مَاتَ يُوسُفُ ... فَحَنَّطُوهُ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ فِي مِصْرَ» ... هكذا يُختم سفر التكوين، وهو يعد بمثابة سجل يدون معاملات الله ووعوده، وأمجاد سلسلة الآباء البطاركة، إلا أنه يختم بـ“تَابُوت في مِصْر”! يا لها من نهاية مُلفتة للغاية! وعلينا أن نتذكر أن فسحة من الوقت تناهز ثلاث مئة سنة، توسطت بين خاتمة سفر التكوين وفاتحة سفر الخروج، وهي تساوي تقريبًا الفسحة الزمنية التي تفصل آخر العهد القديم عن أول أحداث العهد الجديد. ولكن خلال تلك الفترة تُرك إسرائيل مع مومياء ورجاء! كان جسد يوسف المُحنَّط موضوعًا في تابوت في مكان ما في جاسان. وكان ولا شك محل عناية بني إسرائيل، الأمر الذي يفسر حقيقة حملهم إياه عند خروجهم من مصر. ولمدة تقدر بثلاثة قرون كان “التَابُوت الصامت في مصر” ينادي برسالة لافتة. فماذا كان يقول؟ لقد تكلَّم ولا ريب الي آذان غالبًا غلفاء، إلا أنه كان لا تزال ثمة همسات خافتة، من شهادة غير منطوقة، تدوي في مسامع بعض الأفئدة، وتساعد على إبقاء بعض الآمال حية نشطة:
أولاً: كان هذا التابوت في مصر كارزًا صامتًا بحقيقة الموت:
كان المصريون منشغلين كثيرًا من جهة الموت. وكانت مصر تمتلئ بالمقابر، ولكن لم يُوضع جثمان يوسف في واحد منها، بل ظل في مكان ما تحت ناظري بني إسرائيل، وأي عابر سبيل كان سيتوقف لبرهة ويفكر ويعتبر: هذا مآل كل مجد وجلال أرضيين. فالرجل الثاني بعد فرعون، ذو العقل الجبار، والقلب الرقيق، فخر إسرائيل ومُخلّصه، ها هو مُغلّق عليه داخل تابوت! وإن أمجادنا بالميلاد والمَقام، مجرد ظلال لا شيء منها دائم. وليس ثمة سلاح يدفع الموت بعيدًا، فيد الموت الباردة تطال حتى الملوك!
كان هذا التابوت الصامت، يؤكد لكل مَن ينظره، الدرس القديم، الذي يمتد منذ عهد القدماء، وعبر كل الأجيال المتتالية، حتى يصل إلينا، عن حقيقة الموت الصارمة والحزينة. ولكن ما أقل الذين انتبهوا إلى هذا الدرس! ورغم ذلك فإن ثمة حق مُشرق أكثر أهمية ولمعانًا من درس الموت. فتلك الشفاه المتصلبة الشاحبة، التي تضطجع في تابوت، ملفوفة بطبقات من الكتان، كان نطقها الأخير: «أَنَا أَمُوتُ، وَلكِنَّ اللهَ (حتمًا) سَيَفْتَقِدُكُمْ» (تك ٥٠: ٢٤). لا يوجد انسان دائمٌ. ولكن إسرائيل يمكن أن يظل باقيًا حيًا، رغم فقدانه للرجل الأقوى والأحكم؛ يوسف. فالله موجود وحي، وإن مات مئة واحد كيوسف. وفي الواقع، إنه ربح صريح أن نفقد السند البشري والعائل المنظور، إذا كان ذلك يؤول إلى وعي أعمق بحاجتنا إلي ذراع الرب وقلبه، وإلى إدراك حقيقي بكفاية الله الكلية الدائمة لنا. مبارك هو زوال كل عابر، إذا كان زواله سيدع نور الأبدية الصافي الدائم، يشرق علينا. عندما تتساقط أوراق الشجر، نرى بأكثر وضوح الصخرة الشامخة التي حجبتها الخضرة الزائلة. وعندما تكنس الريح السحب من السماء، تسطع – بأكثر لمعان - الشمس التي تهب الغمام ألوانه. إن الرسالة التي يُرسلها كل فراش لمريض يحتضر، ويُعلنها كل قبر، معناها: “هذا الإنسان يموت، وذاك أيضًا يموت، ولكن الله باقٍ لا يموت، بل حيٌّ إلى الأبد”. وبخصوص تفكيرنا في الموت، الذي قد ينال من أعزاءنا الذين نحتاجهم أيما احتياج، والذي قد يصل إلينا نحن أيضًا بذراعه الطويلة وشبكته المنسوجة بدقة متناهية، فالخلاصة هي أن إدراكنا لحقيقة الموت يجب أن يقودنا الي حضن الله، حيث نجد صديقًا مُحبًا لا يزول ولا يموت، هناك نسكن في “أرض الأحياء”، حيث لا تجسر قدما الموت أن تخطو.
