تكوين ٢٤ هو الأصحاح الذي كتب عنه الكثيرون، وكانت مادة تعليقاتهم بخصوص رِفْقَة مفيدة ورصينة، حتى أن المرء بالكاد يجرؤ أن يُضيف تعليقًا آخر حول هذا الموضوع. فلماذا نكتب مُجددًا حول هذا الأصحاح المعروف جيدًا؟ إن ثمة سببين شجعاني على الإقدام على هذه الخطوة: أولاً: إن نظرة عامة على رموز الكنيسة، في العهد القديم، دون تناول هذا الرمز الخاص، والذي يُعَدُّ أوفى وأكمل هذه الرموز، سيدمغها بالنقص والقصور. ثانيًا: إن تعليقًا موّجزًا وبسيطًا، بخصوص أوجه المُشابهة، قد يكون مُفيدًا بالنسبة لبعض الذين لم يتسنَ لهم الاطلاع أو مراجعة الشروحات المُفصَّلة الأخرى.
ملاحظات تمهيدية:
إن قصة دعوة رِفْقَة لترك عائلتها وبلدها، لتُصبح لابن إبراهيم، أي إسحاق، تشرح العديد من الملامح والسمات التي تُميّز الكنيسة، على نحو لم يتوفر لغيرها من الرموز. وإليكم أبرزها:
* دعوة العروس، لتخرج من بيئتها الوثنية، وصولاً إلى ملاقاة العريس الغائب.
* اشتراك الأقانيم الإلهية الثلاثة في تأمين وصول العروس، وإضفاء كرامة وسمو على مكانتها. فهكذا نرى: (١) مشورة الآب (ع١-٩). (٢) إرسالية ونشاط الروح القدس (ع١٠-٦١). (٣) محبة الابن للكنيسة (ع٦٢-٦٧).
* التنبير على عمل العروس من حيث قبولها، طوعًا، أن تتخلّى عن الكل، في سبيل لقاء والارتباط بشخص لم تره قبلاً.
* شخصية المسيح كالرأس السماوي.
* عدد من التفصيلات الجميلة، مثل العطايا والمواهب المُعطاة للكنيسة، ووجه المقارنة بينها وبين الهبات والهدايا الموهوبة لرِفْقَة.
ولكي نلم بكل جوانب جمال هذه الصورة الرمزية المعروضة أمامنا في تكوين ٢٤، يجب علينا إلقاء نظرة بانورامية على الأصحاحات تكوين ٢٢: ١ حتى ٢٥: ٦.
* تكوين ٢٢ يُخبرنا كيف اجتاز إسحاق الموت، في مِثَال. وقد مرَّ بنا سابقًا كيف كان ينبغي يُوْقِع الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا على آدَمَ، فَيَنَام، قبل أن تُحضَر له حَوَاء (تك٢: ٢١، ٢٢). وبالمثل، كان ينبغي أن يُقدَّم إسحاق على جَبَلِ الْمُرِيَّا، قبل أن يتم إحضار العروس له. إن دعوة رِفْقَة تؤكد أنه ما كان في الإمكان توجيه الدعوة إلى الكنيسة، قبل أن يُصبح موت المسيح حقيقة واقعة لا لبس فيها. لأن حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، الفاصل بين اليهود والأمم، كان ينبغي أولاً أن يُنْقَض، لكي يُشكّل الاثنان معًا ”إِنْسَانًا وَاحِدًا“. ولم يكن ثمة سبيل لذلك سوى الصليب: «وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ» (أف٢: ١٤-١٧).
* تكوين ٢٣ يُخبرنا كيف أن سَارَة ماتت. كانت سَارَة، بالطبع أُمًّا لابن الموعد، إسحاق. ولذلك فهي تُمثِّل شعب إسرائيل لأن «مِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ» (رو٩: ٥). وهكذا يؤشّر موت سَارَة إلى النقطة الزمنية التي سيتم فيها تكوين الكنيسة ودعوتها للخروج، أي عندما تُنحى إسرائيل جانبًا. ويُصادق العهد الجديد على هذا. فقط تفكر في تكوين الكنيسة في أعمال ٢، ورفض إسرائيل للتوبة في أعمال ٣. ولنتفكر أيضًا في أعمال ٧، حيث نجد رفض إسرائيل النهائي.
