أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
أَبْشَالُوم“ هو الابن الثالث لداود من ”مَعْكَة بِنْتِ تَلْمَايَ مَلِكِ جَشُور“. ومعنى اسم ”أَبْشَالُوم“ هو ”أب السلام“، لكنه - على عكس اسمه - كان قاتلاً! فعندما حدثت المصيبة وأذل أمنون - أخوه غير الشقيق – شقيقته ثامار، وأغمض داود عينيه عن هذه الجريمة الشنيعة، وأهمل توقيع القصاص المناسب، اغتاظ أبشالوم، وقتل أمنون. ثم ظل أبشالوم ثلاث سنوات هاربًا ولاجئًا عند ملك جَشُور، جده لأمه، ثم بواسطة يوآب رجع إلى أورشليم وبقي سنتين دون أن يرى وجه الملك أبيه. ثم أيضًا وبتأثير كلام يوآب يوافق داود ويقابل أبشالوم، ويتغاضى داود عن توقيع العقوبة على أبشالوم إزاء جريمته التي ارتكبها بقتل أخيه، بل نراه عند لقائه يُقبِّله (٢صم١٤: ٣٣)، مع أن أبشالوم يأتي متعجرفًا متكبرًا دون أن يعترف بجرم أتاه، أو يحكم على نفسه كمذنب. ولو كان داود حازمًا ومتوكلاً على الله لما لاقاه هذا اللقاء. ولأن داود كان يتصرف طبقًا لمشاعره، فإنه سامح أبشالوم دون أن تظهر في هذا الشاب توبة حقيقية، نظير تلك التوبة التي تبرهنت من داود في مسألة قتله لأوريا الحثي. فكم ناح داود وانسحق، واتضع وخضع، وهو يعترف بخطيته تائبًا ونادمًا. أما أبشالوم فلم يذرف دمعة واحدة على أخيه الذي قتله، ولا نقرأ أنه اعترف وتاب، أو قدَّم ذبيحة عن خطيته. وبعد رجوعه، نسي أبشالوم مركزه كابن ليكرم أباه، وعلى العكس سعى لاغتصاب المُلك من أبيه، وأثار ثورة وحربًا أهلية ضده، ولكنه قُتل في الحرب. وكم كان وقع خبر موته أليمًا على قلب داود؛ الأب الشيخ! لقد انسحق قلبه في هذا اليوم لأنه يحب هذا الابن العاق. لقد أوصى قادة جيشه الثلاث؛ يوآب وأبيشاي وإتاي الجتي أن يترفقوا بأبشالوم. ورغم عقوق هذا الابن، فقد كان موته تحت قضاء الله أفدح نازلة حاقت بقلب داود. وفي هذا الكتاب سنتناول بالتأمل والتحليل ثورة أبشالوم على أبيه، وسنحاول أن نستخلص لأنفسنا دروسًا أدبية نافعة لأيامنا الحاضرة. والكتاب في ١٤٤ صفحة وسعره ٢٠ جنيهًا ومتوافر في مكتبة الإخوة نشجعك على اقتنائه ودراسته
 
 
عدد يناير السنة 2023
دعاوي قضائية مرفوضة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ

عِنْدَ الظَّالِمِينَ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟»

كان مؤمنو كورنثوس مُولعين بالفلسفة البشرية، فكانوا دؤوبين على تصديق وفعل ما يريدون، حتى إنهم انقسموا وتناحروا، وكانوا في حالة لا أخلاقية استثنائية، وعادت طرق تفكيرهم وتصرفهم القديمة تغزو حياتهم مجددًا. وأما نموذج البر والتعبير عن الإنسان الباطن الجديد الناتج عن الطبيعة الإلهية فكان مكسورًا فيهم إلى الدرجة التي يصعب فيها التمييز بين العديد منهم وبين أقرانهم الوثنيين. وهذا المقطع يكشف لنا الحسد والحساسية بينهم وبين إخوتهم المؤمنين، بل سباق المصالح والمكاسب المادية بينهم، حتى وصل بهم الأمر إلى حد شكوى بعضهم البعض أمام القضاء، القضاء المدني الوثني حينذاك. لقد نشروا غسيلهم القذر أمام العالم ليراه.