ليست هذه كل ما لدينا من أفكار من جهة رسالة ذلك “التابوت في مصر”؛ ففي الأعداد الافتتاحية من السفر التالي - سفر الخروج - ثمة العديد من الأفكار الثرية، عندما نقرأ: «وَمَاتَ يُوسُفُ وَكُلُّ إِخْوَتِهِ وَجَمِيعُ ذلِكَ الْجِيلِ» (خر ١: ٦). والسؤال الآن: هل كان في ذلك نهاية إسرائيل؟ كلا البتة، بل تمتد القصة لتُخبرنا، بعد حرف العطف “وَأَمَّا“ الذي يربط ما قبله بما بعده: «وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَثْمَرُوا وَتَوَالَدُوا وَنَمَوْا وَكَثُرُوا كَثِيرًا جِدًّا، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ مِنْهُمْ» (خر ١: ٧). وهكذا تثب الحياة وتنبع جنبًا إلى جنب مع الموت. وهناك مهد بجوار كل سرير لمريض يحتضر. وقد ينسحب البعض من السباق، ولكن السباق يحتدم أكثر فأكثر.
أوراق تسقط، وأخرى تأتي. أيام أبريل ليست مظلمة، وخضرة براعم الأوراق الرخصة هي الأكثر بهاءً ونضارةً، لأنها تتغذى على الأوراق المتحللة التي تغطي جذور البلوطة المُعمرة. وهكذا - مع مرور العصور - يستمر التعاقب المُثير للشفقة. فيوسف يموت، ولكن إسرائيل ينمو. وفي تاريخنا الشخصي، وأيضًا على نطاق أوسع في تاريخ العالم، نجد ذات القانون واسع النطاق هو العامل، وهذا ما يعبر عنه بأبسط الكلمات القديمة: «مَاتَ يُوسُفُ وَكُلُّ إِخْوَتِهِ وَجَمِيعُ ذلِكَ الْجِيلِ. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَثْمَرُوا وَتَوَالَدُوا وَنَمَوْا وَكَثُرُوا كَثِيرًا جِدًّا، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ مِنْهُمْ». وهكذا فإن هذا الدرس النافع بخصوص الموت الموسوم بالحزن، يجرد الموت من الكثير من أحزانه. كما أن هذا الدرس خليق بأن يهبنا القوة لننقي قلوبنا.
ثانيًا: كان هذا التابوت في مصر يكرز أيضًا بالرجاء
السبب الذي لأجله تم تحنيط جسد يوسف - حسب عادة المصريين - هو الحفاظ عليه. ولقد وُضع حيث أمكن أن يُرفع ويُحمَل بعيدًا، عندما تم الخلاص، بعد طول انتظار. فقد كانت ثقة البطريرك الذي يحتضر، أنه – وإن مات – فله – بطريقة ما – نصيبًا مؤكدًا في وعد الله الأمين. نحن لا نعلم على وجه التحديد كنه رجائه في وعد الله! فقد يكون مجرد العاطفة الطبيعية في اللاوعي، التي ترغب في أن يُدفن مع أعزائه في مغارة المكفيلة. فهذا الرجل العبراني الذي تجنَّس بالمصرية، أدي عمله على الوجه الأكمل في أرض غربته، واهتم بجدية بصوالحها. ولكن قلبه كان متعلقًا بمغارة المكفيلة. ورغم كونه عاش في مصر، إلا أنه لم يحتمل فكرة أن يظل مسجي هناك للأبد بعد موته. خصوصًا إذا كان سيترك وحيدًا. قد يكون ثمة أثر للاعتقاد المصري بأن حفظ الجسد من شأنه أن يسهم في دوام الحياة الشخصية، حيث تحوم روحه حول البقعة التي تحوي المومياء. إن معرفتنا بالقدر الكبير الذي يشغله تعليم الخلود والحياة المستقبلة في فكر المصريين القدماء، يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن يوسف ربما استقي بعض الأفكار عن الرجاء في القيامة والخلود، من الفكر المصري. ولكن من المؤكد أن أفكار يوسف بخصوص هذا الرجاء لم تكن بالانفصال عن شركته مع الله في حاضره.