* تكوين ٢٤ يُخبرنا عن دعوة العروس؛ عروس الابن.
* تكوين ٢٥: ١-٧ يُخبرنا عن المركز الفريد الذي للابن باعتباره الوارث لكل شيء. أما أولاد إبراهيم الآخرون «أَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا، وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِهِ شَرْقًا إِلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ». ونلمح في ذلك صورة لبركات المُلك الألفي.
تعليقات على بعض الآيات:
ع٣: أساس ثابت ومتين:
كان ثمة أساس متين لدعوة رِفْقَة؛ وكان هذا الأساس يتمثل في القَسَم الذي حَلَفَ به لإبراهيم، عَبْدِهُ كَبِير بَيْتِه، الذي لم يُذكر اسمه في هذا الأصحاح، ولكن يُفترض عمومًا أنه ”أَلِيعَازَر الدِّمَشْقِيّ“ (تك١٥: ٢). وكان أساس دعوة الكنيسة هو مشورات الله الأزلية (أف١: ٣، ٤؛ رو ٨: ٢٠، ٣٠)، وأُنفِذَت بالروح القدس (أع٢؛ ١كو١٢: ١٣). وكما لم تكن رِفْقَةُ على عِلم بهذه الخطة، فإن مشورات الله بخصوص الكنيسة، تعود إلى الأزل، قبل أن تعرف الكنيسة شيئًا من هذه المقاصد، بل حتى قبل أن وُجِدَت في الزمان.
ع٤: دعوة الكنيسة ومجد المسيح:
إن الجملة اللافتة للنظر: «تَذْهَبُ وَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي إِسْحَاقَ»، توَّضح أمرًا جميلاً وأساسيًا في آن: إن قصد الله بخصوص الكنيسة، لا يمكن فصله عن رغبة الله في إكرام ابنه. ويُخبرنا إنجيل متى عن مَلِك أراد أن يصْنَع عُرْسًا لابْنِهِ (مت٢٢: ٢). وعلى الرغم من رفض الْمَدْعُوِّين والْكَرَّامين للابن، إلا أن المَلِك تمكن من إكرام الابن (مت٢٢: ١-١٠؛ ٢١: ٣٣-٤٤).
ثمة نقطة ثانية جديرة بالملاحظة في هذا العدد، تتعلَّق بملاءمة ولياقة العروس لتكون زوجة لإسحاق؛ فلا يصلح أن تكون من ”بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ“ (ع٣). لقد أرادها إبراهيم من عَشِيرَتِهِ؛ من أهله وذويه. وفي حين أن ارتباط يوسف بـ”أَسْنَاتُ بِنْتُ فُوطِي“ الأممية، يُشير إلى انضمام الأمميين والأمميات، إلى الكنيسة، كان يتعين أن تكون زوجة إسحاق من بني قرابته. فقط الذين أجرى الله عمله في قلوبهم، ليُنتج إيمانًا بالمسيح، أولئك فقط هم الذين يصلحون لأن يكونوا جزءًا من الكنيسة. قال الرب يسوع نفسه: «أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا» (لو٨: ٢١). فبواسطة نعمة الله، أصبحنا مؤّهلين أدبيًا لنكون عشيرته، من ذوي فرابته.
