أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2006
إله النجاه لا يعد المنفذ قبل الأوان - الله في سفر أستير
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«ومَنْ يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى المُلْك» (أس4: 14).

رأينا فيما سبق أن هذه العبارة تعلمنا درسين، الدرس الأول عن المنفذ الذي يعده إله النجاة قبل أوان التجربة، وقد توقفنا عنده. والدرس الثاني أنها توضح، أن إحسانات الله لنا حتمًا لها غرض، علينا أن نفهمه ونتممه. وهذا ما سنتوقف عنده تحت هذا العنوان:

 الغرض من الإحسان

 لقد وصلت أستير إلى المُلك ولم يكن هذا يخطر على بال، فمن كان يعلم أو حتى يتخيَّل أو يحلم، أن فتاة يتيمة مسبية وذليلة ومن شعب مكروه، تصبح بين ليلة وضحاها ملكة البلاد؟ من كان يعلم؟ لا أحد بالمرة!

 ويبدو أنها بعد ما وصلت إلى الملك كان بداخلها، كما كان بداخل مردخاي أيضًا، هذا السؤال: لماذا قصد الرب أن تصل أستير إلى الملك؟

  • هل هو مجرد تعويض ضخم من إله التعويضات؟ إنه بلا شك تعويض رائع، لكنه في الواقع خرج عن حدود التعويض! فلم تخسر أستير عرشًا حتى يعوضها إله التعويضات بعرش أفضل منه! بالإضافة إلى أن الرب كان قد سبق وعوضها تعويضًا روحيًا وآخر نفسيًا وثالثًا زمنيًا كما أشرت من قبل في مقال سابق. إذًا ماذا يكون؟
  • هل هو مجرد إحسان من إله المساكين؟ نعم، لكنه إحسان يخيف! إذ معه يشعر المؤمن بهول المسئولية التي يوجدها وصول هذا الإحسان بين يديه، فيظل متسائلاً في داخله: لماذا كل هذا الإحسان؟ ولماذا أنا بالذات؟

 وعليه فقد بقي في داخلهما هذا التساؤل لمدة تربو على الأربع سنوات: لماذا وصلت أستير إلى المُلك؟ لا أحد يعلم.

 وأخيرًا، عندما جاء الوقت العصيب، وحل اليوم الشرير، فهم الإيمان على الفور لماذا وصلت أستير إلى المُلك! لقد كان لأجل هذا اليوم العصيب.

 لذلك أرسل إليها مردخاي قائلاً: ”ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا قد وصلت إلى الملك“. فكان كمن يقول لها: إياك يا أستير أن تنسي أن وصولك للملك كان له غرض، الغرض الذي تساءلنا عنه ولم نعلمه وقتها، لكن ها هو قد جاء اليوم الذي فيه نفهم الغرض. فأنت المنفذ الذي أعده إله النجاة! فهيا حققي الغرض، ولا تضيعي الفرصة فتخسري للأبد.

 هذه هي رؤية الإيمان بعد أن استرد عافيته، إذ يعرف كيف ينظر للخلف ويسترجع الأحداث ليفسر ما لم يفسره وقت حدوثها، ويفهم ما لم يفهمه من قبل. آه ما أعظم الإيمان! وما أروعه عندما يعمل!

 السؤال عن غرض الإحسان

 هذا الموقف من مردخاي استحضر لذهني هذه العبارة الجميلة التي قالها ربنا يسوع لبطرس: «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد» (يو13: 7). وقد يبدو هذا غريبًا على القارئ العزيز، هذا لأننا تعودنا أن نستعمل هذه العبارة فقط لنعزي بها أنفسنا أو إخوتنا إن فاجئتنا الآلام والأحزان، لا إن جاءنا الخير والإحسان!! وهذا في حد ذاته فرض عليَّ أن أفكر في هذا الأمر الغريب، لماذا لا نستخدم هذه العبارة: ”لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد»، إذا فاجئنا الرب بالإحسان؟

