إنكار المعجزات وتحريفها

إن تغيير أجسادنا إلى صورة مناسبة للأبدية سيكون بالفعل معجزة، لكن صَّدُّوقِيو اليوم ينكرون حدوث المعجزات. فعلى سبيل المثال؛ ”توماس جيفرسون“ (الرئيس الأمريكي من ١٨٠١ إلى ١٨٠٩)، اشتهر بأنه كان قارئًا للكتاب المقدس، لكن استخدم نسخة حذف منها جميع المعجزات!

سيحاول مثل هؤلاء الأشخاص إيجاد تفسير منطقي للمعجزات. بما إن معجزات كثيرة تتعلق بالطبيعة، فإن الصَّدُّوقِيِّين يُقدمون لها أسبابًا ”طبيعية ثانوية“. فمثلاً؛ سقطت أسوار أريحا (يش ٦: ٢٠)، لأن المدينة كانت تقع في واد متصدع، وفي منطقة زلازل. ولكن، حتى لو هناك سبب ثانوي لسقوط أسوارها؛ وهو الزلزال، فإنه لا يُمكن تفسير حدوثه المعجزي في اللحظة الحاسمة لوصول شعب الرب إليه.

بالمثل – هم يقولون – إن عبور نهر الأردن المُسجل في (يش ٣ : ١١-١٧) له أوجه تشابه مثيرة مع أحداث تاريخية أخرى:

  • في عام ١٢٦٦ م. بقى قاع النهر جافًا لمدة عشر ساعات نتيجة لانهيار أرضي.
  • في عام ١٩٢٧م. تسبَّب زلزال في انهيار الضفة الغربية، وتم سد نهر الأردن لأكثر من ٢١ ساعة§.

    قد تشير هذه الأحداث إلى تفسير ”طبيعي“ لما حدث قبل قرون مضت، ولكنها لا تنتقص بأي حال من الأحوال من التدخل المعجزي، الفائق للطبيعة، الذي فتح الطريق أمام بني إسرائيل، في اللحظة التي احتاجوا فيها إلى العبور.

    عظات منطقية عقلية

    واليوم، فإن المُعلِّمين أشباه الصَّدُّوقِيِّين، يُقدّمون عظات جيدة الإعداد، لتعليم الأخلاق والمبادئ والفلسفة. وهكذا فلنا تحذير الرسول بولس: «اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ» (كو ٢: ٨). فعلى سبيل المثال، يُعلِّم هؤلاء أنه يجب أن نتعامل مع الضيقات بشعار ”ابتسم وتحمَّلها“! وهذه هي الرواقية** أو الفلسفة المنهجية للفلاسفة الرواقيين! لكن الموقف المسيحي، الذي نتعلَّمه من الكتاب المقدس، هو أن ترى يد الله عاملة في الضيقات، لتُنتج لنا خيرًا روحيًا «لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ، بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ» (عب ١٢: ١٠، ١١).

    ويُعلّمنا الكتاب المُقدس أن الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع الضيقات هي «لِذلِكَ قَوِّمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً، لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ الأَعْرَجُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يُشْفَى» (عب ١٢: ١٢، ١٣)، «فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ، مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (١بط ٥: ٦، ٧).

    فرِّيسِيو اليوم

    ينجذب المسيحي المحافظ إلى الفريسية أكثر من الصدُوقيّة. ويميل المحافظون إلى المبالغة وتشويه المبادئ الأخلاقية والدينية للكتاب المقدس، معتقدين أنهم بذلك سيكونون أكثر برًا. وبتحريفهم لكلمة الله يحصلون بسهولة على بر ذاتي تقليدي آلي، بدون أدنى شعور بالتواضع، مما يولِّد فيهم رغبة شديدة في معاقبة الخطاة بدلاً من ردّ نفوسهم.

    على سبيل المثال «قَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِنًا. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسْطِ، قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (يو ٨: ٣ - ٦). وعلى ما يبدو، كانوا يشعرون بالرضا لضبطها متلبسة في ذات الفعل. لكننا نرى الرب يقودهم إلى الحكم على الذات «وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ! ... وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِدًا فَوَاحِدًا ... وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسْطِ ... فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يو ٨: ٧ - ١١).

    فرائض وقوانين البر الذاتي

    يتحدى الكتاب المقدس مَن لهم ميول فريسية بالسؤال: «إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ؟ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: لاَ تَمَسَّ! وَلاَ تَذُقْ! وَلاَ تَجُسَّ! الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النَّاسِ، الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ» (كو ٢: ٢٠ - ٢٣). إن الاهتمام ومحاولة الالتزام بمثل هذه الفرائض يُعزز الشعور بالبر الذاتي، والرغبة في فرضها على الآخرين. علينا بالأحرى أن نحيا طبقًا للتحريض: «أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ، وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ ... وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ» (أف ٤: ٢٢ - ٢٤، ٣٢).

    الحرمان من المَسَرَّات والراحة

    تميل تعاليم الفريسين إلى تصوير الله على أنه يريد حرمان البشر من أية لذة ومسرة. لكننا لدينا التأكيد: «فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ (مَسَرَّات) إِلَى الأَبَدِ» (مز ١٦: ١١). ولكن المقصود نوعًا مختلفًا من اللَّذَّاتِ والمَسَرَّات. ويا لها من لَّذَّات ومَسَرَّات حقيقية!