ع٥-٧: الرأس السماوي: أو الشرط الذي لا غنى عنه:
إن الشرط أن تكون زوجة إسحاق، من عشيرته ومن بني جنسه، وضع صعوبة إضافية أمام العبد، بالنظر إلى أن إبراهيم يعيش على بعد حوالي ٤٠٠ ميل، من إقامة بقية عشيرته وعائلته، وهي مسافة تتطلب رحلة طويلة شاقة، في ذلك اليوم، ربما أكثر صعوبة من رحلة من لندن إلى نيوزيلندا، في يومنا هذا. ثم كان هناك احتمال قوي أن تقبل العروس عرض الزواج، ولكنها ترفض مغادرة وطنها لترتبط بإسحاق. وهكذا جاء سؤال العبد لإبراهيم: هل يذهب إسحاق ليعيش معها في بلدها، في هذه الحالة؟ «رُبَّمَا لاَ تَشَاءُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَنِي إِلَى هذِهِ الأَرْضِ. هَلْ أَرْجعُ بِابْنِكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي خَرَجْتَ مِنْهَا؟» (ع٥). وكانت إجابة إبراهيم حاسمةً بالنفي القاطع. هذا ما نسميه اليوم: ”الشرط الذي لا غنى عنه“؛ أي أن زوجة إسحاق لا بد أن تكون راغبة في ترك كل شيء: عائلتها، أصدقائها، وطنها ... إلخ. من أجل أن تكون في معيته. ولنا في هذا تحريض واضح للكنيسة الآن أن تتسلح بنية الاغتراب والانفصال عن الأجواء العالمية المُحيطة. وعلى كل حال، وتحت أي ظرف، لن يذهب إسحاق إلى بلاد ما بين النهرين، ليعيش هناك مع زوجته. وهذا درس معروف وذائع، ولكن إلى أي مدى تعلمناه؟ الإجابة بسيطة للغاية، إذا ما استعرضنا تاريخ الكنيسة. لقد فقدت الكنيسة صفتها كغريبة ونزيلة، في دور بَرْغَامُس (رؤ٢: ١٢-١٧). ولننظر إلى المساعي الحثيثة الحديثة، التي تُحاول ربط اسم المسيح بالمبادرات الأرضية، أو حتى العالمية. وهذه تبدأ بالمنظمات الاجتماعية المسيحية، أو الأحزاب السياسية المسيحية، وما إلى ذلك!
إن رأس الجسد هو سماوي: المسيح، الإنسان المُقام من بين الأموات. هو الإنسان السماوي، لذلك يجب أن تكون الكنيسة غريبة في هذا العالم، لأنها مُتحدة به. هذا خط فاصل وواضح، ليس فقط من خلال حقيقة منع إسحاق من الرجوع إلى بلاد ما بين النهرين، ولكن من خلال آيات العهد الجديد أيضًا: «كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضًا، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضًا» (١كو١٥: ٤٨). ثم إن المؤمنين الذين يكوِّنون الكنيسة، مُباركون بكل البركات الروحية في السَّمَاوِيَّاتِ (أف١: ٣)، وجالسون في السَّمَاوِيَّاتِ (أف٢: ٦)، ومحاربتهم ليست مع دَمٍ وَلَحْمٍ «بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ» (أف٦: ١٢). وحتى عندما يتم تقديم الكنيسة باعتبارها ”أورشليم الجديدة” أو ”أورشليم المقدسة“ يُقال عنها إنها ”نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ الله“ (رؤ٢١: ٢، ١٠). والسبب وراء كل هذا واضح وبسيط: إن اتحاد الكنيسة بالمسيح يتطلب أن تكون سماوية، كما هو سماوي (أف٥: ٢٥-٣٢).
والآن نحن في مواجهة سؤال عملي فاحص: إلى أي مدى نحن في موافقة مع مشورة الله الأزلية؟ هل دورنا أن نجعل العالم مسيحيًا، فنُرجِع إسحاق إلى بلاد ما بين النهرين، أم أن الرأس السماوي؛ المسيح، له مثل هذه الجاذبية الآسرة حتى إننا راغبون وتوّاقون لأن نكون غرباء ونزلاء سماويين؟ إن رفض إبراهيم أمر عودة إسحاق إلى بلاد ما بين النهرين، مُسجَّل مرتين، لتأكيد رفضه التام لهذا الأمر «فَقَالَ لَهُ (للْعَبْد) إِبْرَاهِيمُ: احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَرْجعَ بِابْنِي إِلَى هُنَاكَ ... وَإِنْ لَمْ تَشَإِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَكَ، تَبَرَّأْتَ مِنْ حَلْفِي هذَا. أَمَّا ابْنِي فَلاَ تَرْجعْ بِهِ إِلَى هُنَاكَ» (ع٦، ٨).
