أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
نوافذ على الفردوس ديفيد جودنج أي رجاء يُمكن أن يُقدّمه الرب يسوع المسيح لأُناس شوَّهتهم الحياة، أو رفضهم المجتمع؟ هل في إنجيله أجوبة عن أسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية؟ يقول إن له الحق في الحُكم، ولكن أي نوع من الملوك هو؟ وما الفرق الذي تُحدثه مملكته في العالم الآن؟ يُقدِّم لوقا في إنجيله مشاهد من حياة غير مُنصفة، مُظهرًا المسيح كالبطل الذي يَهُبّ إلى نجدة المنبوذين والمظلومين، الذي جاء ليطلب المُحتاجين المعوزين ويستردهم، ويجعلهم له إلى الأبد. يقول لوقا إن الأسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية، تجد إجابتها في المسيح، ويُوضِّح أنه وجد في المسيح الشخص الجدير بإدارة حياته ومصيره. من خلال جمع العتيد من هذه المشاهد معًا، يُقدِّم ”ديفيد جودنج“ نظرة عامة على المحاور الرئيسية في إنجيل لوقا، كل قصة في حد ذاتها، تُظهر أن إنجيل المسيح لا يتجاهل حقائق الواقع الصعبة. والنظر للمشاهد مُجتمعة، يُظهِر أن الفردوس الذي تحدَّث عنه المسيح حقيقي أكثر مما نتخيل، وأن الذي وعدنا بالحياة والراحة هو أمين فوق كل ما يُمكننا أن نرجوه. والكتاب في ١٨١ صفحة ومتوافر في مكتبة الإخوة نشجعك على اقتنائه ودراسته
 
 
عدد نوفمبر السنة 2023
أَخْآبُ ويَهُوشَافَاطُ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

(١) المساومة بكلمة الرب (ع١-٤)

منذ أن ظهر أَخْآبُ لأول مرة على صفحة تاريخ مملكة إسرائيل، جاءته كلمة الرب مرارًا وتكرارًا من خلال أنبياء معروفين بالاسم، وغيرهم مجهولي الاسم. وفي معظم الأحيان - وبتشجيع من إِيزَابَلَ امرأته“ - أظهر تجاهلاً تامًا لما قاله الرب له. وقد لوحظ بالفعل أن أَخْآبُ تسبَّب في تحويل النصر إلى هزيمة، من خلال الفشل في تنفيذ وصايا الرب فيما يتعلق بتحريم أعدائه (١مل٢٠). وقد واجهته عواقب هذا الفشل عندما كان بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ المهزوم، والذي كان يجب أن يُقتَل، فعالاً في تمهيد الطريق لتمرد أَخْآب الأخير على كلمة الرب وموته اللاحق.

ونحن لا نُفاجأ بسلوك أَخْآب في هذا الفصل الختامي من حياته. ولكن تصرفات يَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا كانت مُخيبة للآمال إلى أقصى الحدود. وبعد انتصار أَخْآب على بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ (١مل٢٠)، «أَقَامُوا ثَلاَثَ سِنِينَ بِدُونِ حَرْبٍ بَيْنَ أَرَامَ وَإِسْرَائِيلَ» (ع١). ومما لا شك فيه أن تخاذل أَخْآب في تحريم بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ، وفشله في تحقيق الانتصار الكامل، أدى إلى بقاء رَامُوتَ جِلْعَادَ، إحدى المدن التي وعد على بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ بإعادتها إلى إسرائيل (١مل٢٠: ٣٤)، تحت سيطرة الأخير. وكانت رَامُوتَ جِلْعَادَ مدينة ذات أهمية استراتيجية، بسبب طرق التجارة المختلفة التي تمر عبرها. وكانت تقع على بعد حوالي خمسة وعشرين ميلاً، إلى الشرق من نهر الأردن، على الطريق المؤدي إلى دمشق. وكانت قلاعها تمنع الأعداء من دخول أراضي إسرائيل. لذلك جاء الوقت الذي قرر فيه أَخْآبُ استعادة السيطرة على المدينة: «فَقَالَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِعَبِيدِهِ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَامُوتَ جِلْعَادَ لَنَا وَنَحْنُ سَاكِتُونَ عَنْ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ مَلِكِ أَرَامَ؟» (ع٣).