    يُبارك الله الإنسان بالبركات واللَّذَّاتِ الأرضية، حتى من الطعام والشراب. ويفرز مخ الإنسان مواد كيميائية نافعة بعد الوجبات الشهية††. ولقد شارك الرب يسوع في وجبات عشاء، «وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» (لو ٥: ٢٩، ٣٠؛ أع ١٠: ٤١)، وقال الرسول بطرس «أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (أع ١٠: ٤١). وقال الرب يسوع: «جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (مت ١١: ١٩). ومع ذلك فإن حياة المسيح كانت في الأساس إدانة لحياتهم‡‡. وحياتنا يجب أن تتشابه مع حياته: «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ ... فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ» (رو ١٤: ١٧، ١٩).

    أخبَرني صديق أنه لم يستمتع بزيارته لعمته التي تسكن بعيدًا. ولما سألته عن السبب، أجاب: ”إنها متزمتة وصارمة ... إنها متزمتة وصارمة جدًا“. واكتشفت بعدها أني أعرف عمته. لم يجعلها تزّمتها شهادة على صلاح الرب، بل على برها هي الشخصي!

    من المعروف جيدًا أنه لكي نكون مُثمرين، نحتاج إلى وقت للراحة والاستجمام. بعدما تمَّم التلاميذ ما أرسلهم ليفعلوه (مت ١٠: ٥ - ٨)، قال لهم الرب: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً» (مر ٦: ٣١). إنه ليس سَيِّدَا قاسيًا!

    وماذا يمكننا أن نفعله للراحة والاستجمام؟ أعطانا الرسول بولس بعض الإرشادات:

  • سأل سؤالاً بليغًا: «لِمَاذَا يُحْكَمُ فِي حُرِّيَّتِي مِنْ ضَمِيرِ آخَرَ؟» (١كو ١٠: ٢٩). وقد طرح هذا السؤال فيما يتعلق بمسألة ضمير شخص أخر. والعكس من ذلك مهم أيضًا: لماذا يُحكم في حريته (أو حريتها) من ضميري؟
  • «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي» (١كو ١٠: ٢٣).
  • «افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ» (١كو ١٠: ٣١).

    وإن أنشطتنا الترويحية الترفيهية قد لا تهدف بصورة خاصة إلى تمجيد الله، لكن يجب أن تكون نافعة في نتائجها.


* الربوبية (Deism)، مشتقة من الكلمة اللاتينية رب (Deus)، وهي مذهب فكري لاديني وفلسفي لاهوتي، يؤمن بوجود خالق عظيم خلق الكون، وبأن هذه الحقيقة يمكن الوصول إليها باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعي وحده دون الحاجة إلى أي دين. معظم الربوبيين يميلون إلى رفض فكرة التدخل الإلهي في الشؤون الإنسانية كالمعجزات والوحي. والربوبية تختلف في إيمانها بالإله عن المسيحية واليهودية اللتين تؤمنان بالمعجزات والوحي، حيث يرفض الربوبيون فكرة أن الإله كشف نفسه للإنسانية عن طريق كتب مقدسة. ويرى الربوبيون أنه لا بد من وجود خالق للكون والإنسان فيختلفون بذلك عن الملحدين أو اللاربوبيين، بينما يتفقون معهم في اللادينية. والربوبيون يرفضون معظم الأحداث الخارقة (كالنبوات والمعجزات)، ويميلون إلى التأكيد على أن الله أو ”الرب“ أو ”المهندس العظيم الذي بنى الكون“، لديه خطة لهذا الكون التي لا تغيير فيها، سواء بتدخل الله في شؤون الحياة البشرية، أو من خلال تعليق القوانين الطبيعية للكون. ما تراه الأديان على أنه وحي إلهي وكتب المقدسة، يراه الربوبيون على أنه تفسيرات صادرة عن البشر وليس من مصادر موثوقة. (المُعرّب)

 Blair, Hugh J., Joshua in Guthrie, D. and Motyer, J. A. et al. The New Bible Commentary Revised; InterVarsity Press, 1970; p.239.

 Ibid., p.237.

§ Ibid., p.237.

 Vine, W. E.; An Expository Dictionary of New Testament Words; Volume III, p.181.

** الرواقية هي مذهب فلسفي يُعلّم بأن الهدوء والاتزان سمتان يجب أن يسعى الإنسان لامتلاكهما، ليتمتع بالسعادة أو الراحة الدائمة. ولا شك بأن تحقيقهما ليس بالأمر السهل، وتحديدًا للشخصيات التي تتصف بالاندفاع. لكنّ هنالك أخبارًا سعيدة لأصحاب الشخصيات المندفعة والعصبية: الهدوء ليس مستحيلاً، إنه أمر ضمن إطار سيطرتك ويمكنك تحقيقه. ولكن عليك أن تحاول أن تُسكن نفسك لتقبّل ما لا تستطيع تغييره في الحاضر، وتتشجع لتغيير ما تستطيع تغييره، ولتتحلى بالحكمة لمعرفة الفرق بينهما. ولكن الفلسفة الرواقية لا تُوَضِّح لنا كيف يُمكننا تحقيق هذه الغاية. (المُعرّب)

†† Sutherland, Stephani; “Food High,” Scientific American, Dec. 2017; p.20.

‡‡ Vine, W. E.; An Expository Dictionary of New Testament Words; Volume III, p.181.



ا.ه.كروسبى