نزول الروح القدس، وما صاحبه من ظواهر
إن هذا الحق لم يكن ممكنًا أن يُعرف إلى أن نزل الروح القدس، الذي نقرأ عنه الآن «كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين.... وامتلأ الجميع من الروح القدس». لنلاحظ شيئين هنا، الأول: أن كل البيت امتلأ، كما أن جميع التلاميذ امتلأوا من الروح القدس «وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا». في عدد4 نجد التحقيق الكامل لما قاله الرب عن المعزي في يوحنا14 «ماكث معكم، ويكون فيكم» (ع17). فحينما ملأ البيت، كان معهم، وحينما ملأهم شخصيًا كان فيهم. عندما كان يسوع على الأرض كان «الله معنا». وعندما مات على الصليب لأجل خطايانا، ثم أقامه الله من الأموات، ظهر بأجلى بيان الحق المبارك أن ”الله لأجلنا“. أما الآن، فنحن نصل إلى الحق الجوهري للمسيحية، وما هو ذلك الحق؟ إنه ”الله فينا“. نعم أيها الأحباء، إن الله الروح القدس ساكنًا فينا، هو حق لا يُضاهى في أهميته.
هذا المشهد لا بد أنه كان عجيبًا ومدهشًا. جماعة مكونة من مائة وعشرين مؤمنًا، يُرَوْن منحنين في الصلاة أمام الرب، وبغتة صار ذلك الصوت من السماء، كما من هبوب ريح عاصفة. كان الصوت مسموعًا، لكن فيما يختص بالبيت لم يُرَ شيء. إن الله يشهد عن حضور هذا الشخص الإلهي الجديد- جديد، كما أعني، بالنسبة لوجوده على الأرض. نعم، إنه شخص إلهي في صفة جديدة تمامًا، وكيفية جديدة، موجود على الأرض. إن الله يشهد عن هذا الحق أول الكل بواسطة «من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة». ثم إن ما حدث كان محسوسًا؛ لأنه «ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين». ثم «ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم». بذلك نجد الحق الفريد عن الروح القدس ساكنًا بشخصه داخل الكنيسة، ثم نجده بعد ذلك مستقرًا على كل واحد شخصيًا.
لماذا نجد هنا الروح القدس آخذًا هيئة «ألسنة منقسمة كأنها من نار»؟ عندما نزل الروح القدس على يسوع عند معموديته، كان «بهيئة جسمية مثل حمامة» (لو 3: 22)، في توافق حلو مع صفة الرب وإرساليته. كان في شخصه طاهرًا وقدوسًا وبلا خطية، كما أن خدمته كانت ذات طابع مسالم وغير مقتحمة. كان وديعًا وهادئًا. «لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ» (مت 12: 20،19).
لكن من الوجهة الأخرى، فإن الألسنة المنقسمة كأنها من نار دلت على الشهادة الجسورة الثابتة غير المهتزة والشاملة، التي تنتشر في كل العالم. وإني أعتقد أن لسان النار الذي شوهد على رأس كل واحد، لم يكن فقط لهيب منقسم ذا شعبتين، بل إن اللسان الذي كما من نار، كان له أجزاء كثيرة متشعبة، كما تعني الكلمة اليونانية في الأصل. حتى ذلك الوقت كانت شهادة الله محصورة في أمة واحدة، وبلغة واحدة. أما الآن، وبواسطة الروح القدس، كان يجب أن تذهب شهادة الله إلى أقصى الأرض، وإلى كل أمة عليها. لكن لماذا «ألسنة منقسمة كأنها من نار»؟ يعتقد كثير من الناس أن النار تعني القوة والبركة. ليس ذلك هو المعنى المقصود في الكتاب المقدس. فالنار هي دائمًا رمز للعمل النافذ والفاحص الخاص بقداسة الله. وليس هناك شيء يستطيع أن يخترق أعماق الإنسان ويفحصه مثل: الكلمة بقوة الروح القدس. إنك إذا كنت خاطئًا تائبًا، فأنت تعرف ذلك. إن كل شخص مُخَلَّص يستطيع أن يرجع إلى الوراء إلى الوقت الذي فيه توغلت كلمة الله مدفوعة بالروح القدس، كمكواة محماة لدرجة الإحمرار إلى ضميره في أعماق كيانه الأدبي. إذا كنت ياصديقي تتجنب «نار» روح الله على الأرض، فستعرف سريعًا - آه وسريعًا جدًا- في أعماق الجحيم ما تعنيه النار. ينبغي أن تعرف ”النار“ هنا أو هناك. يجب أن تشعر بنار الروح القدس التي تذلك، وتقنعك بخطيتك، وتحرق كبرياءك الآن، أو النار الأبدية التي لا تطفأ أبدًا، والتي سيطرح فيها الخاطئ غير التائب بسبب غباوته وخطيته. لاحظ يا صديقي! لا بد أن تقابل النار في مكان ما. ليت الله يعطيك نعمة لكي تقابلها الآن في يوم الروح القدس - يوم النعمة. إن الأصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل، لا يوجد فيه إلا النعمة.