للأسف، لم يلجأ أَخْآبُ إلى خدامه فحسب ، بل وجه أيضًا نداء ناجحًا إلى يَهُوشَافَاط مَلِكُ يَهُوذَا من أجل مساعدته في القتال: «وَقَالَ لِيَهُوشَافَاطَ: أَتَذْهَبُ مَعِي لِلْحَرْبِ إِلَى رَامُوتَ جِلْعَادَ؟» (ع٤). وبالرغم من أن يَهُوشَافَاط كان ملكًا تقيًا «عَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ» (ع٤٣)، لكنه من خلال استجابته لأَخْآب أظهر مساومة في حقائق كلمة الله: «فَقَالَ يَهُوشَافَاطُ لِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ: مَثَلِي مَثَلُكَ. شَعْبِي كَشَعْبِكَ، وَخَيْلِي كَخَيْلِكَ» (ع٤). كان قد قام بالفعل بالنزول لزيارة أَخْآب: «فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ نَزَلَ يَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى مَلِكِ إِسْرَائِيلَ» (ع٢). لقد نزل من أورشليم؛ ”الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَارُهُ الرَّبُّ لِيُحِلَّ اسْمَهُ فِيهِ“، والذي فيه مَلك الملوك الداوديين. وهكذا فإن أي رحلة من هناك إلى مملكة إسرائيل المتمردة كانت ستُعتبر انحدارًا. كان على يَهُوشَافَاط أن يعرف أنه من المخالف لكلمة الرب أن يرتبط برجل شرير ووثني مثل أَخْآب.

كلمات بولس ذات صلة وثيقة بموضوعنا: «أَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ ... لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ» (٢كو٦: ١٥-١٧). لقد عرَّض يَهُوشَافَاطُ حقيقة الانفصال للخطر، وكان عليه أن يعاني من عواقب القيام بذلك. لم يكشف الوحي عن السبب الرئيسي الكامن وراء أفعاله غير الحكيمة في هذه المرحلة، ولكنه في وقت لاحق كشف لنا أن ”يَهُورَامُ بْنُ يَهُوشَافَاطَ مَلِكِ يَهُوذَا“ كان متزوجًا من بِنْتَ أَخْآبَ (٢مل٨: ١٨، ٢٧). ومن الواضح إذن أنه قد زرع بالفعل البذور التي أثمرت هذا التحالف غير المقدس، من خلال الموافقة أولاً على مثل هذه المصاهرة. وكم تسبَّب النير المتخالف في العلاقات الأسرية في غرق العديد من الشهادات الروحية بين شعب الرب على مر السنين، وهذا ما صار مع يَهُوشَافَاط. لقد ألقى هذا النير المُتخالف بظلاله على مُلكه، مما قاده ليكون في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ، ومع الشخص الخطأ.

(٢) تجنب كلمة الرب (ع٥-١٢)

على الرغم من أن يَهُوشَافَاط قد سمح لنفسه بالتورط في هذا التحالف الضار مع أَخْآب، إلا أنه كان لديه الذكاء الروحي ليعرف أنهم بحاجة إلى كلمة الرب لتأكيد أنه كان من الصواب أن يخوضوا معركة لاستعادة رَامُوتَ جِلْعَادَ: «ثُمَّ قَالَ يَهُوشَافَاطُ لِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ: اسْأَلِ الْيَوْمَ عَنْ كَلاَمِ الرَّبِّ» (ع٥). ولو كان يَهُوشَافَاط قد سأل أولاً عن كَلاَمِ الرَّبِّ، لأخبرته كلمة الرب أنه في تحالف – سياسي وروحي - مع الرجل الخطأ.

