هذا الأصحاح (يوحنا 10) يتضمن واحدًا من أعذب إعلانات الرب عن نفسه، والتي يذخر بها هذا الإنجيل, وأقصد به إعلانه أنه ”الراعي الصالح“. وهو ورد ضمن سبعة إعلانات في هذا الإنجيل عن المسيح، كالآتي: أنا هو ”خبز الحياة“، أنا هو ”نور العالم“، أنا هو ”الباب“، أنا هو ”الراعي الصالح“، أنا هو ”القيامة والحياة“، أنا هو ”الطريق والحق والحياة“، أنا ”الكرمة الحقيقية“.
والإعلان عن المسيح ”الراعي الصالح“ يمثل بين هذه الإعلانات، أوسطها. ونظرًا لأهميته فإنه يتكرر في هذا الأصحاح ثلاث مرات (في ع11 مرتان، وفي 14). وتعبير ”الراعي“ يتكرر في الأصحاح ست مرات، وأما تعبير ”الخراف“ فإنه يُذكر في الأصحاح 16 مرة، بالإضافة إلى مرة تُسمى ”رعية“.
المسيح هو الراعي
وتعبير ”الراعي“ هو تعبير إلهي. فيخبرنا العهد القديم، في العديد من الفصول، أن الرب هو راعي شعبه؛ فيقول عنه يعقوب أبو الأسباط: ”عزيز يعقوب .. الراعي صخر إسرائيل“ (تك49: 24)؛ ويقول عنه داود: ”الرب راعيَّ“ (مز 23: 1)؛ كما يقول أيضًا: «يا راعي إسرائيل اصغَ. يا قائد يوسف كالضأن.. أشرق» (مز 80: 1). كما يقول عنه إشعياء: «هوذا السيد الرب بقوة يأتي، وذراعه تحكم له... كراعٍ يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات» (إش 40: 10، 11)؛ ويقول إرميا: «مُبَدِّدُ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُهُ وَيَحْرُسُهُ كَرَاعٍ قَطِيعَهُ» (إر 31: 10). كما يقول حزقيال النبي: «لأنَّه هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الربّ: هَأََنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا. كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسَطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ, هَكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ» (حز 34: 11، 12). بل إن رب الجنود قال عنه بحسب نبوة زكريا: «استيقظ يا سيف على راعيّ، وعلى رجل رفقتي... اضرب الراعي» (زك 13: 7).
وعندما نصل إلى العهد الجديد، ونكتشف أن المسيح هو الراعي، فليس ذلك إلا لأن المسيح هو الرب. وهو الأمر الذي يملأ صفحات الوحي طولاً وعرضًا، بل هو ما أعلنته السماء عند ولادة المسيح: «أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم، في مدينة داود، مخلص، هو المسيح الرب» (لو2: 10، 11).
وأما عن مهنة الراعي فإن الكتاب المقدس يحدثنا عن سبعة رعاة، ستة منهم في العهد القديم. ومن هؤلاء الستة نجد ثلاثة في سفر التكوين، واثنان في بقية الأسفار التاريخية، وواحد في الأسفار النبوية، وهم: هابيل، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وعاموس. وأما راعي العهد الجديد، الراعي رقم 7، فهو أعظمهم بلا شك، وهو الذي حوى جميع أوصاف الكمال. إنه هو ربنا يسوع المسيح.
المسيح هو الراعي الصالح
بين رعاة سفر التكوين الثلاثة يمكننا تتبع هذه الأفكار الجميلة: فلقد مات هابيل شهيدًا، وكأننا في هابيل نرى موت الراعي؛ بينما في يعقوب نجد سهر الراعي (تك30: 31؛ 31: 38-40؛ 33: 13، 14)؛ وأخيرًا في يوسف نجد سمو الراعي.
وفي العهد الجديد نقرأ عن ثلاثية جميلة بخصوص المسيح باعتباره الراعي: وأول هذه الثلاثية هو موضوع حديثنا الآن، وأعني به ”الراعي الصالح“. ثم في عبرانيين 13: 20 نقرأ عن ”راعي الخراف العظيم“. وأخيرًا في 1بطرس 5: 4 نقرأ عن ”رئيس الرعاة“.
