الحياة الأبدية ليست الخلود:
الخلود (التواجد إلى الأبد) امتياز الإنسان: إن ترتيب الخالق منذ القديم أنه «وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عب27:9)، وليس الفناء. فالإنسان مخلوق خالد، وذلك بسبب نسمة القدير (أى4:33)، نفخة الخالق العظيم (تك7:2)، وهذا بالمفارقة مع الحيوانات التي تباد (2بط12:2).
الخلود ليس هو الحياة:
إن الأشرار في وجودهم الأبدي لا يطلق عليهم قط أنهم أحياء. لقد أكد الوحي انهم لن يروا حياة (يو36:3) لا هنا ولا في القيامة ولا في الأبدية بطولها. وحتى قيامتهم يطلق عليها قيامة الدينونة (يو29:5). وبالمفارقة فالقديسون، في كل التدابير، عنده أحياء، حتى قبل القيامة (لو38:20)، وقيامتهم يُطلق عليها قيامة الحياة (يو29:5).
(1) الحياة الأبدية نوعية
حياة الله الأبدي
سنتأمل الآن في الحياة الأبدية كنوعية حياة الله. وانتعاشها في الشركة مع الآب والابن.
أولا: تعريف الحياة الأبدية
(ا) تعريفها النظري: هل تعرفها؟
السرمدية هي زمانها والأبدية هي مجدها. بيت الآب هو بيتها والله هو صاحبها. السماويات مشغولية فكرها والأبديات مستقر عواطفها. مجدها في الهدوء الجليل في محضر القدير، وشموخها في الجلال الهادئ في وسط ضوضاء عالم الجنون هل تعرفها؟ هذه هي الحياة الأبدية!!
- وعندما أنظر إلى الرب يسوع وأتأمل في طاعته ونقاوته، في نعمته ورقته، في صبره وتقواه، في قداسته ومحبته وفي خلوه من كل أنانية، أرى النموذج الكامل للحياة الأبدية. وأستطيع أن أقول ”هذه حياتي“.
- وما أمجد أن نتمتع بهذا وكم نشكر الله على هذا !! يا لها من راحة للنفس!! يا له من فرح نقي للقلب!! هذا هو اختبار كل نفس في عمق الشركة حينما يكون السيد نفسه هو غرض مشاعري، وكل مشاعري مؤسَّسة على هذا الغرض. ويكون هو مصدر الإرادة، بل أن إرادتي تمسك بإرادته بكل طاقتها ولا إرادة ذاتية لها.
(ب) تعريفها العملى: الشركه مع الآب والابن.
«هذه هي الحياة الأبديه أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته».
- إن كانت الحياة الإنسانية لا يمكن أن تُعّرف فمن ذا يستطيع أن يُعَرِف الحياة الأبدية؟ ولكنك تعرف الحياة من مظاهرها. فمثلا إذا تقابلت مع فقير لا يرتدى لباسًا فاخرًا، ولا يأكل ما يشتهي، ساكنًا في مسكن متضع، تجده (إن كان غير شاكر) يقول لك أول ما يقول: هذه ليست حياة.... أنا لا أعيش!! فما هي الحياة إذًا؟
- إن الحياة بالنسبة لهذا الشخص هي في مأكلها الشهي وملبسها اللائق ومسكنها المريح. هذه هي الحياة في نظر ذلك الإنسان. وهكذا نستطيع أن نُطلق على مظاهر الحياة والتمتع بها أنه التعريف العملي للحياة.
- وهكذا بالنسبه للحياة الأبدية: فهي حياة الله الأبدي (تعريفها النظري). ولكن هذه الحياة تجد انتعاشها وذاتها، مأكلها ومشربها وسعادتها في الشركة مع الآب والابن. وفي غير هذا المناخ (أي بعيدًا عن أجواء الشركة)، ستصرخ الحياة الأبدية (كالرجل الفقير) هذه ليست حياة.
- فكأن الرب له المجد (الخبير بالحياة الأبدية، بل مصدرها) يقول لك: إن أردت أن تعيش الحياة الأبدية، وأن تحس بها، فإن ذلك يكون في الشركة مع الآب والابن. هناك تجد مجالها ومناخها الطبيعي وتثبت ذاتها. هذه هي الحياة الأبديه: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.
- وهكذا يمكن أن نسمي الشركة مع الآب والابن (باعتباره مرسلاً من الآب) التعريف العملي للحياة الأبدية (أو قل مظاهر الحياة الأبدية الكريمة) أو مجال عمل الحياة الأبدية، تماما كما رأينا التعريف العملي للحياة الإنسانية هو في مظاهرها.
