أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
نوافذ على الفردوس ديفيد جودنج أي رجاء يُمكن أن يُقدّمه الرب يسوع المسيح لأُناس شوَّهتهم الحياة، أو رفضهم المجتمع؟ هل في إنجيله أجوبة عن أسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية؟ يقول إن له الحق في الحُكم، ولكن أي نوع من الملوك هو؟ وما الفرق الذي تُحدثه مملكته في العالم الآن؟ يُقدِّم لوقا في إنجيله مشاهد من حياة غير مُنصفة، مُظهرًا المسيح كالبطل الذي يَهُبّ إلى نجدة المنبوذين والمظلومين، الذي جاء ليطلب المُحتاجين المعوزين ويستردهم، ويجعلهم له إلى الأبد. يقول لوقا إن الأسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية، تجد إجابتها في المسيح، ويُوضِّح أنه وجد في المسيح الشخص الجدير بإدارة حياته ومصيره. من خلال جمع العتيد من هذه المشاهد معًا، يُقدِّم ”ديفيد جودنج“ نظرة عامة على المحاور الرئيسية في إنجيل لوقا، كل قصة في حد ذاتها، تُظهر أن إنجيل المسيح لا يتجاهل حقائق الواقع الصعبة. والنظر للمشاهد مُجتمعة، يُظهِر أن الفردوس الذي تحدَّث عنه المسيح حقيقي أكثر مما نتخيل، وأن الذي وعدنا بالحياة والراحة هو أمين فوق كل ما يُمكننا أن نرجوه. والكتاب في ١٨١ صفحة ومتوافر في مكتبة الإخوة نشجعك على اقتنائه ودراسته
 
 
عدد نوفمبر السنة 2023
وَلِيمَة الصَّفْح والتَسَامُح!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

الوليمة تعبير عن الفرح والبهجة «لِلْضَّحِكِ يَعْمَلُونَ وَلِيمَةً» (جا١٠: ١٩)، فهي ترتبط عادة بحدث سعيد أو مناسبة سارة، فنقرأ عن وليمة عملها إبراهيم يوم فطام ابنه إسحاق (تك٢١: ٨)، ووليمة عملها فرعون يوم عيد ميلاده (تك٤٠: ٢٠)، ووليمة عملها شمشون يوم خطبته (قض١٤: ١٠)، ووليمة عملها نابال يوم جزاز غنمه (١صم٢٥: ٣٦).

ولكن هناك ولائم في كلمة الله لها غرض أسمى ومعنى أعمق، ليس مناسبة مُفرِحة ترتبط بالشخص نفسه أو بذويه، بل بالآخرين، ترتبط بإسعاد وخير الآخرين، وهنا تأخذنا كلمة الله لمعنى أوسع وأرقى للوليمة، وإحدى هذه الولائم المتميزة، الوليمة التي عملها أليشع لجيش ملك أرام، إنها وليمة ليست مُقدَّمة لأصدقاء وأحباء، بل لأعداء وأشرار! دعونا معًا نعرف كيف حدث هذا؟ وما الذي يُمكن أن نتعلَّمه من هذه الوليمة العجيبة والتي يمكن بحق أن نسميها ” وَلِيمَة الصَّفْح والتَسَامُح؟”

أرسل مَلِكُ أَرَامَ رئيس جيشه؛ نُعْمَان إلى مَلِك إسرائيل ليشفيه مِن بَرَصِهِ، الأمر الذي اعتبره مَلِكُ إسرائيل تحرشًا به وبشعبه، حتى أنه مزَّق ثيابه. إلا أن أليشع تدخل واستخدمه الرب في تطهير نُعْمَان مِن بَرَصِهِ (٢مل٥)، ولكننا بعد ذلك نجد مَلِك أَرَامَ يُرسل جنوده ليتربصوا بمَلِك إسرائيل أثناء تحركاته، إلا أنه في كل مرة كان الأراميون يكمنون لاصطياد مَلِك إسرائيل، كان أليشع يُحذِّره، فكان يمتنع عن الخروج. وعلم مَلِكُ أَرَامَ أن أليشع هو الذي يفشي أسراره ويعلم بكل مكائده، فإذ به يُرسل جيشًا ثقيلاً ليُمسك به. ولكن بدلاً من أن يُمسكوا أليشع، أمسكهم هو، وساقهم إلى السامرة بعد أن ضربهم بالعمى، وعندما انفتحت عيونهم وجدوا أنفسهم محاطين بجيش مَلِك إسرائيل، والذي طلب من أليشع أن يضربهم، غير أن أليشع لم يرفض فقط أن يضرب مَلِك إسرائيل جيش مَلِك أَرَامَ، بل طلب منه أن يُوْلَم لَهُمْ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، ثم يُرجعهم سَالمين إلى سَيِّدِهِمْ مَلِك أَرَامَ! كيف فعل أليشع ذلك؟! وكيف أظهر هذا الكم من الصَّفْح والتَسَامُح لأناس يضمرون له شرًّا لا خيرًا؟! بل كيف يُظهر هذه الروح الرائعة تُجاه مَلِك أقل ما يُقال عنه إنه شريرٌ جدًّا؟ ولكي نستوعب ما فعله رجل الله أليشع دعونا نستعرض معًا صفات هذا الملك الشرير، الذي تصرف معه أليشع بمثل هذا النبل:

(١) لا يُقدِّر الجميل: كم أتعجب من مَلِك يُقابل الخير بالإساءة! أَلم يُرسل قائد جيشه مريضًا بمرض عضال وهو الْبَرَص، وها قد رجع له مُعافى تمامًا، حتى أن لحمه الذي كان متآكلاً ومشوهًا، صار كلحم صبي صغير! وبدلاً من أن يشعر بالامتنان والشكر تجاه مَن كانوا واسطة في ذلك، نجده يُحاول أكثر من مره أن يبطش بمَلِك إسرائيل، بل نجده يحاول أن ينال من أليشع نفسه؟ إننا إزاء فِعْلَهُ هذا لا يسعنا سوى أن نردد مقولة داود عن شاول: «مِنَ الأَشْرَارِ يَخْرُجُ شَرٌّ» (١صم٢٤: ١٣)!

(٢) مُخادع ومُراوغ: إن تصرف الملوك ينبغي أن يتَّصف بالصراحة والمواجهة، لا الخداع والمُراوغة. فكان أجدر به أن يُظهر مشاعره بوضوح لمَلِك إسرائيل، ويُنازله في حرب صريحة كما يفعل الملوك الشرفاء، غير أنه لم يفعل ذلك، بل لجأ إلى أسلوب سَيِّده، أعني الشيطان، والذي هو أول من اتَّبع أسلوب المُراوغة والخداع مع أبوينا في الجنة!!

(٣) عنيد ومُتصلف لدرجة الغباء: كم أتعجب من عناده غير المنطقي، فعندما يحاول الإنسان في أمر ما ويفشل فيه تمامًا، عليه أن يُعيد حساباته ويُراجع نفسه، لا أن يعود ويفعل ذات الأمر وهو متوقع الفشل قبل النجاح؟! لقد فشل في أن ينال بمَلِك إسرائيل إذ علم أن أليشع يعرف أفكاره حتى وهو في مخدعه، فبالتالي سيعرف أليشع أنك سترسل جيشًا إليه كي يمسكوه؟! فالذي أحبط كل خططك تجاه ملك إسرائيل حتمًا سيُحبط خططك تجاه محاولتك الإمساك به!

(٤) مُتهور لحد الحماقة: كان يعلم أن ما ينوي فعله غير مضمون العواقب، فرغم أنه يريد أن يمسك رجلاً واحدًا أعزل متواجد في مدينة غير حصينة بلا أسوار ”دُوثَانَ“، «أَرْسَلَ إِلَى هُنَاكَ خَيْلاً وَمَرْكَبَاتٍ وَجَيْشًا ثَقِيلاً، وَجَاءُوا لَيْلاً وَأَحَاطُوا بِالْمَدِينَةِ» (٢مل٦: ١٤)! لقد كان يُدرك أن أليشع رجل غير عادي، وأنه صاحب عجائب، ليس فقط يعلم الغيب، بل أيضًا يصنع معجزات. وها قائد جيشه نُعْمَان خير دليل على ذلك. إلا أننا نراه بحماقة تهوره يُرسل جيشًا ليمسك أليشع؟!

وهنا نتساءل هل هذا هو الرَّجُلُ الذي يبغي أليشع أن يعمل وليمة لجيشه؟ أمثل هذا الشخص بصفاته هذه يصلح معه مثل هذه المعاملة الحسنة والراقية جدًّا؟ أَ يفهم هو في الأخلاقيات وسمو الآداب؟ وأمام هذه التساؤلات دعونا نتعرف أكثر عن خصال رجل الله أليشع، والتي نكتشفها من تصرفاته:

أولاً: مُسَالم: لقد انطبق عليه كلمات الرسول: «إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ» (رو١٢: ١٨). نعم لقد حذَّر أليشع مَلِك إسرائيل من غدر رِجَال مَلِك أَرَامَ، لكنه أبدًا لم يُوقع بهم ضررًا. إنه قصد سلامة مَلِك إسرائيل، وقصد أيضًا سلامة رِجَال مَلِك أَرَامَ !