وعبارة ”الراعي الصالح“ تأخذ فكرنا إلى الصليب، حيث الراعي الصالح بذل نفسه عن الخراف؛ وعبارة ”الراعي العظيم“، تأخذ فكرنا إلى القيامة، حيث إله السلام أقام من الأموات ربنا يسوع المسيح، راعي الخراف العظيم، بدم العهد الأبدي؛ وأخيرًا فإن عبارة ”رئيس الرعاة“ تأخذ فكرنا إلى ظهور المسيح عن قريب بالمجد. فما أسعدنا به عندما أتى لأجلنا ومات فوق الصليب، وعندما قام وصعد فوق جميع السماوات لحسابنا، وعندما يظهر ثانية لأجل خلاصنا، وعندها سيكافئ الرعاة الأمناء. فحقًا ما أغنانا بمحبته وقوته ومجده!
لقد مات هابيل، لكن موته لم يكن عن الخراف. وفي الحقيقة يمكن القول بالنسبة لهابيل إن الخراف هي التي ماتت نيابة عنه (تك 4: 4). وبالتالي فليس هابيل الراعي الصالح.
ويعقوب رغم اعتنائه بالغنم وسهره عليها، فإننا نقرأ عن الشاة المفترسة والمسروقة، التي كان يعوِّض لابان عنها، ولكن من الذي عوَّض الشاة عن حياتها التي افتُرست؟ وعليه فلا يمكن أن يكون يعقوب هو راعي الخراف العظيم.
ثم في يوسف، الرمز الجميل عن المسيح، والذي أول ما يُقال عنه إنه كان ”يرعى الغنم“. لكن سرعان ما نجد أباه يعفيه من مهمة رعاية الغنم، ولم تعد له علاقة بالغنم ولا بالرعي، وبالتالي فلا يمكن أن يكون يوسف هو ”رئيس الرعاة“.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن موسى، الذي سقى الغنم، وحمى ورعى؛ وكذلك عن داود، الذي وإن كان قد خاطر بحياته لينقذ شاة، لكنه لم يمت فعلاً عن الخراف. ثم عندما تربع على العرش، أكل نعجة الرجل قريبه.
وهذا كله يعظِّم شخص المسيح أمام عيوننا، وهكذا يبقى الرب يسوع متفردًا، وفوق الجميع.
الراعي الصالح يبذل نفسه
لقد وردت الإشارة الأولى لكلمة ”صالح“ في العهد الجديد في متى 3: 10، وتُرجمت هناك: شجرة ”جيدة“، إشارة إلى الطبيعة الجديدة. ثم إننا في إنجيل يوحنا نجد الكلمة عينها، عندما نقرأ عن تحويل المسيح الماء إلى الخمر، وهي تلك الخمر التي قال عنها رئيس المتكأ ”الخمر الجيدة“. إنه لم يقل إنها الخمر الأفضل فقط، ففي الحقيقة لا وجه للمقارنة بين ما يقدمه المسيح وما يقدمه غيره. وبنفس الأسلوب يمكننا أن نفهم هنا تعبير ”الراعي الصالح“، وليس الراعي الأفضل، فلا وجه للمقارنة بينه وبين غيره.
إن الراعي عادة يفكر ماذا يمكن أن يعمل بحياته لصالح الخراف، وأما المسيح فقد تجاوز ذلك، إذ كان تفكيره ماذا يعمل لصالح الخراف بموته. أن يهتم الراعي بصوالح الخراف فهذا معناه أنه صالح بمفهوم البشر، وأما أن يموت الراعي لأجل الخراف، فهذا هو الصلاح بالمفهوم الإلهي.
وفي تعبير ”الراعي الصالح“، نجد محبة المسيح التي عبَّرت عن نفسها في بذل نفسه. ونحن نعلم أن هناك مخاطر قد يتعرض لها المشتغلون ببعض الأعمال أثناء قيامهم بعملهم، هي ما تسمى ”مخاطر العمل“، والبشر عادة يحصلون على بدلات تعوضهم عن تلك المخاطر الطارئة. ولكن لو علم أي واحد من هؤلاء أنه سيفقد حياته فعلاً في هذا العمل أو ذاك، لما أقدم عليه أصلاً، مهما ضاعفت له البدلات. وأما المسيح فلم يتعرض لمخاطر دون علم من جانبه، بل واجهها بكامل اختياره. في الواقع إن المسيح لم يتعرض لمخاطر، بل بذل نفسه.
