لماذا تقولُ يا يعقوبُ؟ فبِئس ما ظننت! لماذا تتكَّلمُ يا إسرائيلُ؟ فهل كُلُّ مشاهدِ رحمةِ الطريقِ قد نسيت؟ كيف اختَفَتْ طريقُكَ عن الربِّ، فهل مسيرةً بمفردِكَ في هذهِ الفلاةِ قد قَطَعتْ؟ إنها أرضُ حياتٍ وعقاربَ، أطريقٌ غاب عن عيني السيدِ قد توَّهمت؟
لماذا تقولُ يا يعقوبُ، رَغْمَ أن النداءَ مجلجلٌ؟ لماذا تتكلَّم يا إسرائيلُ، رغم أن الخلاصَ مُقبلٌ؟ لماذا تقولُ وتتكَّلمُ، رغمَ أن موكِبَكَ طائرٌ وراكِضٌ ومتمْهلٌ؟
في هذا الإصحاحُ، المقتبَسُ منه الآيةُ أعلاه (إش٤٠)، نقرأُ عن أربعة نداءات ترِنُ بصداها الشجيُّ، فتَعمُّ أرجاءَ الأصحاح بأسرِهِ:
«عَزُّوا عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلَهُكُمْ. طَيِّبُوا قَلْبَ أُورُشَلِيمَ وَنَادُوهَا بِأَنَّ جِهَادَهَا قَدْ كَمِلَ، أَنَّ إِثْمَهَا قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا» (ع ١، ٢). وفى هذا إعلانُ العزاء.
«صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ الْمُعَوَّجُ مُسْتَقِيمًا، وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلاً. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ» (ع ٣-٥). وفي هذا إعلانُ المجد.
«صَوْتُ قَائِلٍ: نَادِ. فَقَالَ: بِمَاذَا أُنَادِي؟ كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ الْحَقْلِ. يَبِسَ الْعُشْبُ، ذَبُلَ الزَّهْرُ، لأَنَّ نَفْخَةَ الرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقًّا الشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزَّهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (ع ٦-٨). وفي هذا إعلانُ الثبات.
«عَلَى جَبَلٍ عَالٍ اصْعَدِي، يَا مُبَشِّرَةَ صِهْيَوْنَ. ارْفَعِي صَوْتَكِ بِقُوَّةٍ، يَا مُبَشِّرَةَ أُورُشَلِيمَ. ارْفَعِي لاَ تَخَافِي. قُولِي لِمُدُنِ يَهُوذَا: هُوَذَا إِلَهُكِ» (ع ٩). وفي هذا استعلان ربنا يسوعَ المسيح نفسه.
أليس هو أصحاحٌ ناطِقًا، يُجلجلُ الندَاءُ فَيعُمُّ أرجاءَه؟!
ولكننا نعودُ نسألُ يعقوبَ، لماذاَ تقولُ مع إنَّ الخلاصَ مُقبلٌ؟ ففي الأصحاح، نجد اسمَ الإشارةِ يتكرَّرُ خمسَ مراتٍ:
«هُوَذَا إِلَهُكِ» (ع ٩)، «هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي» (ع ١٠)، «هوذا أُجرَتُهُ معه» (ع ١٠)، «هُوَذَا الأُمَمُ كَنُقْطَةٍ مِنْ دَلْوٍ» (ع ١٥) وأخيرًا: «هُوَذَا الْجَزَائِرُ يَرْفَعُهَا كَدُقَّةٍ!» (ع ١٥) أي كغُبارٍ ناعِمٍ، وما هذا الاكتمال إلا لمشهدِ الخلاصِ النهائي، وليس من السبي البابلي فقط.
ولكننا نستمِرُّ متسائلين: كيف يتكلَّم يعقوبُ هكذا مع إنَّ الأصحاح يُختَّمُ بمنظرٍ، لا مثيلَ لروعتِه (ع٣٠، ٣١)، فنرى منتظري الربِّ «يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ». فها الموكِبُ يُؤتَى قدرةٌ على الطيرانِ آنَ الاحتياجِ لذلك (رؤ١٢: ١٤). ولكننا نراهُم أيضًا: «يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ» (١كو٩: ٢٦)، وأيضًا «يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ» (إش٣٨: ١٥).
فها مواقفٌ فوق خيالِنا، كنا نحتاج فوقها أن نَطيرُ، فأُعطِينا جناحي النسرِ العظيم، وكم من مواقفَ احتاجت إلى سعيٍ وركض، وأخرى كنا نحتاجُ أن نمشيَ على مهلٍ لأنَ الحياة َقصيرةٌ تُقاس بالسنين، وكان هذا وذاك موفورًا لنا أيضًا.
فها الموكِبُ يطيرُ ويركُضُ بل ويَتَمَّهلُ ... فلمَ نتكلم؟