آخر شيء كان يريد أَخْآبُ أن يقبله هو كلمة الرب، لأنه كان يعلم أنها لن تتغاضى عن أفعاله. لذلك جمع الأنبياء الذين كانوا يخبرونه بما يريد سماعه، بدلاً مما يحتاج إلى سماعه، ولم يكونوا يخيبون أمله. وردا على سؤاله: «أَأَذْهَبُ إِلَى رَامُوتَ جِلْعَادَ لِلْقِتَالِ أَمْ أَمْتَنِعُ؟»، أجاب أنبياؤه الأربعمائة: «اصْعَدْ فَيَدْفَعَهَا السَّيِّدُ لِيَدِ الْمَلِكِ» (ع٦). وقد اقترح بعض الشراح أنهم أنبياء البعل. ولكن لغتهم وأفعالهم لا تدعم هذا الرأي؛ فلم يكن أنبياء البعل ليتحدثوا عن ” الرَّبّ (أدوناي)“ (ع٦) أو « الرَّبّ (يهوه)“ (ع١١، ١٢). كما أن صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ - الذي يبدو أنه كان زعيمهم – تحدث عن ”رُوحُ الرَّبِّ“ (ع٢٤).

لذلك من المرجح أن هؤلاء الأنبياء كانوا نتاج عهد يَرُبْعَامُ بْنُ نَبَاطَ ونظامه الديني الزائف (١مل١٢: ٢٦-٣٦). كان تراثهم الديني يجعلهم قادرين على استخدام المصطلحات الصحيحة، والتحدث بنغمة متحدة، بينما «كَانَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا جَالِسَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى كُرْسِيِّهِ، لاَبِسَيْنِ ثِيَابَهُمَا فِي سَاحَةٍ عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ السَّامِرَةِ، وَجَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ يَتَنَبَّأُونَ أَمَامَهُمَا» (ع١٠)، «وَتَنَبَّأَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ هكَذَا قَائِلِينَ: اصْعَدْ إِلَى رَامُوتَ جِلْعَادَ وَأَفْلِحْ، فَيَدْفَعَهَا الرَّبُّ لِيَدِ الْمَلِكِ» (ع١٢). حتى أن صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ استخدم وسيلة رمزية لتوضيح وتعزيز رسالته، ولم يكن هذا غريبًا على الأنبياء الحقيقيين (إر٢٧: ١-٣؛ ٢٨: ١٠، ١١؛ حز٤: ١-١٧)، «وَعَمِلَ صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ لِنَفْسِهِ قَرْنَيْ حَدِيدٍ وَقَالَ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: بِهذِهِ تَنْطَحُ الأَرَامِيِّينَ حَتَّى يَفْنَوْا» (ع١١). كتب ”كيل“: ”كان هذا العمل الرمزي تجسيدًا للاستعارة التي استخدمها موسى في بركة يوسف «بِكْرُ ثَوْرِهِ زِينَةٌ لَهُ، وَقَرْنَاهُ قَرْنَا رِئْمٍ. بِهِمَا يَنْطَحُ الشُّعُوبَ مَعًا إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. هُمَا رِبْوَاتُ أَفْرَايِمَ وَأُلُوفُ مَنَسَّى» (تث٣٣: ١٧)، أو «فَهُوَ فِي جَلالِهِ كَالثَّوْرِ الْبِكْرِ، وَقَرْنَاهُ مِثْلُ قَرْنَيْ ثَوْرٍ وَحْشِيٍّ، يَنْطَحُ بِهِمَا الشُّعُوبَ، حَتَّى أُولَئِكَ الْمُقِيمِينَ فِي أَقَاصِي الأَرْضِ. لِتَكُنْ هَكَذَا عَشَرَاتُ أُلُوفِ أَفْرَايِمَ، لِتَكُنْ هَكَذَا أُلُوفُ مَنَسَّى» (تث٣٣: ١٧ – ترجمة الحياة). وكان المقصود أن ينقل ”صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ“ إلى أَخْآب - في القضية المعروضة عليهم - ذلك الوعد الرائع الذي ينطبق على يوسف. لكن هذا النبي الكذاب تجاهل حقيقة أن إتمام كل بركة موسى للأسباط، كان يعتمد على الأمانة للرب“.