 وقد رأيت، على قدر فهمي، أن هذا يرجع إلى أن الإحسان لا يخلق عندنا حيرة وتساؤلات كما تفعل فينا الآلام! فنحن لم نتعود أن نسأل الرب، عندما يحسن إلينا، أسئلة من هذا القبيل: لماذا يا رب أحسنت إليَّ كل هذا الإحسان؟ لماذا في هذا التوقيت؟ ولماذا أنا من دون بقية إخوتي؟ ما هو غرضك يا سيدي من وراء هذا الإحسان؟ وكيف أتصرف فيه؟

 وعلى العكس من هذا تمامًا تجدنا - إن فاجئتنا الآلام - محمَّلين بمثل هذه الأسئلة، بل وبعشرات نظيرها، والتي تخرج أحيانًا عن حدود الاستفهام إلى حدود الاستنكار أو ربما الاستجواب!

 هذا في حد ذاته يثير حيرتي، وبالطبع لا أتوقع من نفسي أو من إخوتي أن يكون حجم تأثرنا وانفعالنا وبالتالي أسئلتنا عندما يفاجئنا الرب بالإحسان، هو نفس حجم تأثرنا وحيرتنا عندما تفاجئنا الآلام، لكنني أتوقع على الأقل أن يكون هناك مجرد سؤال! فإن عدم التساؤل مطلقًا هو الذي يثير حيرتي. أ لسنا نؤمن أنه كما أن لإلهنا الحكيم غرضًا من وراء الآلام، حتمًا له أيضًا غرض من وراء الإحسان؟ ثم كم من مرات فاجئنا إلهنا بإحسان عظيم لم نفهم له غرضًا وقتها ولم نعرف له معنى يومها، لكن ثبت مع الأيام، أن ما بدا بلا غرض كان له غرض عظيم فهمناه فيما بعد؟! بل أكثر من هذا أ لم يحدث أننا عندما عدنا بالذاكرة لنفحص الإحسان الذي نلناه منذ زمان، تعجبنا من روعة وحكمة إله النجاة، إذ اكتشفنا الدقة المذهلة التي ميزت الإحسان، من حيث نوعه وحجمه وتوقيته، لكي يحقق بعد عدة سنوات الغرض الذي أرسل لأجله بصورة كاملة الإتقان ؟!

 كثيرًا ما سمعت شخصيًا من أخ أو أخت مثل هذه الاختبارات، لقد أرسل الرب إليَّ مبلغًا من المال لم أكن وقتها في احتياج إليه! وبعد أيام قليلة ظهر فجأة الاحتياج! وآخر يقول تعرفت صدفة على شخص ما، وضعه الرب في طريقي منذ عدة سنوات، وبعدها ببضعة شهور حدثت لي مشكلة ولم يكن هناك من يستخدمه الله لحلها سوى هذا الشخص الذي هداني الله لمعرفته! وثالث يقول دفعني الرب دفعًا للهجرة، وكانت يد الرب معي في كل الخطوات، ولم أكن أعرف لماذا. وبعد عدة سنوات اجتزت في مرض لم يكن ممكنًا علاجه في بلدي. وبالطبع ليس معنى هذا أن كل من هاجر سيمرض، أو أن وراء كل إحسان تجربة! بالطبع: كلا، ليس بعد كل إحسان تجربة، لكن حتمًا قبل كل تجربة هناك إحسان! إحسان هو المنفذ الذي أعده إله النجاة، لاحتمال التجربة عند حدوثها. نعم ما أروع إلهنا في قلبه! وما أروعه في حكمته! وما أجَّله في علمه وسلطانه! له منا كل العبادة والسجود.

 لكن يبقى، في اعتقادي، أن التساؤل الكثير عن الغرض من الآلام، مع عدم التساؤل مطلقاً عن الغرض من الإحسان، يكشف لنا عن شيء رديء وخطير يميِّز القلب البشري بعد أن شوهته الخطية وأفسده السقوط، وهو شيء يجدر بنا أن نتوقف عنده قليلاً.

