سبق أن تأملنا في عددنا السابق عن عمل الروح القدس في الخليقة، وفي هذا العدد سننشغل بعمل الروح القدس في كُتاب الوحي، كما سنُبرز أيضًا العلاقة الوثيقة بين العملين.
يقول الرسول بطرس: «عَالِمِينَ هذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ. ٢١ لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (٢بط١: ٢٠، ٢١).
في الآية السابقة فإن كلمة ”مَسُوقِينَ“ من الروح القدس، هي الكلمة اليونانية “فيرو“، وهي الكلمة ذاتها التي وردت في الترجمة السبعينية لكلمة “يَرِفُّ“ المذكورة في تكوين ١: ٢. ففي البداية كان روح الله يَرِفُّ على وجه المياه لعمل الخليقة المادية، وهنا نجد روح الله أيضًا يُحرك أواني الوحي لإخراج الكتاب المقدس؛ إعلان الله العجيب.
ونحن نعلم أن الروح القدس لم يُوجد الخليقة فقط، بل أبدعها أيضًا وزينها، هكذا أيضًا بالنسبة لكتاب الوحي المقدس. فإن كانت الخليقة هي كتاب الله المنظور، فإن الكتاب المقدس هو كتابه المسطور.
هذه الآية، تُعتبر على قمة الآيات التي تُوضح الوضع الخاص المُميَّز للروح القدس في مسألة وحي الكتاب. وهي في الوقت ذاته من أعظم الأدلة على لاهوت الروح القدس، فلا يمكن لمخلوق أيا كان أن يُسيطر على أفكار البشر الذين كتبوا الوحي، ويجعلهم يكتبون ذات أقوال الله، الخالية تمامًا من أي خطأ.
ثم إن هذه الآية بالإضافة إلى ذلك توضح لنا فكرتين هامتين: الأولى أن الكاتب كان محمولاً بالروح القدس، يوجهه حيث يشاء، وأنه أيضًا لم يكن محمولاً بأفكاره هو الشخصية، المُسبقة عن هذا الموضوع.
وبطرس أيضًا في رسالته الأولى تحدّث عن دور الروح القدس وعمله في أنبياء العهد القديم الذين كانوا أواني الوحي، فقال عنهم: «بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا» (١بط١: ١٠، ١١). من هذا نفهم دور الروح القدس في الأنبياء عندما كانوا يقومون بخدمتهم لشعب الله. وهو ما أكده أيضًا الأنبياء أنفسهم في أسفار العهد القديم، فقال داود: «رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (٢صم٢٣: ٢). واضح هنا لاهوت الروح القدس أيضًا. فكلمة الله يُقال عنها في هذه الآية إنها كلمة الروح القدس، لأن الروح القدس هو الله. كما قال ميخا النبي أيضًا: «لكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقًّا وَبَأْسًا، لأُخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ» (مي٣: ٨)؛ ومع أن مزمور ٩٥ لا نعرف له بحسب سفر المزامير كاتبًا بشريًا، لكن من عبرانيين ٣ نفهم أن كاتبه ليس فقط داود النبي، بل هو الروح القدس نفسه.
* * * * *
وهناك فصل من أبرز الفصول في العهد الجديد التي تُوضح لنا الدور الذي يشغله الروح القدس في الإعلان والوحي والإدراك لأقوال الله؛ أعني به ١كورنثوس ٢: ٩-١٣ حيث يقول الرسول بولس:
«مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ. لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ».
في هذه الأقوال نجد الفارق بين أمرين وثيقي الصلة ببعضهما، هما: الوحي والإعلان. الإعلان مشغول بالمحتوى، وأما الوحي فمشغول بالتركيب. ومن الأهمية بمكان أن ندرك أنه في كلمة الله فإن المضمون إلهي (وهذا هو الإعلان)، والكلمات ذاتها إلهية (وهذا هو الوحي).
في الأعداد السابقة توجد آية هامة، كثيرًا ما أُسيء فهمها، وهي: «قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ»؛ يفهمها البعض خطأ بأنها تعني مُقارنين الرُّوحيَّات بالرُّوحيَّات، أو مُقارنين أقوال الكتاب المقدس ببعضها. وهذا في حد ذاته حسن وجميل، لكنه ليس معنى هذه الآية، بل إنها تعني موصلين الأفكار الروحية (الإعلان الذي أعطاه الله للأنبياء)، بأقوال روحية (هي ذات وحي الله).
وبعد دور الإعلان والوحي في أناس الله القديسين، يأتي دور المؤمن كمُتلقّن لتلك الأفكار (١كو٢: ١٤، ١٥)، فيُوضح الرسول أن الروح نفسه الذي تكلَّم من خلال الأنبياء، هو الذي يعمل في قلوبنا وعقولنا ليجعلنا نؤمن بأن هذا هو إعلان الله، ويُنير لنا الفهم من جهة المكتوب، وبدون ذلك يظل العقل في حيرة وارتياب، ولا يقدر أن يقف على صخرة الإيمان الراسخة، بل تُحيط به رياح الشكوك العاتية من كل جانب.
لهذا فإن الرسول في ع١٠ من الفقرة السابقة لا يقول: “فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِكَلِمَتِهِ“، بل «فَأَعْلَنَهُ (اللهُ) لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ»؛ فالروح القدس يستخدم الكلمة لتوصيل أفكاره إلينا. فأقوال الله هي عربات لتوصيل أفكاره إلينا. وهذا يُبين لنا ضرورة دراسة كل جزء في الكتاب المقدس. كما أنه يوضح لماذا يُسمى المكتوب: ”سَيْفَ الرُّوحِ“ (أف٦: ١٧). ونحن بالإجمال لن يُمكننا أن نفهم الكتاب المقدس إلا بالروح القدس عينه، الذي أوحى للأنبياء والرسل بكتابته.