وعلى الأرجح كان الوضع القانوني في كورنثوس مشابهًا لذاك الذي في أثينا حيث كانت الدعاوى القضائية جزءًا من الحياة اليومية، فكانت نوعًا من التحدي بل من الترفيه. لقد شهد أحد الكتاب القدماء أن كل أثيناوي كان محاميًا؛ فعند حدوث مشكلة بين طرفين لم يستطيعا تسويتها فيما بينهما، كان المرجع الأولى هو التحكيم الخاص، وفيه يعين كل طرف مواطن محايد كحكم خاص به. وهذان الحاكمان، مع شخص ثالث حيادي مستقل، يحاولون حل المشكلة، وإذا فشلوا تُحوَّل القضية إلى محكمة من أربعين شخص تُحدد حَكَم عام لكل طرف، ومن الغريب أن كل مواطن كان لا بد أن يعمل كحكم عام خلال السنين الستين من حياته. وإن فشل التحكيم العلني تُحوَّل القضية إلى محكمة قضائية مُكونة من بضع مئات من المحلفين إلى بضع الآلاف، وكل مواطن فوق سن الثلاثين يمكنه أن يخدم كمُحلف، وبالتالي كان معظم المواطنين مُدمجين بانتظام في خطوات قضائية بطريقة أو بأخرى، سواء كطرف في قضية أو كحكم أو كمحلف.

لقد كان مؤمنو كورنثوس معتادين على المنازعة والمعارضة والوقوف أمام المحاكم قبل أن يخلصوا، حتى إنهم حملوا هذه التوجهات والعادات الأنانية إلى حياتهم الجديدة كمسيحيين، لكن هذا الطريق لم يكن خطأ روحيًا فقط، بل أيضًا غير ضروري عمليًا.

وعلى العكس تمامًا كان شعب الله؛ فلقرون عدة سوى اليهود نزاعاتهم إما في خصوصية أو في محكمة مجمعهم، ورفضوا أن يذهبوا بمشاكلهم أمام القضاء الوثني، مؤمنين أنهم إن فعلوا هذا فسيعطون انطباعًا أن الله - من خلال شعبه وباستخدام مبادئه الكتابية - ليس أهلاً لأن يحل كل مشاكلهم، فاعتُبر نوع من التجديف أن يقفوا أمام محاكم الأمم. وسمح كل من الحكام اليونانيين والرومان لليهود أن يستمروا في هذه الممارسة حتى خارج فلسطين. وتحت الحكم الروماني كان من حق اليهود أن يمارسوا مباشرة أي نوع من التأديب، وأن يصدروا أي حكم ماعدا الحكم بالموت. وكما نعلم من محاكمة الرب يسوع، كان من حق السنهدريم أن يقيدوا المسيح ويضربوه كما أرادوا، لكنهم طلبوا تصريح روما الممثل في بيلاطس حتى يتسنى لهم قتله.

ولأن الرومان اعتبروا المسيحيين طائفة يهودية، فكان المؤمنين الكورنثيين على الأرجح في حرية أن يسووا نزاعاتهم فيما بينهم، وربما لأنهم لم يتمكنوا من إيجاد تسويات مرضية من إخوتهم المؤمنين، اختار الكثيرون منهم أن يقاضوا بعضهم البعض في المجامع أمام قضاة يهود، أو في محاكم وثنية عامة. لقد كان التحكيم العلني إظهارًا لتوجهاتهم الجسدية، وهي قطعة خميرة أخرى (١كو٥: ٦-٨)، أدخلوها إلى حياتهم الجديدة في المسيح.