على أيّه حال تكفل الاسرائيليون بأمر هذا التابوت، لأن الرجل المُسجى جسده فيه، عندما وقف على حافة خليج الموت، أعلن إيمانه بأن له نصيب في رجاء إسرائيل، وأنه حتى إذا غاص في ظلمة الموت، إلا أنه لن يغرق بعيدًا عن أن تصل إليه يد الله القوية، لتتم له شخصيًا وعده العظيم. وكانت وصيته الختامية - عند موته – تعبيرًا عن إيمانه الراسخ بأنه حتى وإن مات، فالله سيفتقده بخلاصه، ويهبه أن يرى نجاح وازدهار مختاري الرب، ويُشارك في أفراح الأمة، ويفتخر بميراث الرب. لقد عاش واثقًا في وعد الرب الصريح، وكما عاش مات. وتوضح رسالة العبرانيين أن الإيمان كان هو القوة الدافعة الحقيقية في هذه الحادثة، عندما تُشير إلى وصية يوسف المُتعلّقة بعظامه، باعتبارها علامة ناطقة على الإيمان «بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ» (عب ١١: ٢٢)
وهكذا عبر القرون الزاحفة البطيئة، ظل هذا المُبشر الصامت في مصر يقول: «لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ ... وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حب ٢: ٢). ولأن الله أمين، فهو يفي دائمًا بوعوده. ولكن كان هناك الكثير ليُحبِط الإيمان. كان خروج إسرائيل من كنعان ونزولهم إلى مصر، يبدو طريقا غريبًا يتنافى مع فكرة امتلاك كنعان! وكانت السنون تعبر بتثاقل، سنة وراء سنة، ولا يبدو في الأفق أثر لتحقيق الوعد، ومن ثم بدأت سحب الشكوك تتسلل، لتحجب الرؤيا عن عيون الرجاء. ثم قامت سلالة ملكية جديدة في مصر، لم تكن تعرف يوسف (خر ١: ٨)، وغاص إسرائيل شيئًا فشيئًا في أوحال العبودية، وأصبح من الصعب تصديق أن الطريق لنوال الميراث كان على بعد خطوات من جاسان.
ولكن طوال تاريخ إسرائيل المُظلم خلال تلك القرون الحزينة، بقي “التابوت الذي في مصر” علامة على انتصار الإيمان، الذي يتجاوز حاجز الموت، ليُمسك بيقينية الخير الجزيل الرابض على الجانب الآخر من هذا الحاجز العابس. ونحن لنا إعلان يذيع رجاءنا، أفضل من تابوت يحتوي على مومياء، وَمُشَيَّد حوله هرم؛ لدينا قبر فارغ، وعرش يجلس عليه معبودنا الحي المجيد. وبهما نغذي ثقتنا في الخلود، وفي إمكانية مواجهة ظل الموت دون خوف أو وجل.
إن يُوسُفنا الحقيقي؛ الرب يسوع المسيح، لم يقل: «أَنَا أَمُوتُ، وَلكِنَّ اللهَ (حتمًا) سَيَفْتَقِدُكُمْ وَيُصْعِدُكُمْ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ» (تك ٥٠: ٢٤)، لكنه – تبارك اسمه - يعطينا يقينًا رائعًا بتوحدنا مع شخصه المجيد، ورجاءً أكيدًا بحتمية الوجود معه في المجد: «إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يو ١٤: ١٩). وهكذا يجب أن يكون رجاؤنا أكثر لمعانًا، وأشد ثباتًا، وأوفر بهجة، حيث أنه يرتكز على قاعدة أمتن وأبهج مما كانت لهذا البطريرك.
وإذا كان لهذا الرجاء مكانته في قلوبنا، فيقينًا سوف يفصلنا عن كل ترتيب بشري محيط بنا. ولا بد أن بني إسرائيل كانوا مدفوعين للاستقرار في أرض جاسان الخصبة، ظانين أن ذلك هو الأفضل لهم؛ أفضل من الخروج في رحلة لن تفضي إلى مراع أخصب من تلك التي لهم في جاسان. وفي الواقع أن المُخلِّص عندما جاءهم لم يرحبوا به، رغم مرارة الضيق الذي أحاط بهم، ولكن عندما تلاشى الرجاء في نفوسهم، وذوت كل رغبة، قانعين بماشيتهم وقطعانهم؛ وسط هذا كله، كان تابوت يوسف الصامت يدوي في آذانهم: “ليست هذه راحتكم ... قوموا وامتلكوا ميراثكم”.