ع٨: استجابة راغبة:
لو أن المرأة لم تُبدِ استعدادها الطوعي للذهاب، لما كانت مناسبة لإسحاق، وهكذا قال إبراهيم للْعَبْد: «وَإِنْ لَمْ تَشَإِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَكَ، تَبَرَّأْتَ مِنْ حَلْفِي هذَا. أَمَّا ابْنِي فَلاَ تَرْجعْ بِهِ إِلَى هُنَاكَ» (ع٨). إن الكنيسة ينبغي أن تكون محكومة بالنعمة، لا بوصايا ناموسية، تُؤمَر، فتطيع، كما هو الحال في النظام اليهودي. كما ينبغي ألا نتشبَّه بالأمم الموسومين باتباع شهواتهم، والساعين لإتمام لإشباع رغباتهم الخاصة. كان على العبد أن يجد الفتاة الراغبة في الانفصال عن عالمها، والراغبة في اتباعه. نعم، إن الكنيسة هي تحت النعمة، لا تحت الناموس.
ع١٠: مشغولية تامة وقوة جاذبية:
من ع ١٠ فصاعدًا، وحتى ع ٦١، فإن العبد هو الشخصية النشطة الرئيسية. فبعد استعراض في مشورة الآب (ع١-٩)، نتعلَّم الآن، من خلال التعليم الرمزي، أن الروح القدس هو المُعنِي بدعوة الكنيسة للخروج من هذا العالم، إلى المسيح. فبه - بالروح القدس - تكونت الكنيسة (أع٢؛ ١كو١٢: ١٣). وعمله إبان فترة تدبير النعمة، أن يُشعل ويُقوي ويُؤجج عواطفها نحو المسيح. أَليس هذا هو عمله الآن بالضبط؟
نقرأ عن عَبْدِ إبراهيم أنه «مَضَى وَجَمِيعُ خَيْرَاتِ مَوْلاَهُ فِي يَدِهِ» (ع١٠). كان جُلّ مشغوليته أن يُخبِر زوجة إسحاق المُستقبلة، عن إسحاق. فلئن كانت ”جَمِيعُ خَيْرَاتِ مَوْلاَهُ فِي يَدِهِ“؛ أي ممتلكات إبراهيم، إلا أن إبراهيم كان قد أعطى كل مَا لَهُ لإسحاق، واعتبره وريثه الوحيد، بينما أعطى أولاده الآخرين عطايا فقط، وصرفهم إلى أرض المشرق «أَعْطَاهُ كُلَّ مَا لَهُ» (ع٣٦)، «أَعْطَى إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ. وَأَمَّا بَنُو السَّرَارِيِّ اللَّوَاتِي كَانَتْ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا، وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِهِ شَرْقًا إِلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ» (تك٢٥: ٥، ٦). ومن ثم فجميع الخيرات والكنوز كانت لإسحاق. وهكذا هو الحال مع المسيح، الذي استطاع أن يقول: «كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي» (يو١٦: ١٥)، وأيضًا «اَلآبُ يُحِبُّ الابْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ» (يو٣: ٣٥).
هذا هو نهج عمل الروح القدس: إنه يكشف لنا أمجاد المسيح. وهكذا نقرأ عن الروح القدس: «ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يو١٦: ١٤). وحسنًا قيل إن الله يعمل مُعتمدًا على قوة جاذبية المسيح.
ثم إن التعبير ”جَمِيعُ خَيْرَاتِ“، يُذكّرنا بأن الروح القدس إنما جاء ليُخبرنا بكل شيء «أَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يو١٤: ٢٦)، وليُرشدنا إلى جميع الحَقّ «َهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ... وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يو١٦: ١٣)، وليُرينا أن كل ما هو للآب هو للمسيح «ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ» (يو١٦: ١٤، ١٥).