ونحن لم نسمع أن إنسانًا مات برضاه لأجل الخراف. وأما أن يموت الله لأجل البشر، فإن التضحية في هذه الحالة، تفوق المدارك وتسبي العقول!
مباينات بينه وبين السارق والأجير والذئب
يخبرنا المسيح في هذا الفصل أنه أتى بكامل اختياره ليضحي بنفسه عن الخراف. ليس فقط ليضع حياته لأجل الخراف بالموت، بل أيضا ليعطي للخراف حياته بالقيامة، فيقول: «السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك، أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل».
لقد أتى المسيح ليكون للخراف حياة، ويعطيها لهم فائضة وبوفرة، وذلك بناء على عمله الذي كان أمامه دائمًا وهو على الأرض. صحيح هو بعد القيامة فقط أمكنه نفخ نسمة حياته في تلاميذه. هذه النفخة التي تذكِّرنا بما عمله الرب الإله في آدم في البداية، إذ نفخ فيه نسمة حياة، فاختلفت حياة آدم عن كل أنواع الحياة التي سبقتها. وهكذا المسيح هنا، فقد أعطى تلاميذه، ليس فقط حياة مختلفة عن كل ما سبقها، بل أيضًا أسمى منها. إنها الحياة الأبدية، وذلك بعد أن عالج بموته مشكلة الخطية والناموس بالنسبة للإنسان. إذًا فهو أتى ليكون للخراف حياة، ولهذا كان ينبغي أنه يموت ثم يقوم، وهو ما سيتحدث عنه الرب في هذا الأصحاح.
ونلاحظ كيف يضع المسيح في هذه الأقوال مباينة بينه وبين السارق، إذ يقول: «السارق لا يأتي إلا.. أما أنا فقد أتيت». بالنسبة له، هو أتى مرة واحدة، وأكمل العمل، إذ أعطى حياته للخراف. وأما السارق ففي كل فرصة يمكنه فيها أن يأتي، فإنه يأتي ليأخذ الحياة من الغنم: ”يسرق ويذبح ويهلك“. فالسارق مُتربِّص – دائمًا وأبدًا – بالغنم، ولولا أننا نتمتع برعاية ذلك الراعي العظيم المقام من الأموات، من فينا كان يمكنه بمفرده أن يكمل المسيرة إلى السماء!
وأما الأجير فإنه ليس شريرًا مثل السارق، ومع ذلك فإنه لا يُبالي بالخراف. إنه لا يهمه سوى مصلحته الشخصية، ولذا فإنه في وقت الشدة، وعندما تكون الخراف المسكينة أحوج ما تكون إليه، فإنك تجده يتخلى عن الخراف. والرب هنا يفارق بين الراعي والأجير. فكم بالحري عندما تكون المبانية بين الراعي الصالح والأجير. إن الأجير يضحي بالرعية لأجل سلامته، بينما الراعي الصالح يضحي بنفسه لأجل الرعية!
وأما بالنسبة للذئب فإنه يمثل العدو الأكثر خطورة على الغنم. والرب لا يقول هنا إن الذئب يفترس الخراف أو يبتلعهم، لأن خراف المسيح الحقيقية لن تهلك. وعادة لا يقدر الذئب أن يفترس أكثر من خروف واحد، ولكن بقية الخراف ستتشتت وتهرب. وهكذا فإن الشيطان، مستخدمًا خدامه (أع20: 29)، يعمل عمل الذئب الذي لا يشفق على الرعية، فيخطف الخراف ويبددها. هكذا الشيطان، وهكذا خدامه يعملون. على العكس منهم الراعي الصالح الذي يجمع، وهكذا كل الرعاة الأمناء يجمعون الرعية معًا حول راعيهم العظيم.
وأخيرًا فإننا نقول بصدق: ما أسعدنا بالراعي الصالح، وما أشد أمننا ونحن في رعاية الراعي العظيم!
إن الله في الخليقة إله قدير،
وفي أعمال العناية إله حكيم،
وفي الشريعة إله عادل،
وفي شخص الرب يسوع إله محب. |
(يُتبَع)