 ففي اعتقادي أن هذا يرجع إلى أننا دائما وأبدًا، نرى أنفسنا أننا نستحق الإحسان، جديرون كل الجدارة به، وأننا أبدًا ما نستحق الآلام! فنحن نتساءل بكثرة، بل وتجدنا حائرين وربما أيضًا حانقين إذا سمح الرب لنا بالآلام! إذ أننا لا نرى شيئًا من العيوب والخطايا التي تملأ حياتنا، والتي تحتاج بشدة للألم للتنقية والتطهير، للتغيير والتجديد والنضوج. وعلى العكس من هذا لا تجدنا أبدًا متسائلين ولا حائرين إذا فاجئنا الرب بإحسان كنا لا نتوقعه! هذا لأننا، في غرورنا وكبريائنا، نرى أنفسنا في كل وقت جديرين بالإحسان مستحقين له! إننا نشعر في أعماقنا أن الأمر الطبيعي والعادي جدًا هو أن يحسن الرب إلينا! فنحن لسنا أقل من الذين سبق وأحسن إليهم! أو ربما نفكر أنه إن كان الرب لا يحسن إلينا نحن، فمن هم الجديرون بإحسانه غيرنا؟ إننا بمنتهى السهولة ننسى شرورنا وعصياننا، ننسى أصلنا وخطايانا، ننسى قداسة الله وعدالته، والذي إن عاملنا يومًا بعدله لن يكون من نصيبنا سوى القضاء والغضب لا النعمة والإحسان! لهذا كله تجدنا ليس فقط غير متسائلين إن فاجئنا الرب بالإحسان، بل ربما أيضًا غير شاكرين! هذا هو فساد القلب البشري.

 هذا يفرض علينا نظرة جديدة ومختلفة لإحسانات الله لنا، دعنا نتناولها فيما يلي تحت هذا العنوان:

 الإحسان: هل هو ملكية أم وكالة؟

 كيف كان ينبغي أن تنظر أستير لهذا الإحسان العظيم الذي وصلها فجأة؟

  • هل نظرت إليه على أنه نهاية أيام العناء وبداية أيام الهناء؟ أعتقد أن هذه نظرة قاصرة ضيقة تستبعد فكرة الغرض الإلهي من وراء الإحسان.
  • هل نظرت إليه على أنه نعمة عظيمة، لكن هذا ما يستحقه جمالها الأخاذ؟ أعتقد أنها لو كانت فكرت هكذا لكان هذا منتهى الغباء، إذ ما أكثر الجميلات اللواتي كن معها، كما أن أحشويروش لم تكن تنقصه الجميلات، فقد كان عنده بيت اسمه بيت النساء.
  • هل نظرت إليه على أنه إحسان عظيم هي غايته، وليس هو مجرد وسيلة لغاية أعظم؟ أعتقد أنها لو فكرت هكذا لكانت نظرتها طفولية تتمركز حول الذات، وأنانية تستبعد فكرة الوكالة على الإحسان.

 إذاً، كيف رأت أستير الإحسان الذي أحسن به الرب إليها عندما أوصلها للملك؟ كيف تنظر إلى المُلك، وإلى نفسها كملكة بعد مرور أربع سنوات من الوصول؟

 أنا لا أشك أن أستير كانت لم تزل تعيش اتضاعها الجم المعهود بها، ولم يصبها الإحسان بما أسميه: ”الذبحة الروحية“ والتي سأوضح معناها بعد قليل. لا لم تنظر للمُلك على أنه فرصة العمر لكي تعيش ملكة، لكن مجرد وسيلة تؤدي بها رسالة!