وهكذا كان سيبدو للشخص غير المستنير كما لو أن كلمة الرب كانت تسمع من خلال الأربعمائة نبي، وكان هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. وهكذا كان القادة الدينيون في أيام الرب يسوع، الذين يُمكن القول عنهم: «هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا» (مر٧: ٦). وبدعوته لهؤلاء الأنبياء الكذبة، كان أَخْآبُ يتعمد تجنب سماع كلمة الرب!

لقد فهم يَهُوشَافَاطُ منذ اللحظة الأولى أن هؤلاء الأنبياء الذين تكلَّموا، لا ينبغي الوثوق بهم. وهكذا طرح سؤالاً: «أَمَا يُوجَدُ هُنَا بَعْدُ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ فَنَسْأَلَ مِنْهُ؟» (ع٧). إذا كانت هناك حاجة إلى أي دليل آخر لإثبات ازدراء أَخْآب لكلمة الرب، فقد قدمه من خلال إجابته على سؤال يَهُوشَافَاط: «فَقَالَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِيَهُوشَافَاطَ: إِنَّهُ يُوجَدُ بَعْدُ رَجُلٌ وَاحِدٌ لِسُؤَالِ الرَّبِّ بِهِ، وَلكِنِّي أُبْغِضُهُ لأَنَّهُ لاَ يَتَنَبَّأُ عَلَيَّ خَيْرًا بَلْ شَرًّا، وَهُوَ مِيخَا بْنُ يَمْلَةَ» (ع٨). وكان توبيخ يَهُوشَافَاط الدمث: «لاَ يَقُلِ الْمَلِكُ هكَذَا» (ع٨)، هو ما دفعه إلى إرسال رسول لإحضار مِيخَا بْنُ يَمْلَةَ (ع٩). لقد كان سلوكًا مُستهجنًا حقًا أن يعرف أَخْآب أن هناك نبيًا للرب في المنطقة، يعلن بأمانة كلمة الرب، ومع ذلك يتعمد تجنب دعوته. وقد لوحظ بالفعل من قبل أنه على الرغم من أن الرب تحدث إليه من خلال الأنبياء، في العديد من المناسبات، خلال فترة حكمه، إلا أنه لم يقترب من الرب مباشرة لطلب إرشاده. إنه يقف كتحذير للمؤمنين، وغير المؤمنين، من جميع الأجيال، بأنه من الخطير جدًا تعمّد إغلاق كلمة الله في حياتهم.

(٣) توصيل كلمة الرب (ع١٣-٢٨)

وسواء أراد أَخْآب ذلك أم لا، فإنه لم يكن قادرًا، مرة أخرى، على منع كلمة الرب من الدخول إلى حياته، وفضح شره. قد يبدو غريبًا أنه لم يذكر إِيلِيَّا، عندما سأله يَهُوشَافَاطُ: «أَمَا يُوجَدُ هُنَا بَعْدُ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ فَنَسْأَلَ مِنْهُ؟» (ع٧). وواضح أن أَخْآب لم يكن يعرف مكانه بالضبط في أي وقت من الأوقات. وفي الواقع، كان إِيلِيَّا يظهر في المشهد، ثم يختفي، بدون سابق إنذار. ولكن من الناحية الأخرى، كان أَخْآب يعرف أين يمكن العثور على مِيخَا بْنُ يَمْلَةَ. إن أمره اللاحق بإعادته – من حيث جاء - إلى ”آمُونَ رَئِيسِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى يُوآشَ ابْنِ الْمَلِكِ“ (ع٢٦)، يُشير إلى أنه وضعه بالفعل تحت شكل من أشكال الإقامة الجبرية، نتيجة لأمور تكلَّم بها مِيخَا سابقًا، وأزعجته.

