«ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته» (نش 1: 12).
المحبوبة في هذه الآية تشير للمرة الثانية إلى حبيبها باعتباره الملك. سبق لها أن قالت: «أدخلني الملك إلى حجاله» (ع4)، وهذه العبارة تُمَثِّل الشركة الخاصة والفردية بين النفس وربها. ولكن تعبير “الملك في مجلسه”، ليس له الطابع الشخصي، بل هو الطابع الجماعي للتمتع بالملك والشركة معه. بكلمات أخرى هو صورة جميلة للاجتماع إلى اسم الرب.
وعبارة «في مجلسه»، ترد في بعض الترجمات “على مائدته”. والكلمة المستخدمة هنا هي بالعبري تفيد الدائرة. فما المعنى المقصود من هذه المائدة المستديرة.
نحن نجتمع إلى اسم المسيح، وهو وحده الرئيس للاجتماع، والمسيح لا يجلس على قمة المائدة، مما يعطي لفريق قربًا منه أكثر من غيرهم، بل هو في وسط هذه الدائرة. «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت18: 20). إنه مركز الاجتماع.
المائدة ومدلولاتها
ما أروع مائدة سليمان! يخبرنا سفر الملوك الأول 4: 22، 23 عن طعام سليمان لليوم الواحد وهو فوق التصور. كما يُخبرنا الأصحاح العاشر من السفر ذاته أن ملكة سبا لما رأت ... طعام مائدة سليمان ... لم يبق فيها روح بعد. أما المحبوبة هنا فهي غير مشغولة بما على المائدة، بل بمن يجلس إلى المائدة. نعم تقديرها الأول هو أن “الملك جالس إلى مائدته”، وليس بالأطايب التي على المائدة!
وكما أن سليمان له مائدة وله طعام، فإن ربنا المعبود له أيضًا مائدته وله طعامه. فمائدته هي المذبح الذي كانت تقدم عليه الذبائح (ملا1: 7؛ حز44: 16)، وطعامه هو تلك الذبائح التي كانت تقدم من الشعب للرب في خيمة الاجتماع (عد28: 2).
والمائدة مبدئيًا تُعطينا صورة للشركة والشبع. ونحن إذ نجلس إلى مائدة الملك فإننا نتمتع بأسمى صور الشركة معه، كما وأننا نُطعم بالطعام الباقي للحياة الأبدية، أشياء لا نجد نظيرها في هذا العالم الذي هو برية. طوبى لنا، إذ يمكننا أن نقول: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني» (مز23: 1، 2). ولكن هذه الآية التي ندرسها الآن تحدثنا عن شيء آخر. إنها تحدثنا لا عن الطعام الذي نشبع نحن به، بل تحدثنا عن السجود الذي يشبع به الرب نفسه.
الناردين الخالص
تقول العروس: «ما دام الملك في مجلسه. أفاح نارديني رائحته». والناردين الذي تشير إليه المحبوبة هنا هو زيت عطري يُستخلص من نبات نادر، ينمو على سفوح جبال هيمالايا في الهند. ونظرًا لندرته واستيراده من بعيد، كان ثمنه مرتفعًا. وهو يحدثنا عن ذاك المجيد المرتفع الذي تنازل من أعلى قمة ووصل إلى مساكين الأرض. لقد جاءنا المسيح من بعيد، من حضن الآب، ونبت في بيئة حارة، تكثر فيها التجارب، ولكن تحمَّل الكل بصبر، وتصاعدت منه الروائح التي سرت قلب الله (انظر على سبيل المثال متى 12: 14-21).
تقول المحبوبة هنا إنه عندما يجلس الملك إلى المائدة، فإنها لديها ناردين، تفيح رائحته في هذه الجلسة. فإن لم تفح رائحة الناردين في مثل هذه المناسبة، فمتى تفيح؟؟
والطيب هو “اسم المسيح”. تقول العروس: «اسمك دهن مهراق» (ع3). وعليه فيكون سكب الطيب ونشر عبيره في المكان يشير إلى السجود، الذي يعني أننا نقدّم المسيح، الدهن المهراق، للآب. وما أجمل أننا ننشغل بمجد المسيح، وأن يمتلئ القلب به ويفيض. فالسجود هو فيض قلب شبع بالمسيح وامتلأ به. فإذا فاض هذا القلب، فبمن يفيض؟ وعن أي شخص يتكلم؟ الإجابة: «فاض قلبي بكلام صالح... أنت أبرع جمالاً من بني البشر» (مز45: 1، 2).
وهناك فارق بين الشكر والسجود. الشكر يكون على شيء أخذته من الرب، وهذا جميل، لكن أجمل منه المشغولية به هو نفسه؛ أي بشخص المسيح. عندما أتى الرب لزيارة إبراهيم ليعطيه الوعد بإسحاق قال له: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن» (تك18: 10). وإن كان سرور إبراهيم بالابن عظيمًا، فقد كان سروره بالرب الذي سيرجع إليه أعظم. ونحن متأكدون من ذلك لأن الرب عندما امتحن إبراهيم بأن يقدم ابنه له، لم يتأخر ولم يتباطئ، بل بكر صباحًا ليقدمه كما أمره الرب. وهكذا فعند الأتقياء شخص الرب أفضل من عطاياه.
بحبك السامي لقد وُهبنا كل البركات
لكن شخصك لنا أثمن من كل الهبات
مريم وناردينها
لكن لاحظ أن السجود ليس مجرد كلمات جميلة نقولها بأفواهنا في محضر الرب، بل هو أعمق من هذا. إنه التقدير الحقيقي في قلوبنا لشخصه.