ع١٢-١٤: صلاة، اتكال، نعمة:
أول اثنين من هذه المميزات: الصلاة والاتكال، يُميّزان العبد. بينما الفضيلة الثالثة: النعمة، فهي تخص رِفْقَة. نلاحظ أنها أظهرت رغبة لا لإرواء عطش العبد فحسب، بل طواعية عرضت عليه أن تسقي جِمَالَه أيضًا، رغم كل المشقة التي يتطلبها استقاء مياه لكل هذه الحيوانات، خصوصًا بعد رحلة طويلة. وعرضت رِفْقَةُ أن تقوم بهذا العمل الشاق، دون أية مساومة، أو طلبًا لأجرة. ونرى في ذلك، كيف تعكس الكنيسة - المرموز لها برِفْقَة - هذا الجمال الأخاذ، والنعمة. وهذا دليل آخر على أن الكنيسة تتميز بالنعمة. ولاحقًا أظهرت رِفْقَةُ ذات الجمال والنعمة، عندما طلب العبد مكانًا ليبيت، فعرضت عليه أن يُطعم جِمَالَه أيضًا، وقالت له: «عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ كَثِيرٌ، وَمَكَانٌ لِتَبِيتُوا أَيْضًا» (ع٢٥).
وقد يغيب عن البعض أن روح الصلاة والاتكال التي تحلّى بها العبد، يجب أن تُلازم الكنيسة أيضًا. ونحن لا نصطنع، ولا نُحاول أن نصطنع الرموز، أو تطبيق كل ما يعن لنا على الكنيسة. ورغم ذلك فإن الروح القدس الذي يسكن في الكنيسة (١كو٣: ١٦)، يُريد أن يطبع فكره عليها. يقول ”وليم كلي“: ”إن الروح يتوَّحد مع الشخص الذي يسكنه، سواء كان روحًا صالحًا أم شريرًا“.
والواقع، أنه هكذا الحال، وبذات القدر، مع الأشخاص المُستعبدين للأرواح الشريرة. فقد صرخ المجنونان في متى ٨: ٢٩ قائلين: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟». ويتضح المعنى إذا قارنا هذا الكلام بما جاء في مرقس ٥: ٩، حيث يُجيب المجنون الأبرز على سؤال الرب عن اسمه: «اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». وينجلّي الموقف بالنظر إلى لوقا ٨: ٢٨، ٢٩، حيث يقول: «أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!». ثم يمضي البشير قائلاً: «لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ». وهكذا، وباستعراض تاريخ عَبْد إبراهيم، نرى كيف أنه رمزٌ لعمل الروح القدس، ظاهرٌ في الكنيسة، وفي المؤمن الفرد.
إن الله لا يبحث عن كنيسة تسود على العالم، بل بالأحرى عن كنيسة لها روح الصلاة، كما كان عَبْد إبراهيم.
ع١٥، ١٦: رِفْقَةُ خَارِجَةٌ وَجَرَّتُهَا عَلَى كَتِفِهَا:
لم ينتظر العبد طويلاً، فما أن انتهى من صلاته، إلا ورأى ”رِفْقَة خَارِجَة وَجَرَّتُهَا عَلَى كَتِفِهَا“. ونفهم من ع ١٥ أنها كانت بنت ”بَتُوئِيلَ“ الذي كان بدوره ابن ”نَاحُورَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ“. وهكذا استوفت الشرط الأول: أن تكون من عشيرة إبراهيم (ع٤). ثم أن الْفَتَاة كانت «حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا»، وهي صفة تُذكرنا بالجمال الذي تبدو عليه الكنيسة في عيني المسيح (مت١٣: ٤٥، ٤٦).
وكون الفتاة «عَذْرَاءَ لَمْ يَعْرِفْهَا رَجُلٌ»، يُذكّرنا بكلمات الرسول بولس: «إِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (٢كو١١: ٢). وهي حالة قلب أبعد ما تكون عن حالة المسيحية الاسمية. فعواطف الكنيسة الحقيقية محفوظة فقط للمسيح، وليس ثمة شريك له. ولكن المسيحية الاسمية لهي على النقيض من أن تكون ”عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ“. والرسول يوحنا يصف حالة تلك، بعد تخلفها عن الاختطاف، بأنها: ”الزَّانِيَةَ الْعَظِيمَةَ“ (رؤ١٧: ١٥، ١٦)، والتي يجب أن يدينها الله (رؤ١٩: ٢). أما الكنيسة الحقيقية، فالْمَسِيح سوف «يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ» (أف٥: ٢٧). وطوال الأبدية ستكون ”كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا“ (رؤ٢١: ٢).
وللحديث عن رفقة بقية