وفي مواجهة هذا الشر في كنيسة كورنثوس ذكر الرسول بولس ثلاث مجالات لسوء الفهم الذي كان لهؤلاء المؤمنين. لقد أساءوا فهم مقامهم بالنسبة للعالم، والتوجه الحقيقي الذي كان يجب أن يكون في علاقتهم بعضهم ببعض، والطابع الحقيقي الذي كان يجب أن يكون فيهم من جهة مقاييس الله للبر.

أولاً: المقام الحقيقي للمؤمنين

«أَيَتَجَاسَرُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لَهُ دَعْوَى عَلَى آخَرَ أَنْ يُحَاكَمَ عِنْدَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّنَا سَنَدِينُ مَلاَئِكَةً؟ فَبِالأَوْلَى أُمُورَ هَذِهِ الْحَيَاةِ! فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً! لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ. أَهَكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟ لَكِنَّ الأَخَ يُحَاكِمُ الأَخَ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ» (١كو٦: ١-٦).

إن عبارة “دَعْوَى عَلَى” هي ترجمة لثلاث كلمات يونانية ”اسم وفعل وحرف جر“، تُستخدم عادة لتعني دعوى قضائية أو محاكمة. ومن القرينة نعرف أن المقصود بــ”آخَر” هو قريبه من المؤمنين. أما “الظَّالِمِينَ” فلا تشير إلى الحالة الأدبية، بل إلى الحالة الروحية التي لأولئك الذين أقام المؤمنون دعواهم أمامهم. لقد كان المُحكمون والمُحلفون غير مُخلَّصين، وبالتالي أشرار. وكان المؤمنون يأتون بقضاياهم ضد بعضهم البعض أمام غير المؤمنين، فصُدم بولس وحزن، ولأنه كان يعلم الإجابة مسبقًا، كان سؤاله استنكاريًا. وكأنه يقول: “كيف يكون هذا؟ هل حقًا يقاضي بعضكم البعض، وتفعلون هذا حتى في المحاكم العامة الوثنية؟!” ويأتي الفعل ”يَتَجَاسَرُ (tolmao)“ في المضارع، كناية عن واقع مستمر.

لم يكن انشغال بولس بأن المؤمنين لا يحصلون على فرص عادلة للاستماع لهم في المحاكم العامة، لأنهم كثيرًا ما حصلوا على محاكمات عادلة كالتي كانوا سيحصلون عليها من المؤمنين رفقائهم، بل كان اهتمام بولس بضآلة احترامهم لسلطة الكنيسة وقدرتها على تسوية نزاعاتهم. إن المؤمنين هم أعضاء جسد المسيح، وروحه يسكن فيهم لكونهم قديسين؛ قديسي الله الذين قال لهم الرسول بولس: ”اسْتَغْنَيْتُمْ فِيهِ“ و”لَسْتُمْ نَاقِصِينَ فِي مَوْهِبَةٍ مَا“ (١كو١: ٢-٧)، فيتساءل الرسول “كيف لكم أن تفكروا في عرض مشاكلكم خارج العائلة لحلها؟” إن كل مصادر الحق والحكمة والعدل والعدالة والمحبة واللطف والجود والفهم متوفرة في شعب الله.

ينبغي ألا يُحاكم المؤمنون بعضهم البعض في المحاكم العالمية، لأننا إن وضعنا أنفسنا تحت سلطة العالم، فبهذه الطريقة نحن نعترف بأننا نفتقر إلى التصرفات السليمة والتوجهات الصحيحة. إن المؤمنين الذين يذهبون إلى المحاكم ضد أقرانهم المؤمنين مهتمين بالثأر والمكسب أكثر من وحدة الجسد ومجد المسيح. لا بد للنزاع بين المؤمنين أن يحل وسط المؤمنين، فإن كنا نحن المؤمنين - بكل مواهبنا النافعة ومصادرنا في المسيح - لا نستطيع حل نزاع فكيف نتوقع من غير المؤمنين أن يفعلوا هذا؟ يؤكد الرسول بولس أن المؤمنين يقدرون على حل النزاعات دائمًا «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِدِّيسِينَ سَيَدِينُونَ الْعَالَمَ؟ فَإِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُدَانُ بِكُمْ أَفَأَنْتُمْ غَيْرُ مُسْتَأْهِلِينَ لِلْمَحَاكِمِ الصُّغْرَى؟». فإن كنتم في يوم ما ستجلسون في محكمة الله العليا على العالم أفلستم مؤهلين لأن تحكموا في الأمور اليومية الصغيرة التي تظهر بينكم الآن؟ ولنلاحظ أن كلمة ”مَحَاكِمِ“ يمكن أن تترجم أيضًا “قضايا”.