هذا يأخذ فكرنا إلى مريم أخت لعازر. وما أقل ما أكرم الرب هنا على الأرض! لكننا نقرأ عن وليمة عُملت لإكرام المسيح في بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا، قبيل عيد الفصح الذي فيه صُلب المسيح. ويخبرنا الوحي «صنعوا له هناك عشاء». لقد دُعي الرب إلى الوليمة، وجلس «الملك إلى مائدته». كان - تبارك اسمه - محتقرًا من الناس، ويوم صلبه يلوح، أما مريم فقد أتت بأغلى ما تمتلك، قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، وكأنها تردد كلمات العروس هنا: «ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته».
ولقد كسرت مريم القارورة (مر14: 3). فهي لم تستخدم قدرًا من هذا الطيب الغالي، واحتفظت بالباقي لوقت لاحق، بل إن مريم بكسرها للقارورة كأنها تقول: لا أحد يستحق هذا الطيب الثمين سواك.
لقد كان أسبوع الآلام بالنسبة للمسيح مملوءًا بالأمور المتباينة: المحزنة والمنعشة. لكننا لا نغالي إن قلنا إن ما حدث في بيت عنيا كان أكثر الأمور إنعاشًا لقلب المسيح. هذا المشهد، الذي يُذكَر في الأناجيل على خلفية قاتمة من تآمر الأشرار عليه، وخيانة الأردياء له. كان بيت رئيس الكهنة تفوح منه رائحة المؤامرة والخيانة والتشفي، بينما انتشرت من بيت عنيا ومن بيت سمعان الأبرص رائحة العطر الذي دهن جسد المسيح قبيل آلامه!
لقد عبَّرت مريم بفعلها الصامت هذا ـ ولو أنه أبلغ من أي كلام ـ عن محبتها لسيدها، وعن الكرامة التي تحملها للشخص الذى كان على وشك الموت.
هذا هو السجود الحقيقي. إنه حالة قلوبنا ونحن في محضره. فهل حبنا وتقديرنا له حقًا هو سكيب الطيب عند قدميه؟
ولقد علق بمريم، بكل يقين، ولعدة أيام تالية، رائحة الطيب الذي سكبته على قدمي ربها، ثم مسحتهما بشعر رأسها. صحيح امتلأ البيت من رائحة الطيب المسكوب على جسد المسيح، ولكن الذي نال النصيب الأوفر منه بعد المسيح كان هو مريم نفسها. وهو درس لنا أن الشخص الساجد يمكنك أن تشم فيه رائحة المسيح الذكية. وما هي تلك الرائحة؟ ما وصفها؟ يُقال إن الرائحة هو التأثير الحلو للشخص، الذي لا يُحاكى ولا يُوصف، ولكنه يشد الانتباه ويجذب الآخرين إليه. ترى هل نحن ساجدون حقيقيون؟ وهل تنطبق علينا هذه الأوصاف التي ذكرتها الآن؟
الملك على مائدته
بالنسبة لنا فإن المسيح ليس هو الملك في علاقته الشخصية بنا. صحيح الملك هو الملك دائمًا، سواء في الخارج أو في بيته، ولكن زوجته تعرفه في علاقة أسمى من كونه الملك، إنه زوجها ورأسها وحبيبها. وهكذا بالنسبة لنا، نحن نعرف أن سيدنا هو ملك الملوك، ولكنه في علاقته بالكنيسة ليس هو ملك الكنيسة بل رأسها وعريسها. وبهذا الاعتبار نحن نُجمَع حوله ولا سيما في أول الأسبوع لصنع الذكرى.
ومع ذلك فإن تعبير مائدة الملك يحمل معنى أدبيًا، أنه يجب أن نخضع له، وأن نرتب كل شيء كما يريد هو. وفي 1كورنثوس 10 نقرأ عن “مائدة الرب”. ثم في 1كورنثوس 11 نقرأ عن “عشاء الرب”، ويتكرر اسم الرب في هذا الفصل سبع مرات.
ترى ما هو الهدف من مائدة الرب في الوقت الحاضر؟ يقول الرب «اصنعوا هذا لذكري» (لو22: 19). وعند اجتماعنا لصُنع هذه الذكرى لا ينبغي أن تكون مشغوليتنا الأولى بما نأكله نحن ونشبع به، بل بما نقدمه لسيدنا المعبود لكي ننعشه ونسر قلبه. بكلمات أخرى ليست العظة في الاجتماع هي أهم فقراته، بل يجب أن تكون مشغوليتنا في المقام الأول بالسجود، فكل منا يأتي بقارورة طيب، تمثل تقديري وإكرامي لشخصه، وهناك لا أذكر إلا شخصه ومحبته، وعندئذ يفيض القلب بالسجود الممثل في الناردين الذي تفيح رائحته.
إن مشغولتنا به طوال أيام الأسبوع، ثم سكب هذا التقدير أمامه في أول الأسبوع بعمل الروح القدس، كم ينعش قلب فادينا وقلوب المفديين أيضًا. إن تقديرنا لشخصه في لاهوته وعظمته، وتقديرنا لاتضاعه، وتقديرنا لآلامه، وتقديرنا لمحبته، ولخدماته، وأشواقنا لإكرامه، وحنيننا إلى شخصه، وتوقعنا لقرب لقائنا معه، هذا كله يمكن أن نعتبره الناردين الخالص الكثير الثمن.
ليت هذا ما يُميِّز اجتماعنا إليه في كل أول أسبوع!