كان المشهد يسيطر عليه ملك متمرد وملك متساهل وأنبياء كذبة يُعطون آمالاً كاذبة. وبالرغم من إلحاح الرسول المُرسل لإحضار مِيخَا، أن يقف في الصف مع هؤلاء الأنبياء، ويتكلَّم بنفس النغمة «هُوَذَا كَلاَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ بِفَمٍ وَاحِدٍ خَيْرٌ لِلْمَلِكِ، فَلْيَكُنْ كَلاَمُكَ مِثْلَ كَلاَمِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ» (ع١٣)، كان تصميم مِيخَا: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّ مَا يَقُولُهُ لِيَ الرَّبُّ بِهِ أَتَكَلَّمُ» » (ع١٤). لو كان أَخْآبُ وأنبياؤه الكذبة، لهم إدراك بالإله الحي الحقيقي، لما تكلَّموا وتصرفوا على هذا المنوال! وإن ما تكلَّم به مِيخَا يُقدِّم تحديًا لجميع خدام الرب لإيصال كلمة الرب بأمانة، مهما كانت التكلفة؛ فليس من حقهم التلاعب بها، لتسهيل الأمر عليهم، لإيصال رسالة أكثر استساغةً وقبولاً لآذان سامعيهم.

وللوهلة الأولى، قد يبدو رد مِيخَا على أَخْآب مفاجئًا، لأنه يتطابق مع نصيحة الأنبياء الكذبة، لأنه «لَمَّا أَتَى إِلَى الْمَلِكِ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا مِيخَا، أَنَصْعَدُ إِلَى رَامُوتَ جِلْعَادَ لِلْقِتَالِ، أَمْ نَمْتَنِعُ؟ فَقَالَ لَهُ: اصْعَدْ وَأَفْلِحْ فَيَدْفَعَهَا الرَّبُّ لِيَدِ الْمَلِكِ» (ع١٥). ولكن يجب أن نلاحظ أننا لسنا في وضع يسمح لنا بسماع نبرة صوت مِيخَا. ولكن رد أَخْآب يكشف عن الأسلوب التهكمي الساخر الذي انتهجه ميخَا: «فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: كَمْ مَرَّةٍ اسْتَحْلَفْتُكَ أَنْ لاَ تَقُولَ لِي إِلاَّ الْحَقَّ بِاسْمِ الرَّبِّ» (ع١٦). من الواضح أن أَخْآب كان يعلم أنه كان يعصي كلمة الرب، وأن نبيًا حقيقيًا للرب لم يكن ليُقدِّم نفس النصيحة التي قدَّمها أنبياؤه.

وقد انتقد بعض الشراح أسلوب مِيخَا، واتهموه بالسخرية والخداع، وحتى الكذب. ولكن وجهات النظر هذه لا تُنصف هذا الخادم الأمين، الذي صرح للتو: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّ مَا يَقُولُهُ لِيَ الرَّبُّ بِهِ أَتَكَلَّمُ» (ع١٤). وهكذا فمن غير المعقول الإشارة إلى أنه كان سيلجأ على الفور إلى أساليب خفية ملتوية، لتحقيق غاياته. ويجب أن نتذكر أنه كان يتعامل مع رجل سجل عنه الوحي الإلهي: «وَعَمِلَ أَخْآبُ بْنُ عُمْرِي الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ قَبْلَهُ ... وَزَادَ أَخْآبُ فِي الْعَمَلِ لإِغَاظَةِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ» (١مل١٦: ٣٠، ٣٣). لقد تقسى قلب أَخْآب تدريجيًا على كلمة الرب؛ ولذلك استخدم مِيخَا هذا الاختبار النهائي ليؤثر عليه. لم يكن بحاجة إلى اللجوء إلى السخرية أو الكذب، ولكن من خلال تقديم نفس النصيحة التي قدمها الأنبياء الكذبة، وبلا شك، بنبرة صوت مناسبة، قاده إلى إدراك خطئه، والاعتراف به، ومع ذلك كان مستعدًا للسير في طريق العصيان والعناد، ولو على حساب اتباع الحق. وهكذا مهد أَخْآبُ الطريق لكل ما كان سيتبع، ومضى مِيخَا ليُعلن الحق له من خلال ربط رؤيتين أعطاهما الرب له.