- وهكذا فالتمتع بالحياة الأبدية يقتضي معرفة الآب والابن معرفة إختبارية. أن نعرف الآب كما عرفه الابن الأزلي. ونعرف الله كآب للمسيح كإنسان، وليس كآب للمسيح فقط بل كآب لنا؛ نختبره ونتمتع يوميًا بعواطف أبوته لنا. ونعرف كيف نلجأ إليه كأبينا بلا تحفظات، بل في كل ظروفنا نذهب إليه كما نحن ونعرفه كما هو. وهكذا سنعرف الآب شخصيًا ونستشعر عواطفه وفكره وإرادته. ونعرف عواطف محبته الثابته كثباته، ونميِّز نعمته الفياضة التي تميزنا عن الكل غيرنا.
- كذلك فالحياة الأبدية هي معرفة يسوع المسيح كالمرسل (يو3:17). أن نعرفه كما يعرفه الآب الذي أرسله، كابن الآب الوحيد.
ثانيًا: حياة حبة الحنطة
- إن حياتنا الأبدية هي ذات حياة حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت وأتت بثمر كثير. فهي ذات نوعية حياة ابن الله بعد اجتيازها الموت ( يو12: 24، 25)، والتمتع بها يبدأ من الآن ويكمل في المجد كحصاد الزرع للروح (غلا8:6).
- فالحياة التي كانت في حبة الحنطة أتت بثمر كجنسه (تك12:1)؛ حيوات أبدية في قديسيه. إن الحياة الأبدية كنوعية حياة، هي حياة الله ذاته. إنها ليست حياة من الله. إنها حياة الله لنا في ابنه. الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه (1يو11:5 )
الحياة الأبدية اُظهرت بالتجسد، أثمرت بالموت، ووُرثت بالقيامة.
زيادة المسيح:
- قال المعمدان ينبغي أن ذاك يزيد (يو30:3). حقا إنه أمر حتمي (ينبغي) أن يزيد المسيح. وواحدة من أهم جوانب زيادة المسيح هو إثمار حياته الأبدية بالموت، حيوات أبدية في القديسين لها ذات طابع حياة المسيح في مجدها وسموها وشبع الآب بها، وإلاَّ لما كانت زيادة للمسيح. إن أي شيء أقل من المسيح لا يمكن أن يكون زيادة للمسيح.
- فحياتنا الأبدية هي ذات نوعية حياة المسيح بعد اجتيازها الموت؛ حياة هذا المجيد الذي ظل طيلة حياته يزيد، مرتفعًا فوق كل حائط (تك22:49)، يزيد ويزيد ويزيد، حتى ارتفع فوق حائط كل الحوائط الموت. ذاك العدو الذي فيه أفرغ الانسان كل عداوته وأفرغ المسيح كل محبته، فزاد المسيح جدًا. في الموت شق الغلاف الخارجي لحبة الحنطة، وكُسرت هي نفسها، ليتدفق ما فيها جاريًا، لتزيد وتثمر وتفرخ حيوات أبدية في القديسين.إن حياتنا الأبدية هي ذات حياة المسيح الزائدة. إنها حياة المسيح المنتصرة على الموت في زيادتها. حياة الجانب الآخر من القبر.
- إنها حياة المسيح التي ظلت تزيد وترتفع وترتفع، وأخيرًا في زيادتها ارتفعت جدًا جدًا جدًا فوق جميع السماوات بل إلى عرش الآب، لتجد الآب منتظرها، آخذة براعمها (كل قديسي الكنيسة) فيها ومعها. هذه هي حياتنا الأبدية في المسيح في عرش الله، الحياة التي في قلوبنا ولكنها في عرش الله.
ثالثًا: الحياة الأبدية حياة العائلة
(ا) حياة بيت الآب:
- قال أحد الأفاضل إن الحياة الأبدية كنوعية حياة الله؛ هي المعدات اللازمة لوجودنا في بيت الآب. تماما كما يرتدي رواد الفضاء معدات خاصة ليستطيعوا الهبوط على سطح القمر، هكذا لا بد لقديسي الكنيسة من الحياة الأبدية للوجود في بيت الآب. وهنا أُضيف أن الحياة الأبدية هي التجهيزات اللازمة ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا (أف3: 17)، ولكي يستطيع تبارك اسمه أن يضيف الآب في قلوبنا (يو23:14 ). ليس فقط ليستقبلنا الآب في بيته بل لنستقبل نحن(من الآن) الآب والابن والروح القدس ونتمتع بالشركة والحب العميق الجاري بينهم.