إن المحك الحقيقي الذي يُمتَحن به الرجاء هو تأثيره على السلوك. فهل سلوك المؤمن المسيحي المعتاد في أوقاتنا الراهنة محكوم بالنظر إلى المستقبل، أو يُقاد بالرجاء فيه؟ هل المسيحي يسلك كغريب تجاه الأمور المادية المحيطة به؟ هل يضع قلبه على ما بعد القبر، وعلى ما فوق النجوم؟ هل ترتقي أنظارنا إلى بحر الخلود، ذلك البحر الزجاجي الذي أمام العرش، الذي على ضفافه يقف أجناد الرب مرنمين ترنيمة موسى والحمل. وكلما نظرنا الهدف والجعالة يلمعان من خلال غبار أرض السباق، كلما زادت جهودنا في السعي هنا. ولا شيء يهب قيمة لأمور الحياة التافهة مثل شعاع من نور الأبدية ينعكس عليها. مثل هذه الرؤية إذا توافرت لنا فلن نحزن في مواجهة الموت العابس عندما يدق بوابة بيتنا. وعندما يتفكر البعض بإحباط وانقباض في حقيقة أن «لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ»، يجب أن تكون أفكارنا هي النتيجة الحتمية لحقيقة «لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ» (عب ١٣: ١٤). وهكذا نتحرر من الحزن، ونصبح أقوياء للفرح وفعل الخير. نحن بحاجة – أكثر من إسرائيل في عبوديته – لأن ندرك أننا غرباء ونزلاء. والأمر متصل بعمق علاقتنا مع الرب، وخضوعنا لمعاملاته التأديبية، ففضلاً عن أن ذلك يُؤَمِّن لنا التمتع ببركاتنا في مواجهة الحاضر العابر، والأمور التافهة، فإنه يُتيح لنا أيضًا رؤية واضحة جدًا للمستقبل العظيم الذي يترجم ويُكرم هذه الحياة الأرضية.
ثالثًا: كان هذا التابوت الذي في مصر يدعو للصبر والانتظار
كما رأينا، مرت ثلاثة قرون، وربما أكثر، منذ وضع جثمان يوسف في التابوت، إلى ليلة خروج بني إسرائيل من مصر، حاملين التابوت معهم (خر ١٣: ١٩). لا شك أن الرجاء المُؤَجَّل أَمْرَضَ قلوبًا كثيرة «الرَّجَاءُ الْمُمَاطَلُ يُمْرِضُ الْقَلْبَ، وَالشَّهْوَةُ الْمُتَمَّمَةُ شَجَرَةُ حَيَاةٍ» (أم ١٣: ١٢). ولا شك أن السؤال المُرهِق: «أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟» (٢بط ٣: ٤)، قد تحوَّل - في بعض الحالات – إلى شك مرير يرتاب في إمكانية تحقيق الرجاء. لكن طوال تلك السنين وقفت تلك الإذاعة الصامتة تعلن: «إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حب ٢: ٣).
ويقينا نحن نحتاج إلى نفس الدرس. إنه من الصعب علينا أن نرضخ لما نظنه تباطؤ في مسيرة تتميم المقاصد الإلهية. والحياة قصيرة، والرغبة في رؤية الحصاد الكبير قبل الموت، من شأنها أن تخبو وتخيب. واحتمال إنجاز الأمور العظيمة، في يوم من الأيام، في هذا العالم، بعد أن نكون قد غادرناه، يُلقي بثقله على كاهلنا.
المصلحون، والمحسنون، والكماليون المثاليون، هم جميعًا غير صبورين، ومتعجلون. ولكن في سعيهم الحثيث لرؤية مُثُلِهم العليا تتحقق، ينسون أن “التسرع قليل الخبرة” هو “أخ غير شقيق للتباطؤ”، وهم دائمًا مغتاظون تجاه البشر من أجل بطئهم، وحيال الله من أجل طول أناته وإمهاله!
ولكن هناك ثمة حق عميق في مفارقة الرسول بولس الواضحة: «وَلكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ» (رو ٨: ٢٥). وكلما زاد يقين الإيمان، كلما عظمت راحتنا بينما ننتظر بصبر وتسليم. إن عدم اليقين هو الذي يجعل الرجاء الأرضي يفشل في درس الانتظار والصبر. ولكن بما أن رجاء المؤمن المسيحي مؤكد ويقيني، ويعتمد على أمانة الله وصدقه، فهو يقنع ويكتفي بالصبر والانتظار، ولا يطلب علامات لقرب تحقيق الوعد «فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ. هُوَذَا الْفَّلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ قَدِ اقْتَرَبَ» (يع ٥: ٧، ٨).
