كان صباحًا ربيعيًا مُشرقًا فيما كان عيد الفصح يقترب. وها يسوع مع تلاميذه يستقلون قاربًا من كفرناحوم قاصدين العبور إلى بيت صيدا، على الضفة المقابلة لبحيرة جنيسارت ـ مسافة حوالي عشرة كيلومترات.
كان الرب يسوع معروفًا جيدًا في كفرناحوم لسبب كلامه ـ كلام النعمة ـ وأفعاله المُقتدرة. ولم تلبث أخبار ارتحاله في قارب أن انتشرت في البلدة المأهولة. واتجهت آلاف الأعين ترقب القارب الصغير الذي يشق صفحة الماء الهادئة.
وما أن اتضحت وجهته .. حتى تراكضت جموع من الرجال والنساء والأطفال بطول ضفة البحيرة نحو بيت صيدا. كثيرون يُحضرون أصدقاءهم المرضى آملين الشفاء. كان الرب يقصد مكانًا غير مأهول «ليستريح قليلاً» مع تلاميذه. ولكنه عندما رأى الجموع المتراكضة تتزاحم على الطريق المُترب، وقد بليت أقدامهم، وأصابهم الإعياء، تحنن عليهم: كانوا كخراف مُهملة لا راعي لها. ولكنهم كانوا يطلبونه هو، الراعي الصالح. ومن ثم رحَّب بهم كعادته دائمًا.
وعندما التأم الجمع، ترجل الرب يسوع عن القارب وصعد إلى مكان مرتفع، وكلمهم عن ملكوت الله. كانت كل الأعين ترنو نحوه، وكل الآذان تنهل من كلمات النعمة الحلوة النابعة الفائضة من شفتي المخلِّص. ومرَّت الساعات سراعًا: ساعة وراء ساعة، ساعات ملؤها البهجة، وموسيقى رسالة السماء الرائعة للنفوس الخاطئة المائتة تشنف الآذان. وحينئذ، فإن كل جار عطوف أو سيدة مُحبة، أحضروا إليه مرضاهم من عُمي وعُرج وخُرس. والبعض قصده من جهة ميت عزيز لديهم. فشفى أولئك، وأقام ذاك.
وبينما كان الرب منشغلاً بالتعليم والشفاء، لاحظ التلاميذ أن الشمس بدأت تميل نحو الغروب. بل إنها على وشك أن تغرب. فنصحوا الرب أن يصرف الجمع قبيل حلول الليل، ليبتاعوا ما يشاءون من طعام من القرى المجاورة في طريق عودتهم إلى بيوتهم. ولكن الرب لم يصادق على اقتراحهم. فلم يوافق على صرف الجموع جائعين، بل قال لتلاميذه: «أعطوهم أنتم ليأكلوا».
ولا ريب أن أمر الرب هذا أوقع التلاميذ في مشكلة. فبسبب مضي الوقت في خدمة الرب على نحو غير متوقع، لم يتزود التلاميذ بالطعام حتى لأنفسهم. فالمكان برية، وعلى فرض أنهم وجدوا مكانًا يبتاعون منه طعامًا، فلن يكفي الجمع خبزًا بمئتي دينار لينال كلٌ منهم نذرًا يسيرًا. وهنا تذكَّر أندراوس أنه قد رأى صبيًا صغيرًا بين الجموع، وعندما سأله عما لديه، أجاب: «خمسة أرغفة شعير، وسمكتان صغيرتان». وجبة تكفي فلاحًا واحدًا. وهكذا أضاف أندراوس: «ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟» آه يا أندراوس!! رجل من الأعداء حلم حلمًا فحواه: «.. إذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيين، وجاء إلى الخيمة، وضربها فسقطت، وقلبها إلى فوق، فسقطت الخيمة» (قض 7: 13). فإذا كان رغيف شعير واحد يكفي لنُصرة إسرائيل على أعدائه .. فكم بالحري خمسة أرغفة تكفي لإطعام جمهور المستمعين للرب.
لاحظ أنه كان بمقدور الرب أن يُطعم الشعب خبزًا من السماء كما أطعم الإسرائيليين «منًا» في رحلتهم من مصر إلى كنعان. كما كان باستطاعته أن يحوِّل حجارة البرية إلى خبز. ولكنه سُرّ أن يستخدم مئونة غلام صغير، وبتكثيرها أكل الجمع لحد الامتلاء.
ألا تتكلم إليك هذه الواقعة بدروس، عزيزي القارئ؟
ربما تقول: ”ليس لديَّ شيء ليستخدمه الرب“ فأنت تظن أنه ليس لديك أرغفة أو سمك لإطعام الجموع. ولكني أظن أن كل مؤمن لديه مثلما كان لدى الصبي الصغير. قد تتفاوت من شخص لآخر، ولكن في النهاية، فإن كل مؤمن يعترف بأنه يمتلك القائمة التالية:
1. خمسة أرغفة:
1. يدان 2. قدمان 3. لسان 4. ذهن (عقل) 5. ذاكرة
2.سمكتان:
1. محبة للرب 2. محبة للآخرين
إن خبز هذا الصبي وسمكتيه، ما كان بالإمكان أن تكون ذات قيمة، ما لم تُسلَّم إلى الرب. وهكذا مطلوب من كل المؤمنين أن «قدموا ذواتكم لله ... وأعضاءكم آلات بر لله» (رو6: 13). إذًا قدِّم له بطاعة: يديك، وقدميك، ولسانك، وذهنك (عقلك) وذاكرتك، وليصاحب كل هؤلاء ـ كشيء يعطي مذاقًا طيبًا: محبة للمسيح، ومحبة للكل.
ربما لا تكون أعضاؤك ذات قدرة خاصة، ولكن تذكَّر أن الأرغفة لم تكن من الدقيق الفاخر، بل من شعير. وقد تحتج بأن محبتك ضعيفة، فتذكَّر أن السمكتين كانتا صغيرتان. ولكن هاتين السمكتين الصغيرتين في يدي الرب تُشبعان حاجة الكل.
لاحظ أن الخبز كان مخبوزًا، وأن السمكتين كانتا مطهيتين (أي أن الطعام كان جاهزًا عندما تسلَّمه الرب) ـ أي احفظ أعضاءك (يديك، لسانك، ذهنك) طاهرة غير مُدنسة، وانشغل بتمامك بالأمور المقدسة، لكي تكون مستعدًا دائمًا لاستخدام الرب.
ويُخبرنا مرقس أن كل واحد نال نصيبًا من السمك كما من الخبز، أي لم يأكل أحد خبزًا دون غموس. أي أن الرب لن يستخدم إمكانياتنا لخير الآخرين، ما لم تكن لنا محبة قلبية: محبة للمسيح ومحبة لرفقائنا. هاتان ينبغي أن تمتزجان بكل خدمة مقبولة.
لاحظ أيضًا أن الصبي كان موجودًا هناك، حيث ووقتما طلب الرب خبزه وسمكتيه. فلو كان في هذه الأثناء يتسلق الجبال باحثًا عن أرنب ليمسكه، لضاعت عليه هذه الفرصة الكبيرة. احفظ نفسك قريبًا من الرب وبين خدامه، وحينئذ عندما تنشأ الحاجة، فإن أحدهم ـ مثل أندراوس ـ قد تلاحظ عيناه الأمور الصغيرة، فيقول: «هنا غلام (صغير) معه خمسة أرغفة (شعير) وسمكتان (صغيرتان).