ثم نقرأ عن التلاميذ «وامتلأ الجميع من الروح القدس». لقد أتى الروح القدس لكي يسكن فيهم كروح القوة، وروح الشهادة «ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم» (أع 1: 8). إن المؤمن في الحقيقة ليس له أية قوة، إلى أن يقبل الروح القدس. ولنلاحظ أنه لا يقبل الروح القدس لكي يصبح مؤمنًا، إنه يسكن فيه بعد أن يصير مؤمنًا. لا شك أن الروح القدس هو الذي في البداءة يبكتك ويقودك إلى إدانة نفسك، وأن تتوب، وأن تؤمن بالإنجيل، لكن ذلك يُعمل بطريقة مختلفة تمامًا عن إتيانه إلى المؤمن، ليسكن فيه كعطية الله.
لذلك يقول الرسول بطرس: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس» (ع38). ومرة أخرى في الأصحاح الثامن من الأعمال، يقول بطرس لسيمون الساحر: «لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تقتني موهبة (أو عطية) الله بدراهم!» (أع 8: 20). إن بيت القصيد من هذا الفصل، هو الإتيان الشخصي للروح القدس. إن القوة للتكلم بألسنة والقوة لعمل المعجزات والقوة للكرازة، كانت كلها علامات ونتائج حضور الروح القدس. إن قبوله شخصيًا هو الأمر الهام في أعمال2. إن العطية نفسها هي أعظم بما لا يقاس من أي تأثير قد تنتجه. لقد قبلوه آنذاك «وامتلأ الجميع من الروح القدس».
نتائج حضور الروح القدس
لننظر الآن إلى النتائج. أولاً: (ع4) «ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا». إن هذا التأثير العجيب لحضور الروح القدس جعل الجمهور يجتمع. وهنا نجد هذه الشهادة التي لا نجدها في أى مكان آخر في الكتاب. إن رحمة الله على وشك أن تصل إلى الجماهير، بنفس الألسنة التي في قضائه العادل، قضى بها على الناس في القديم (تك11). إنه أمر عجيب وجدير بالاعتبار، أن أُناسًا من كل أمة تحت السماء كانوا حاضرين. وإن جاز لي التعبير أقول، أن الله يدق جرس الكون العظيم؛ لكي يجمع معًا هذه الجماعة المختلفة كي يسمعوا عن ابنه. «فلما صار هذا الصوت، اجتمع الجمهور وتحيروا، لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته». كان معظمهم يهودًا، أو دخلاء (أعني أممًا متهودين)، وقد ملئت أذهانهم كل أنواع الظنون والأفكار، «بُهت الجميع وتعجبوا قائلين بعضهم لبعض: أتُرى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليين؟ فكيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التي وُلد فيها؟ .... نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله!». ولكن عن ماذا كان خدام الرب يتكلمون؟ بلا شك عن يسوع، وليس أنفسهم. في ذلك اليوم شَكَّلت «عظائم الله» رسالتهم المجيدة والرائعة، حيث كشفوا بلغات كثيرة الحق الخاص بمحبة الله والموت العجيب لابنه، والطريقة التي بها تمجد الله بهذا الموت.