ثانيًا: رجل النعمة: عندما ذهب قائد الخمسين بالخمسين الذين له يطلب من إيليا النزول معه. أنزل إيليا عليهم نار من السماء وأكلتهم، وتكرر هذا مرتين (٢مل١: ١٠، ١٢)، ولكن عندما جاء هذا الجيش الثقيل ليُمسك بأليشع، ضربهم بالعمى لا ليؤذيهم، بل ليسهل عليه قيادتهم إلى السامرة. ولم يُرسل عليهم نار من السماء لتأكلهم، بل «أَوْلَمَ لَهُمْ وَلِيمَةً عَظِيمَةً فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ فَانْطَلَقُوا إِلَى سَيِّدِهِمْ» (ع٢٣)! وهكذا نجده يُطبِّق كلمات رسول النعمة بصورة رائعة:

«لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ. إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رو١٢: ١٧-٢١).

ثالثًا: ذو قلب متَّسع: مع إدراك أليشع لطبيعة المَلِك الذي يتعامل معه، ومدى شره، وقلبه المليء بالحقد والكراهية، لم يجعل مِن ذلك مُبرِّرًا بأن يتعامل معه على أقل تقدير بشيء من التحفظ والجفاء، بل نراه يُظهر ببساطه ما في قلبه من محبة وتسامح وصَفح، دون أن ينظر إلى القلب الذي أمامه المليء بالشر والخبث، والذي قد لا يتأثر بما يُظهره له من عواطف صادقة ومخلصة. وهذا ما حدث بالفعل، فبعد أن أَوْلَمَ أليشع وَلِيمَةً عَظِيمَةً لجيش مَلِكُ أَرَامَ، كنا نتوقع أن يخجل مَلِكُ أَرَامَ بهذه المشاعر الراقية والصادقة التي غُمِر بها، ويطلب أن يعيش في سلام مع جيرانه، إلا أننا نقرأ بكل عجب: «وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ أَنَّ بَنْهَدَدَ مَلِكَ أَرَامَ جَمَعَ كُلَّ جَيْشِهِ وَصَعِدَ فَحَاصَرَ السَّامِرَةَ» (٢مل٦: ٢٤)! لاحظ عبارة: «وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ»؛ أي أن نتيجة تصرفات أليشع وما فعله مع جيش ملك أرام، كان أن مَلِكُ أَرَامَ صَعَدَ ليُحارب مَلِك إسرائيل! إن طبيعته الرديّة لا تعرف أن تعمل أفضل من ذلك، وطبيعة أليشع الجيدة لا تعرف أن تعمل أقل من ذلك!!

أقول إن أليشع سبق عهده، وحري به أن يُطلَق عليه نبي النعمة. إن تعاليم الناموس التي تتناسب مع طبيعة الإنسان الساقط تُعلِّم: «عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَرِجْلاً بِرِجْل» (خر٢١: ٢٤)، أما تعاليم النعمة التي أتي بها الرب بعد أن وهبت قدرته الإلهية لنا كل ما هو للحياة والتقوى (٢بط١: ٣) تُعلِّم: «لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا» (مت٥: ٣٩)! والناموس يُعلِّم: «تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ» (مت٥: ٤٣؛ تث٢٣: ٣-٦؛ مز٤١: ١٠)، والنعمة تُعلِّم: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ» (لو٦: ٢٧، ٢٨).

صديقي: هل أفعالك وتصرفاتك مع مَن يُسيء إليك ويجرحك، تتناسب مع أي تعليم من الاثنين؟ ليتنا نسموا فوق مشاعرنا الطبيعية والتي تستمرئ حب الانتقام، وتميل إلى روح التشفي، لنُظهر على الدوام صفات سَيِّدنا الكريم، والذي أظهر قوة الصفح والغفران في أروع مشهد، عندما أَوْلَمَ لصالبيه أعظم وليمة غفران، عندما قال: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو٢٣: ٣٤).

أَنْتَ تَدْعُو لِلْوَلِيمَهْ
بِالْمَوَاعِيدِ الْكَرِيمَهْ
ذُبِحَ الْعِجْلُ الْمُسَمَّنْ
فَهْوَ قُوتٌ لاَ يُثَمَّنْ

كُلَّ خَاطِئٍ أَثِيمْ
صَوْتُ حُبٍّ يَا رَحِيمْ
فَتَعَالَوا يَا خُطَاهْ
لِخُطَاةٍ وَعُصَاهْ


عاطف إبراهيم