عندما يعود الرب يسوع المسيح ليؤسس ملكه الألفي، سيشاركه فيه مؤمنو كل العصور ويجلسون معه في عرشه (رؤ٣: ٢١؛ دا٧: ٢٢) وجزء من مسؤوليتنا كحكام مع المسيح هو دينونة العالم، وسيكون للرسل سلطان خاص حيث ”سيَجْلِسُونَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا يَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ“ (مت١٩: ٢٨)، لكن كل مؤمن سيشارك بطريقة ما «وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ، فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي» (رؤ٢: ٢٦، ٢٧).

فإن كان القديسون في يوم قادم سيُشاركون في دينونة العالم، فبالتأكيد هم قادرون أن يحكموا على أنفسهم في الكنيسة الآن، وهذا الحكم القادم أساسه الالتصاق التام بكلمة الله، والتوجه التقويّ السليم، وهو موجود الآن أيضًا، ولن يكون وقتئذ أي مبادئ مختلفة للحكمة والعدل عن التي عندنا الآن، والمُعلن عنها في المكتوب.

لكن مؤمني كورنثوس لم يحكموا على أنفسهم وليس هذا فحسب، بل جعلوا أنفسهم أضحوكة أمام غير المؤمنين، بسبب كبريائهم، ولكونهم جسديين وطماعين وبينهم مرارة، وكل هذا أمام العالم؛ العالم الذي في يوم آت سيدعوهم الرب ليكونوا أعوانًا في دينونته، والحكم عليه بالبر.

بل إن المؤمنين - في يوم قادم - سيدينون ملائكة، والكتاب لم يذكر لنا أي ملائكة سندينها. أما الملائكة الساقطة فسيدينها الرب (٢بط٢: ٤؛ يه٦)، لكننا لم نُخبَر إن كان المؤمنون سيشتركون في هذه الدينونة أم لا. والكلمة اليونانية للدينونة (krino) ويمكن أن تعني أيضًا أن “يقضي ويحكم” وهذا هو بالتأكيد المعنى المقصود. فإن كان لنا سلطان على الملائكة الأطهار الذين سيكونون بلا خطية يدانوا عليها. وأنا لا يُمكنني أن أكون جازمًا في هذا الصدد، لكنى أميل إلى الاعتقاد بأن المؤمنين المُمجَّدين سيساعدون في دينونة الملائكة الساقطين، ويمارسوا بعض الحكم على الملائكة الأطهار. وإن كان المسيح مُرفعًا فوق كل الملائكة (أف١: ٢٠-٢٣)، ونحن فيه ومثله، وسنملك معه، فلا بد أن نشترك معه في سلطانه بطريقة ما. ومهما كانت دائرة ومدى هذا الحكم السماوي وهذا السلطان، تبقى وجهة نظر بولس كما هي: إن كنا سنقضي ونحكم على العالم، وعلى ملائكة في الدهر الآتي، فبكل تأكيد نحن قادرون أن نحل أي مسألة موضوع خلاف فيما بيننا اليوم، تحت إرشاد الكلمة والروح القدس.