مقارنة مع تكوين 11
هل قارنت هذا المشهد بأصحاح شهير في العهد القديم، هو الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين؟ أرجو منك أن ترجع إليه لأن التباين جميل جدًا. هناك نقرأ «وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة. .... وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لِبنًا ونشويه شيًا. وكان لهم اللِبن مكان الحجر، وكان لهم الحُمَر مكان الطين. وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء». إنهم لم يصلوا إلى هناك أبدًا، لقد أرادوا أن يصلوا إلى هناك باللِبن والحُمر، وكيف يأخذنا الله إلى السماء؟ إنه يضع المسيح أولاً هناك، ثم يرسل الروح القدس؛ لكي يربطنا معه في السماء. يعتقد بعض الناس في وقتنا الحاضر أنهم سيصلون إلى السماء «باللِبن والحُمر»؛ أي بالعمل الشاق لأجل الخلاص. إن الأعمال والفرائض والطقوس تأخذ مكان المسيح في كفاحهم للوصول إلى السماء. صديقي، يا من تتكل على «اللِبن والحُمَر»، إنك لن تجد نفسك في السماء إطلاقًا، لكن في مكان آخر تمامًا. إن المسيح هو طريق الله للسماء. والإيمان وليس الأعمال، هو وحده الذي يستطيع أن يوصلك إلى هناك.
لكن هؤلاء البنائين في بابل يتقدمون إلى القول: «نصنع لأنفسنا اسمًا؛ لئلا نتبدد على وجه كل الأرض. .... وقال الرب: هوذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يَمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دُعي اسمها (بابل)؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض» (تك 11: 1-9). وبالمناسبة دعني أقول لك يا صديقي، المتكل على «اللِبن والحُمَر»، من الأفضل لك أن تكف عن البناء أيضًا. ومن الأفضل أن تأتي إلى يسوع وتجعله يخلصك.
ربما تسأل: ”وما علاقة كل هذا بما جاء في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال؟“ إن بلبلة الألسنة (في تكوين 11)، كانت دينونة الله العادلة على كبرياء الإنسان الأول. لكن نزول الروح القدس، وسكناه في المائة والعشرين تلميذًا، وتمكينهم من التكلم بكل لغة تحت الشمس عن يسوع - كان الجواب العادل لله، الإنسان المتواضع المطيع، الذي نزل إلى الموت، ليس ليجعل لنفسه اسمًا، لكن ليجعل لله اسمًا، ولكي يعطي لله وثيقة عادلة لكي يأخذ اسمًا جديدًا تمامًا هو ”الله مخلصنا“. لذلك، أنتم ترون في أعمال2، عمل الإنسان الثاني - الرب يسوع - مُقَيَّمًا بالميزان الإلهي، حائزًا على تقدير الله ومصادقته. وكنتيجة لطاعته واتضاعه وتمجيده لله حتى في الموت، فإن ميزان القدس الذي فيه وُزن الإنسان، قد تحول لصالح الإنسان. وقد نزل الروح القدس؛ لكي يتغلب على المشكلة التي جلبتها خطية الإنسان الأول. إنه في اللحظة التي تمكن فيها هؤلاء الجليليين العاميين بواسطة الروح القدس، أن يتكلموا بكل هذه اللغات عن محبة، ومجد الإنسان الثاني؛ آدم الأخير، الذي دخل إلى السماء بعد أن أكمل أول كل شيء عمل الفداء، كان ذلك شهادة رائعة لتقدير الله لحياة الرب يسوع وموته.
نبوة يوئيل
وإذ نعود إلى الأصحاح الثاني من سفر الأعمال، نجد أن نتيجة هذا التضاد لما حدث في تكوين11 كان: «فتحير الجميع وارتابوا قائلين بعضهم لبعض: ما عسى أن يكون هذا؟ وكان آخرون يستهزئون قائلين: إنهم قد امتلأوا سلافة (أو خمرًا جديدة)» (ع13،12). لكن بطرس ممتلئًا من الروح القدس، رفع صوته وقال: «هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون، لأنها الساعة الثالثة من النهار. بل هذا ما قيل بيوئيل النبي: يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ... ألخ». لاحظوا أن بطرس لا يقول أن هذا إتمام لنبوة يوئيل في تحقيقها الكامل والتام، بل يقول «هذا ما قيل» إن ما قيل في يوئيل، سيكون له الإتمام الأوسع والمطلق في يوم قادم. إن ما رأوه هو ما قاله يوئيل؛ أي ما سبق وأنبأ به بمعنى معين.
(يُتبَع)