في مصانع الأواني الخزفية نرى بعض العمليات توضح حياتنا بأجلى وضوح. فضمن العمليات التي تعطينا دروسًا ثمينة جدًا عملية تثبيت الألوان السابق نقشها على الأواني. لا شك أن تلك الرسوم البديعة والألوان الزاهية التي تبهر أبصارنا تحتاج إلى مهارة فائقة. ومهما كانت تلك المهارة بالغة حد الكمال فإن تلك الألوان لا ب زائلة ما لم تكن هنالك طريقة أخرى لتثبيتها. وهذا يتم بوضع الأواني – بعد نقش تلك الرسوم عليها مباشرة – في أفران تُعرَّض فيها لحرارة شديدة جدًا، فتحرق فيها الألوان وتثبت.
هكذا يفعل الله في كثير من الأحيان لتثبيت بعض البركات العظمى التي ننالها. إنه يحرقها فينا بوضعنا في بوتقة الآلام والأحزان. هذا ما نلاحظه في كثير في الأحيان، حتى أصبحنا لا نندهش عند سماعنا الكثيرين يتحدثون عن التجارب الشديدة التي حلّت بهم منذ اللحظة التي اقتربوا فيها من المسيح. يجب أن يكون الأمر كذلك، وإلا ذبلت من نفسهم تلك البركة التي قد حصلوا عليها، كما تذبل ألوان غروب الشمس من الأرض والسماء، أو كما تتلاشى الصور الفوتوغرافية من الألواح الزجاجية ما لم ”تثبت“ في الغرفة المظلمة.
وفي هذه الناحية توجد مشابهة تامة بين اختبار يعقوب واختباراتنا. ومن هذه المشابهة نتعلم مرة أخرى أن الحياة الروحية هي هي بعينها في كل البشر ولو تباعدت الأجيال، وأن الكتاب المقدس هو كلمة الله لأنه صادق كل الصدق في تصوير الإنسان.
عندما رجع يعقوب إلى بيت إيل، تاركًا أصنامه خلفه، ورمم المذبح الذي كرّس عليه نفسه من جديد، يخبرنا الكتاب المقدس صراحة أنه قد «ظهر الله ليعقوب أيضًا (أو ثانية) وباركه» (تك 35: 9). هل يثق جميع القراء الأعزاء أن بركة القدير مستقرة عليهم كما سطع نور الرب عند التجلّي على قمة الجبل وحوَّل الظلام نورًا؟ هل أعلن الله نفسه لكم ثانية بعد الفترة الطويلة الماضية التي زغتم فيها عن الحق؟ هل عاد الضال إلى بيت الله ثانية وإلى باب السماء؟ إذا لم يكن الأمر كذلك أليس الأفضل أن نفعل كما فعل يعقوب؟ اطلب من الله أن يعلن لك أصنامك. أخبره بأنك تريد أن تكون بكُلّيتك له وحده دائمًا. اطرح عنك لا خطاياك فقط بل أثقالك أيضًا، أي كل ما يعطلك عن الركض والجهاد في الحياة المسيحية. وإذا لم تستطع ذلك من نفسك فاخبره بأنك تريده أن يطرحها عنك. وإذا لم تستطع أن تخبره بأنك تريده أن يتمم ذلك فأخبره بأنك تريده أن يخلق فيك الإرادة. وبعد تسليم إرادتك بهذه الطريقة، سلِّم نفسك له ثانية. توسل إليه بأن يمتلك حياتك بكليتها. قد يدعنا ننتظر قليلاً، ولكن ذلك لا يهمنا كثيرًا – نسبيًا – طالما كنا نستطيع أن نقول بثقة الإيمان الذي لا يتزعزع ”نحن له، فمَنْ يستطيع أن يفصلنا عن محبة الله“.
كانت بركة عظمى حقًا تلك التي منحها الله ليعقوب إذ قال له «لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل». لقد سبق أن نطق الملاك بكلمات مشابهه في فنيئيل (ص32: 27-30) ولوقت قصير أضاءت حياته بنور ملكي. ولكن ذلك النور كان وقتيًا، كالنور الذي يسطع للحظة على بحر متلاطم الأمواج ثم يختفي سريعًا. ولكنه منذ تلك اللحظة تم فيه تغيير روحي عميق، وارتفع منسوب اختباره إلى مستوى «إسرائيل» (الأمير) الذي كرَّر له الآن للتأكيد بأن هذا هو نصيبه الأبدي. وعلى الفور دخل بوتقة التجارب المحرقة التي تثبت اسمه وتثبت صفاته وأخلاقه.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد. فإن الله أقامه أبًا لشعوب وملوك، ووعده بإعطائه الأرض التي كان فيها غريبًا كأبويه من قبل. هذان الوعدان: وعد الكثرة والإثمار، ووعد الامتلاك، لا يمكن أن يكونا إلا من نصيب من يتخرجون من مدرسة الآلام. فإن أبناءنا لا يولَدون إلا بالتعب والوجع، ونحن بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السماوات. فلا يظن أحد أنه يستطيع الحصول على البركات الروحية العظمى دون دفع الثمن. إذ إن ربنا نفسه تكمَّل كرئيس خلاصنا وكاهننا الأعظم (عب 2: 10) وبآلامه صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي (عب 5: 8، 9).