* * * * *
هناك أيضًا آية هامة عن هذا الموضوع في ١تيموثاوس ٤: ١ «وَلكِنَّ الرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحًا». من هذه الآية نتعلَّم شيئين:
الأول: أن ما نقرأه في الكتاب المقدس هو كلام الروح القدس.
والثاني: أن ما يقوله الروح القدس هو كلام صريح، لا لبس فيه ولا غموض. ولهذا فإننا نقول إنه يُخطئ بل ويُجدف مَن يقول إن الكتاب المقدس يُمكن أن يُفسر بتفاسير عديدة، حسب ذوق الإنسان، فهذا فكر شيطاني، القصد منه تحويل البشر عن قراءة كلمة الله لئلا يتوبوا.
وفي سفر الأعمال نجد أن الرسول بطرس في أول السفر يشهد لعمل الروح القدس في الوحي «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلاً لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ» (أع١: ١٦)؛ وفي آخره يشهد الرسول بولس لذلك أيضًا «إِنَّهُ حَسَنًا كَلَّمَ الرُّوحُ الْقُدُسُ آبَاءَنَا بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ قَائِلاً: اذْهَبْ إِلَى هذَا الشَّعْبِ وَقُلْ: سَتَسْمَعُونَ سَمْعًا وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَسَتَنْظُرُونَ نَظَرًا وَلاَ تُبْصِرُونَ» (أع٢٨: ٢٥، ٢٦). وعلى طول السفر يمتلئ بالأدلة على وحي كلمة الله.
كما أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين أشار إلى أقسام العهد القديم الرئيسية الثلاثة؛ أسفار موسى والمزامير والأنبياء، وقال إنها هي أقوال الروح القدس (عب٣: ٧؛ ٩: ٨؛ ١٠: ١٥).
ولا يمكن أن نتحدث عن هذا الموضوع دون الإشارة إلى أهم وأوضح الآيات عن الوحي في الكتاب، وأعني بها ما ورد في ٢تيموثاوس ٣: ١٦ «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ». وعبارة ”مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ“ تعني ”أنفاس الله“. فالله بِنَسَمَةِ فِيهِ كوَّن السماوات (مز٣٣: ٦)، وبذات النفخة كوَّن الكتاب.
إننا نرفض بشدة القول إن الكتاب المقدس يحتوي على كلمة الله، كما لو كان يحتوي على أشياء أخرى. بل إننا نقول عن يقين إن الكتاب المقدس هو كلمة الله ذاتها. كلا، لا يوجد في كلمة الله تبن وحنطة، بل كلها حنطة. فحقًا «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ» (٢تي٣: ١٦)؛ «لأن كل ما سبقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأجل تعليمنا» (رو١٥: ٤).
والمسيح عندما اقتبس جزءًا من سفر المزامير، يعتبره البعض أنه غامض، فإنه رغم ذلك قال كلمة حاسمة ما أروعها: «لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ» (يو١٠: ٣٥؛ ارجع إلى مزمور ٨٢: ٦)! ونحن أحيانًا نسمع مثل هذه العبارات: إن هذا التعليم غير مهم، أو أنه غير مؤكد، لأنه لم ترد عنه سوى آيات قليلة، ونحن نرد على هؤلاء وأولئك بالقول الذي نطق به سَيِّدنا: «لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ».
مقارنة بين عمل الروح القدس في الخليقة، وعمله في كتابة الوحي:
لا شك أن دراسة الكتاب المقدس باعتناء وتوقير، ستجعلنا نكتشف توافقًا رائعًا بين معلنات الكتاب وحقائق الطبيعة، لأنه أَ ليس هما (كتاب الطبيعة وكتاب الوحي) كتابين لكاتب واحد؟
ثم إننا إن كنا نرى تصميمًا بديعًا في أبسط أشكال الخليقة المادية: في الخلية الحية أو في الذرة الممتلئة بالحركة، فبلا شك أنه سيمكن للباحث الصبور أن يجد تصميمًا أروع وأبدع في كلمة الله التي عظمها على كل اسمه (مز١٣٨: ٢).
مقارنة بين عمل الروح القدس في خلق الإنسان، وعمله في كتابة الوحي:
إن نفخة الله التي نفخها في أنف آدم ميَّزته عن باقي المخلوقات، ورفعته إلى إنسان على صورة الله وشبهه. هكذا رفعت تلك النفخة عينها الكتاب المقدس (٢تي٣: ١٦) عن باقي الكتب. فكلامه روح وحياة (يو٦: ٦٣)، وكلمته حية وفعالة (عب٤: ١٢).
مقارنة بين عمل الروح القدس في ولادة المسيح، وعمله في كتابة الوحي:
كما أن الله المتجسد؛ الكلمة الحي، له جانبان متميزان غير ممتزجين: هما لاهوته وناسوته، هكذا أيضًا الكتاب المقدس؛ الكلمة المكتوبة، لها جانبان: وحي الروح القدس، والعنصر البشري (ولا نقول الضعف البشري)، تمامًا كما كان للمسيح ناسوت بلا خطية. وكما حلَّ الروح القدس على المُطوَّبة مريم، وضمن أن يكون هذا الناسوت بدون أدنى علاقة بالخطية، هكذا حلَّ الروح القدس على أواني الوحي، فأنتج كلمات إلهية، وضمن ألا يكون فيها أي خطأ، بل يكون وحيًا معصومًا.