«فَإِنْ كَانَ لَكُمْ مَحَاكِمُ فِي أُمُورِ هذِهِ الْحَيَاةِ، فَأَجْلِسُوا الْمُحْتَقَرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ قُضَاةً!» (ع٤)؛ إن كانت لكم محاكم تتعامل مع أمور هذه الحياة، فهل تعتبرون أولئك قضاة وهم لا ينتمون للكنيسة؟ وبما أن الترجمات المختلفة تطرح معانٍ لعدد ٤ فهو صعب الترجمة ويجب ألا نكون جازمين في التحديد اللفظي، لكن المعنى الأساسي واضح: عندما تكون بين المؤمنين خلافات ومشادات أرضية، يستحيل أن من سيحكمون العالم في المستقبل، ويحاكمون ملائكة يلجؤون إلى محاكم يديرها غير المؤمنين، وبقضاة ليسوا من الكنيسة مطلقًا، فإن تعذر على فريقين مؤمنين الاتفاق فيما بينهما، فعليهم سؤال إخوتهم المؤمنين ليحلوا لهم المسألة، ويكونوا مستعدين لأن يخضعوا لهذا القرار. والمؤمن الأقل إمكانيات الذي يسعى إلى مشورة كلمة الله وروحه، هو الأكفأ في حل النزاعات بين إخوته المؤمنين، من القضاة غير المؤمنين الذين يجهلون الحق الإلهي، رغم كونهم الأكثر تمرسًا وخبرة. ولأننا في المسيح فإننا أعلى في المقام من العالم، وحتى من الملائكة، وبتسوية نزاعاتنا فيما بيننا فإننا نعطي شهادة عن مصادرنا ووحدتنا واتفاقنا واتضاعنا أمام العالم، وأما إذا ذهبنا إلى المحاكم العامة فشهادتنا تكون معكوسة.

لقد خجل بولس من تصرف مَن علَّمهم وخدم بينهم، لذلك قال عن المحتقرين أنهم يعرفون أكثر «لِتَخْجِيلِكُمْ أَقُولُ» (ع٥)، ويستطرد بنغمة نقد «أَهكَذَا لَيْسَ بَيْنَكُمْ حَكِيمٌ، وَلاَ وَاحِدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ؟ لكِنَّ الأَخَ يُحَاكِمُ الأَخَ، وَذلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ!» (ع٥، ٦). إن أكثر علامة ينبغي أن تُميز الإخوة المؤمنين هي المحبة، ويوضح ذلك يوحنا «بِهذَا أَوْلاَدُ اللهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلاَدُ إِبْلِيسَ: كُلُّ مَنْ لاَ يَفْعَلُ الْبِرَّ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ، وَكَذَا مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ. لأَنَّ هذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنَ الْبَدْءِ: أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا» (١يو٣: ١٠، ١١)، إلا أن المحبة لم تميز إخوة وأخوات كورنثوس، بل كانوا يتصرفون كغير المفديين. ولقد ذكّرهم الرسول بولس في أصحاح لاحق أن المؤمن بدون محبة ”نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ“، بل هو ”لَيسَ شَيْئًا“ (١كو١٣: ١، ٢).

أحيانًا في مجتمعنا لا يمكن منع التقاضي أمام محاكم دنيوية عند نزاع بين مسيحيين على حقوق أو ملكية، مثلاً عندما يُطلّق المؤمن من الطرف الآخر يحتاج القانون إلى محكمة عامة لتتدخل في الأمر أو في قضية إساءة إلى طفل أو إهماله يضطر الطرف المؤمن للسعى إلى حماية المحكمة من زوج سابق منحرف، لكن حتى في تلك الحالات الاستثنائية، عندما يجد المؤمن نفسه لسبب ما مضطرًا أن يوجد في المحاكم مع أخ مؤمن، يجب أن يكون شغله الشاغل هو تمجيد الله وليس لكسب مصلحة أنانية، وأما القاعدة العامة فهي: لا تذهب إلى المحكمة مع أخيك المؤمن لكن سووا أموركم فيما بينكم.

(يتبع)


جون ماك آرثر