أولاً: قال مِيخَا: «رَأَيْتُ كُلَّ إِسْرَائِيلَ مُشَتَّتِينَ عَلَى الْجِبَالِ كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. فَقَالَ الرَّبُّ: لَيْسَ لِهؤُلاَءِ أَصْحَابٌ، فَلْيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ بِسَلاَمٍ» (ع١٧). أو «عِنْدَئِذٍ قَالَ مِيخَا: رَأَيْتُ كُلَّ إِسْرَائِيلَ مُبَدَّدِينَ عَلَى الْجِبَالِ كَخِرَافٍ بِلاَ رَاعٍ. فَقَالَ الرَّبُّ: لَيْسَ لِهَؤُلاَءِ قَائِدٌ، فَلْيَرْجِعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى بَيْتِهِ بِسَلاَمٍ» (ع١٧ – ترجمة الحياة). كان المعنى واضحا تمامًا، أي أن أَخْآب سيفقد حياته في المعركة القادمة من أجل رَامُوتَ جِلْعَادَ. وفي الواقع، تظهر كلمات أَخْآب لِيَهُوشَافَاطَ أنه لم يكن في شك في الدينونة التي صدرت عليه، فقال: «أَمَا قُلْتُ لَكَ إِنَّهُ لاَ يَتَنَبَّأُ عَلَيَّ خَيْرًا بَلْ شَرًّا؟» (ع١٨).

ثانيًا: وصف مِيخَا مشهدًا في السماء يؤكد رسالة الدينونة التي سلمها للتو إلى أَخْآب. وهكذا كان مؤهلاً لتمهيد وصفه الرؤيا التي رآها بكلمات حاسمة: «فَاسْمَعْ إِذًا كَلاَمَ الرَّبِّ» (ع١٩). لم يكن على وشك أن يروي حلمًا خياليًا، ولكن مشهدًا من مشاهد السماء ذاتها، فقال: «قَدْ رَأَيْتُ الرَّبَّ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَكُلُّ جُنْدِ السَّمَاءِ وُقُوفٌ لَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ» (ع١٩). وسمع الرب يسأل سؤالاً: «مَنْ يُغْوِي أَخْآبَ فَيَصْعَدَ وَيَسْقُطَ فِي رَامُوتَ جِلْعَادَ؟» (ع٢٠). وكانت هناك ردود مختلفة «فَقَالَ هذَا هكَذَا، وَقَالَ ذَاكَ هكَذَا» (ع٢٠)، «ثُمَّ خَرَجَ الرُّوحُ وَوَقَفَ أَمَامَ الرَّبِّ وَقَالَ: أَنَا أُغْوِيهِ» (ع٢١). أو «ثُمَّ تَقَدَّمَ رُوحُ الضَّلالِ وَقَالَ: أَنَا أُغْوِيهِ» (ع٢١ – ترجمة الحياة). وصوَّر هذا الروح للرب كيف سيحقق هذا: «فَقَالَ: أَخْرُجُ وَأَكُونُ رُوحَ كَذِبٍ فِي أَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ» (ع٢٢). فأعطاه الرب إذنا ليفعل ما وصفه، وقال الرب: «إِنَّكَ تُغْوِيهِ وَتَقْتَدِرُ، فَاخْرُجْ وَافْعَلْ هكَذَا» (ع٢٢). ومرة أخرى كانت الرسالة واضحة؛ أي أن أخْآبَ سيُهزم في المعركة التي تلت ذلك، لأن الرب قد أمر بأن يكون الأمر كذلك: «وَالآنَ هُوَذَا قَدْ جَعَلَ الرَّبُّ رُوحَ كَذِبٍ فِي أَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِكَ هؤُلاَءِ، وَالرَّبُّ تَكَلَّمَ عَلَيْكَ بِشَرّ» (ع٢٣). وبالطبع لا يصح اتهام الرب بأنه خالق الشر أو أنه يتغاضى عنه! ولكن الله - في مطلق سلطانه وسيادته - يُمكنه استخدام الشر لتحقيق إرادته. كان أَخْآبُ مخادعًا وكذابًا طوال فترة حكمه، لذلك كان من المناسب أن يسمح الرب لروح ضلال أن يخبره بما يريد أن يسمعه،