«وَلكِنْ لاَ يَخْفَ عَلَيْكُمْ هذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ: أَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ. لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ» (٢بط ٣: ٨، ٩). وبالنظر إلى حجم التغييرات التي ستجريها يد الرب عندما تدق الساعة الموعودة، يجب ألا يضيق صبرنا، أو يضعف إيماننا. إن الله يسير متمهلاً، ولكنه لا يصل أبدًا متأخرًا. ويظل صحيحًا أن الله يرفع قدمه ببطء، ويغرسها بقوة وثبات في مسيرته عبر العالم. إنه بحكمة يصنع، فلننتظر الرب وندعه يقرر: “متى؟”، ولنتذكر دائمًا أن الرب يسوع المسيح قد تجسد ليُتمم مسرة مشيئته وقصده.
رابعًا: هذا التابوت الذي في مصر كان عربونًا لامتلاك الميراث
طال على بني إسرائيل التمسك بإيمان واهن ضعيف، ولكن أخيرًا خرجوا من مصر، وهم يحملون التابوت الذي فيه عِظَام يوسف (خر ١٣: ١٩)، وحفظوه بإجلال واهتمام، طيلة تيهان أربعين سنة في البرية، حتى دفنوا “عِظَامُ يُوسُفَ” في أرض كنعان (يش ٢٤: ٣٢؛ تك ٥٠: ٢٥: عب١١: ٢٢). وهكذا أصبح للأمة، ولا يزال بالنسبة لنا، رمزًا للحقيقة أنه لا يوجد رجاء يستند على الله وعلى كلمته، يمكن أن يخيب في النهاية. أما كل توقع آخر، يرتكز على أي شيء أقل ثباتًا، فلا بد أن يشوبه الشك والريب والخوف وعدم اليقين. ففيما يخص الآمال الأرضية، هناك دائمًا حزن كامن في ابتسامات الأمل، وخوف مُبهم في عيون الرجاء، وكل توقع مبني على أساس واه من أمور هذه الحياة الدنيا - سواء تحقق أو أُحبَط – يُثبت أن حلاوة ثماره أقل بكثير مما كان متوَّقع في تحقيقه، وغالبًا ما يتحول أخيرًا إلى خبز من الرماد، عوضًا عن الطعام الشهي الذي كنا نظنه ونرجوه.
هناك أساس واحد متين ومؤكد، وهو الأساس الذي استراح يوسف عليه، مُخاطرًا بكل شيء؛ وعد الله الصريح الصادق. ومن يبني على هذه الصخرة، لن يُخزى أبدًا. وعندما يجرف الطوفان كل ملجأ مبني على الرمال، فلن يحتاج المؤمن آنئذ لأن يهرع إلى هنا وهناك، ليجد - وسط ظلام العاصفة – مأوى أقل خطورة، أو أكثر أمنًا، لكنه – من ملجأه الآمن في الرب - سينظر إلى أسفل بهدوء، على أعنف سيل، مطمئنًا أنه من الصعب أن يجرف حصنه الحصين.
والإيمان الواثق المنتصر، الذي يمد بصر توقعاته اليقينية بعيدًا إلى ما بعد الموت، لا يوجد له مثال أنبل وأروع من حادثة موت يوسف، الذي «بِالإِيمَانِ ... عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ» (عب ١١: ٢٢؛ تك ٥٠: ٢٥). وفي الواقع، لقد استحوذت ثقته، على بركة أقل بكثير مما يجب أن يصل إليه إيماننا. وقد حفَّزته وأثارته وعود إلهية أقل وضوحًا وشمولية، مما لدينا. إن ضخامة وعظمة الرجاء المسيحي في الخلود، ويقين الحقيقة التي يرتكز عليها؛ قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات، يجب أن تؤول إلى زيادة ثبات ووضوح رجائنا، وفي زيادة قوة تأثيره في حياتنا.
إن المسيحي العادي ينبغي أن يقف ويتأمل أمام فراش موت يوسف، ليسأل: هل إيماني في مثل قوة إيمانه؟ لا أقول: هل إيماننا أقوى مما لذاك الرجل، الذي عاش في شفق الصباح؛ صبح الإعلان، وكان رجاؤه امتلاك أبدي لميراث أرضي، وكان البعض يظن أن هذا الرجاء سيتحطم بسبب الموت. إلا أن يوسف كان قادرًا أن يُلقي بمرساة الرجاء عبر الخليج، عندما أوصي: «اللهُ سَيَفْتَقِدُكُمْ فَتُصْعِدُونَ عِظَامِي مِنْ هُنَا» (تك ٥٠: ٢٥).
ونحن لنا ميراث أفضل، ومواعيد أوضح، وحقائق أكمل، ويجدر بنا أن نمسك بكل هذه ونثق بها. وعار علينا إذا كان إيماننا أضعف.