(ب) حياة عائلة الله:
- إن الحياة الأبدية كنوعية حياة هي التي وضعتنا جميعا على قدم المساواة مع بعض، ومع الرب له المجد (مع تميزه) في علاقته بالله والآب. ولهذا لا نجد تعبير «أبى وأبيكم (مساواة مع تميز)، إلهي وإلهكم» قبل القيامة . ولكن أول إعلان، أول رسالة أعطاها له المجد لمريم المجدلية في صباح القيامة « اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يو17:20). إنها العلاقة الجديدة للقديسين مع بعضهم ومع السيد كأهل بيت الله وهو بكر من الأموات، بكر (المساواة مع تميزه).
- هنا نرى الحياة الأبدية في تأثيرها بين أفراد عائلة الله (المولودين من الله) فالكل إخوة (اخوتي). الكل على قدم المساواة حتى الرسل؛ أخونا الحبيب بولس (2بط3: 15 ).
- وهذا هو ما يعنيه الوحي إذ يقول إن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد، أو رتبة واحدة (عب11:2). ويضيف الرسول قائلاً «ولهذا السبب لايستحي أن يدعوهم اخوة». فكوننا أصبحنا على رتبة واحدة مع الرب، هذا هو الأساس الوحيد الذي مكّن المسيح ألا يستحي بأن يدعونا اخوة، وإلا كان لا بد للمسيح أن يستحي بهذا.
رابعًا: الحياة الأبدية حياة الجسد
- فالحياة الأبدية ليست فقط حياة عائلة الله أفرادًا، والمسيح البكر مصدرها، وكلنا نمتلكها ليس بالانفصال عن المسيح، ولكنها أيضا حياة الرأس التي في الجسد.
- فالسر حسب أفسس ص3 يتضمن أن الامم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل (وعد الحياة الأبدية الذي اُعطي للمسيح في الأزل،وأعلن في الإنجيل ). فأن نصبح جسد المسيح لا بد أن يكون لنا ذات حياته. فحياة الرأس لا بد أن تكون في الجسد، وحياة الجسد هي من الرأس. ولهذا السبب فإن الرسول بولس من اختص بتعليم الجسد، اختص أيضًا بالوعد الأزلي بالحياة الأبدية.
خامسًا: نفخة الحياة الأبدية (حياة القيامة)
- لم يكتف الرب بأن يعلن عن عائلة الله يوم قيامته، ولكنه فى ذات يوم القيامة أعطى مفدييه نفخة الحياة الأبدية «فلما قال هذا نفخ فيهم وقال اقبلوا الروح القدس (روحا قدوسا)» (يو22:20).
- نفخ الخالق قديمًا في أنف آدم نسمة حياة وبموجبها تمتع الإنسان بالخلود. هكذا الفادي المنتصر نفخ في كنيسته (ممثلة في التلاميذ) نفخة الحياة الأبدية، وبنفخة القيامة تمتعت الكنيسة بحياة الله الأبدي.
- النفخة الأولى لم تكلف الخالق شيئًا أما نفخة القيامة فكلفت الفادي حياته.
- بينما سلطت النفخة الأولى آدم على كل المخلوقات، كذلك ستسلط النفخة الأخيرة الكنيسة مع المسيح على كل ما في السماوات وما على الأرض، حينما يجمع الله كل شيء في المسيح (أف 10:1).
- بالنفخة الأولى جُعلَ الإنسان مميزًا جدًا (المقام) حتى لا يجد له معينًا نظيره في أي شيء حوله (رغم تسلطه عليها كلها)، إلا فيمن له ذات حياته؛ حواء. أما النفخة الأخيرة فارتقت بالكنيسة جدًا، حتى إن الآب لم يجد للمسيح معينًا نظيره (في كل الكون مكان سلطانه) سوى في الكنيسة.
- وليس السلطان والمقام فقط ولكن الشركه أيضًا: فميزت النفخة الأولى آدم عن باقي المخلوقات إذ وضعته في شركة مع الله، كذلك ميزت النفخة الأخيرة الكنيسة عن باقي التدابير فأدخلت قديسى الكنيسة في شركة مع الآب والابن (يو2:17).
- أما عن تقدير الله: فبفضل النفخة الأولى سما جدا تقديره للإنسان حتى قال لذاّتى مع بني آدم. أما من خلال الحياة الأبدية فقد أصبحنا عائلة الله، أهل بيته (أف19:2)، نحن والله أهل. الله لا يجد لذّاته فينا فحسب (كما كان يجد مع إبراهيم)، ولكن أفكاره وجدت من يفهمها ويستوعبها ويحاول أن يطيعها طاعة كاملة. كما أن عواطفه ومحبته وجدت مستقرها في قلوبنا، بل تعلمت قلوبنا كيف تعزف صدى حبه سجودًا ساميًا يرقى إلى حياة أبدية (يو23:4). كل هذا بفضل الحياة الأبدية في قلوبنا. ما أمجد النعمه!