من الواضح أن مِيخَا عانى من توبيخ كثير على أمانته في إعلان الحق. وبمجرد ما فرغ من إعلان رؤياه، حتى «تَقَدَّمَ صِدْقِيَّا بْنُ كَنْعَنَةَ وَضَرَبَ مِيخَا عَلَى الْفَكِّ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ عَبَرَ رُوحُ الرَّبِّ مِنِّي لِيُكَلِّمَكَ؟» (ع٢٤). كان صِدْقِيَّا مشتعلاً بالغضب لأن نبوة مِيخَا تتعارض بشكل مباشر مع نبوته، وبالتالي قوضت ادعاءه بأن روح الرب كان يتكلَّم من خلاله. ورد أَخْآبَ بعداء مماثل، وأمر بإرجاع مِيخَا إلى المكان الذي أُحضِرَ منه؛ «إِلَى آمُونَ رَئِيسِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى يُوآشَ ابْنِ الْمَلِكِ» (ع٢٦)، اللذين يبدو أنهما كانا وصيين مشتركين على السجن. وواضح أن مِيخَا كان بالفعل تحت الإقامة الجبرية قبل مثوله أمام أَخْآب، ولكنه – بالتأكيد - كان ينتظره عقاباً كثر صرامة عند عودته. كانت تعليمات أَخْآب واضحة: «ضَعُوا هذَا فِي السِّجْنِ، وَأَطْعِمُوهُ خُبْزَ الضِّيقِ وَمَاءَ الضِّيقِ حَتَّى آتِيَ بِسَلاَمٍ» (ع٢٧)، وهكذا كان من المقرر أن يتلقى مِيخَا حصصًا غذائية هزيلة في السجن.

كانت الكلمات المتبجحة، والأفعال العدوانية لأَخْآب وصِدْقِيَّا، هي نموذج لردود أفعال الرجال الذين يدركون أنهم يقفون على أرض هشة، عندما يُواجهون بحقيقة كلمة الرب. من ناحية أخرى، تحمَّل مِيخَا اللوم والتوبيخ والمعاملة السيئة، دون تذمر أو شكوى، مستريحًا في معرفة أن الرب قد تحدث إليه. كان مِيخَا مسؤولاً عن طاعة الرب، وكان الرب مسؤولاً عن نتائج وعواقب هذه الطاعة. وكان يعلَّم أن برهان صحة النبوات التي نطق بها الأنبياء يعتمد على النتائج، وليس على العنف والتهديدات القصيرة المدي. لقد تنبأ بأن صِدْقِيَّا سوف يهرب كجبان بعد الهزيمة في المعركة القادمة: «فَقَالَ مِيخَا: إِنَّكَ سَتَرَى فِي ذلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ مِنْ مِخْدَعٍ إِلَى مِخْدَعٍ لِتَخْتَبِئَ» (ع٢٥). أما بخصوص تفاخر أَخْآب بأنه سيعود من المعركة بسلام، قائلاً: «ضَعُوا هذَا فِي السِّجْنِ، وَأَطْعِمُوهُ خُبْزَ الضِّيقِ وَمَاءَ الضِّيقِ حَتَّى آتِيَ بِسَلاَمٍ» (ع٢٧)، فقد ردَّ مِيخَا بالعبارة الواثقة: «إِنْ رَجَعْتَ بِسَلاَمٍ فَلَمْ يَتَكَلَّمِ الرَّبُّ بِي. وَقَالَ: اسْمَعُوا أَيُّهَا الشَّعْبُ أَجْمَعُونَ» (ع٢٨).

(يتبع)


س. ت. ليسي