 كانت تشعر أن هناك رسالة مقدسة ستؤديها من وراء الملك. لكن الرسالة غامضة، ومعالمها غير واضحة، ولم تتمكن من قراءة سطورها حتى الآن. ولكن على الرغم من هذا صانت الملك، وصانت نفسها كملكة في اتضاعها، حتى يأتي اليوم الذي فيه تستطيع قراءة الرسالة وتتمكن من إتمامها!! وهنا يبرز دور مردخاي، وهنا تكمن أهمية رسالته لها.

 وهذه هي الخدمة العظيمة التي خدمها بها مردخاي في آخر سطور رسالته، إذ كشف لها عن غرض وصولها للملك، أي قرأ لها الرسالة التي لم تستطع قراءتها حتى الأن!

 وهنا أتوقف لأقول: كم نحتاج لهؤلاء الفاهمين المتدربين على قراءة المعاملات الإلهية، والذين يمكنهم بحق محو أمية إخوتهم الروحية، إذ يساعدونهم على قراءة رسائل أعمال العناية الإلهية التي تكشف لهم عن غرض الله في حياتهم. «والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور» (دا12: 3).

 والآن نعود لنسال أنفسنا: كيف ينبغي أن ننظر نحن لكل إحسان يُحسن به الرب إلينا؟

 هل ننظر إليه على أنه ملكية خاصة لنا؟

 أم ننظر للإحسان على أنه مجرد وكالة، وننظر لأنفسنا على أننا لسنا سوى وكلاء؟

 ولماذا لا؟ بل إنني أعتقد أن هذه النظرة هي رد الفعل الوحيد الصحيح لإحسانات الله لنا. فنحن لسنا هنا على الأرض لكي نعيش لأنفسنا، بل للذي مات عنا، أ لم يقل الكتاب: «وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو5: 15)؟ أوَ لم يقل أيضًا «لأن ليس أحد منا يعيش لذاته، ولا أحد يموت لذاته. لأننا إن عشنا فاللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن» (رو14: 7و8)؟

 لذلك أراه أمرًا يدل على الضحالة الروحية أن نكتفي بمجرد الشكر إزاء الإحسان، ولا نرفقه بالسؤال عن الغرض الذي لأجله جاءنا هذا الإحسان. حتى ولو كان هذا الإحسان هو شيء من أمور الزمان، والتي قد يراها الناس أشياء عادية يتمتع بها معظم البشر، كالزوجة والبيت والأولاد، الصحة والعقل، العمل والمال والنجاح، المسكن والسيارة.....ـألخ. أو أشياء روحية كموهبة ما، أو فتح الذهن لفهم الكتاب، أو محبة إخوتنا وتقديرهم الحبي لنا...إلخ. فالوضع الروحي الصحيح ازاء الإحسان في أي صورة من صوره أتخيله في مثل هذه الصلاة:

 ”يارب: شكرًا لك على ما أعطيتني، وأقر وأعترف أمامك بعدم استحقاقي لأي خير من عندك، لكن هذه هي دائمًا نعمتك! لذلك فأنا أعلم يا رب أني لست إلا وكيلاً على ما أعطيتني، فالكل منك والكل لك. وكم أحتاج أن أكون أمينًا وحكيمًا في وكالتي لكي ترضى عني وتباركني، فساعدني يا إلهي لكي أفهم غرضك مما أعطيتني، واعضدني بنعمتك لكي أكون أمينًا في إدارته لمجدك، حتى لا أخجل منك يوم الوقوف أمام كرسيك.

 وإذا لم يكشف الرب بسرعة عن غرضه من وراء الإحسان، فهذا لا يعني أبدًا أنه لا يوجد غرض، أو أن الغرض هو مجرد أن نستمتع بما أعطانا، وأن نتصرف فيه كما يحلو لنا. لكن حتمًا هناك غرض سيعلنه الرب في وقته. وإلى أن يأتي هذا الوقت الذي فيه سيكشف الرب عن غرضه، علينا أن نكون وكلاء أمناء.

 (يُتبَع)

ماهر صموئيل