يتناول الرب بسؤاله السابق لقايين، ما نتج من تأثير ظاهري علي قايين، لرفض الرب لقربانه الذي قدمه، وهو سقوط وجهه؛ وذلك بعد أن تناول ما نتج من تأثير داخلي عليه، بسؤاله السابق له: «لماذا اغتظت؟». فإن حالة الوجه ما هي إلا تعبير عن الإنسان كله، قلبه وفكره وكيانه. والشر يترك بصماته علي وجه الشرير، كقول إشعياء النبي: «نظرُ وجوههم يشهد عليهم، وهم يخبرون بخطيتهم كسدوم» (إش3: 9)، وهذا يتوافق مع نص هذا السؤال في الترجمة التفسيرية: «لماذا تجهم وجهك كمدًا؟».
ولم يكن سقوط وجه قايين، سقوط الاتضاع والندم أوالإنكسار أمام الرب، والشعور بخطئه، بل كان سقوط الكبرياء والذات التي فيه، والحقد والحسد لأخيه، وأيضًا الغيظ من الرب، ورفض فكره من جهة الفداء وطريقة العلاج من الخطية ونتائجها، ولسان حاله لله «اُبعد عنا وبمعرفة طرقك لا نُسر» (أي21: 14).
وفي الحقيقة، وقبل أن يسقط وجه قايين ويتحول عن الرب، كان الرب قد حول وجهه عنه وعن قربانه «ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر» (تك4: 5)، وذلك لأن الرب لا يطيق الجمع بين الخطية والتدين «لست أطيق الإثم والاِعتكاف» (إش1: 13).
وإن كان االرب قد بادر بالحديث مع قايين، فهذا لا يعني تنازله عما أعلنه سابقًا لأبويه، وهو أن طريق الخلاص بالفداء بالدم، ويحتاج إلى البديل (أي الذبيحة)، التي تُشير إلى شخص المسيح الذي ذُبح لأجلنا على الصليب (1كو5: 7)؛ ولكنه لأنه «إله كل نعمة» (1بط5: 10)، أراد بهذا الحديث أن يصل بقايين إلى الحقيقة المعلنة لوالديه، والتي لا بديل عنها، وبهذا أراد الرب أن يرجع قايين عن طريقه الرديئة التي ابتدعها، ودُعيت باسمه، إذ سميت «طريق قايين» (يه11)، وهو طريق الأعمال الناتج عن البر الذاتي الذي فيه، وهذا الطريق ضد فكر الرب، بل ضد الرب نفسه الذي قال عن نفسه «أنا هو الطريق» (يو14: 6).
ولكن ما هى حقيقة أعمال قايين التي قدم من ثمارها للرب؟ يقول يوحنا عنها: «لأن أعماله كانت شريرة». ومن هو مصدرها؟ «لأنه كان من الشرير» (1يو3: 12)؛ لقد زيَّن له الشيطان ثمار أعماله فتقدم بها إلى الرب، لذلك رفضها الرب، وبكل أسف ما زال عدو الخير يعمل هذا مع كثيرين، لأن «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله» (2كو4: 4).
وفي هذا أيضًا لم يحاول قايين أن يتجاوب مع معاملات النعمة التي تعامل بها الرب معه، فلم يُجب على سؤال الرب له: «لماذا سقط وجهك؟»، كما سبق أن رأينا أيضًا في سؤال الرب السابق له، فكان حريٌ به أن: يخجل على ما هو فيه من خزي، ويناجي نفسه قائلاً: «اليوم كله خجلي أمامي، وخزيُ وجهي قد غطاني» (مز44: 15)؛ ويقول للرب كما قال مفيبوشث لداود: «من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلي؟» (2صم9: 8)، بل ويبرر الرب لدى الآخرين بالقول: «لك ياسيد البر، أما لنا فخزي الوجوه» (دا9: 7).
أحبائي ... ألم يكن وجه هابيل مرفوعًا لدى الرب؟ ولماذا؟ الإجابة: لأنه نال رضى الرب، إذ اقترب إليه بالطريقة الصحيحة، عن طريق الذبيحة، ونال غفران خطاياه لأنه «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب 9: 22). فقد كان له الإيمان، وبهذا الإيمان حظيَ بشهادة الله عنه بأنه بار (عب11: 4)، وبسبب قبول الرب قربان هابيل ورفع وجهه إذ استنار بوجه الرب، نجده أنه كان مداومًا على تقديم القرابين «إذ شهد الله لقرابينه» (عب 11: 4)، وقد لذ له الشركة والعشرة مع الرب، وكان الرب مسرورًا به وبتقدماته. ولو كان قايين قد انتبه، لتساءل عن سبب رفض الرب لتقدمته وقبول تقدمة هابيل، ولكان قد أدرك الحقيقة.
عزيزي القارئ .. ربما تتساءل بعد كل هذا، لماذا هذا الفرق بين هابيل وقايين؟ والإجابة هى أن الفرق ليس في أشخاصهم بل في قرابينهم التي اقتربوا بها إلى الرب، وماذا كانت دلالة تلك القرابين؟ إن قربان - كما فهمنا سابقًا - يشير إلى الاقتراب إلى الله عن طريق الأعمال، أما قربان هابيل فهو يشير إلى الاقتراب إلى الله عن طريق الإيمان بالمسيح. فأي قربان تقترب به إلى الله؟ هل بأعمالك فتُرَدَّ مُنْدَحِرًا خَائِبًا، أم بذبيحة المسيح فتنال الشهادة الإلهية بأنك نلت التبرير والحياة الأبدية، ليتك تحدد طريقك، وليتك تختار المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة، واسمع ماذا يقول الكتاب «وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له برًا» (رو 4: 5).