مَن شق أسدًا مزمجرًا وليس في يَدِهِ شيءٌ؟ مَن قتل ألف رَجُلٍ من الأعداء بِلَحْيِ حِمَارٍ؟ أي رافع أثقال أخذ مِصرَاعَي باب المدينة والقائمتين، وقَلعَهُما مع العارضة التي تزن نحو ألف رطل، ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى رأس الجبل؟ أي خبير هدم، أسقط بيتًا كبيرًا بمجرد دفعة قوية للعمودين المتوسطين بذراعيه؟ إنه يبدو وكأنه سوبرمان. هذا خطأ! إن الإجابة بالطبع عن تساؤلات “صدق أو لا تصدق” هذه، ليست من النسج الخيالي التليفزيوني أو السينمائي، بل هو شمشون الحقيقي المذكور في الكتاب المقدس.
إن للكتاب المقدس الكثير ليقوله عن شمشون، لذلك أفرد أربعة أصحاحات بأكملها لدراسة شخصية ذلك الرجل القوي (قض13- 16). ولا بد أننا نذكر ما قاله الكتاب عن قوته، وأيضًا الكثير مما سجله الوحي عن قاضي إسرائيل القديم هذا. ففي شمشون تجتمع المتناقضات، فنحن نرى أعمال قوته الجسدية الفائقة من ناحية، وتخاذله الروحي الواضح من ناحية أخرى. لقد كان قويًا لكنه كان ضعيفًا! والله أورد هذا التقرير عن شمشون في كلمته، لا لكي نقف مشدوهين لقوة أقوي رجل في العالم فحسب، لكن حتى نتعلم الدروس المسجلة عنه هنا. «لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا» (رو15: 4).
شمشون القاضي
عاش شمشون في فترة حكم القضاة، وكان هو آخر القضاة قبل صموئيل. وبعد موت شمشون مسح صموئيل شاول كأول ملك على إسرائيل. لم تكن فترة حكم القضاة وقت ازدهار روحي في تاريخ إسرائيل، فحالة الشعب تدهورت بعد أيام موسى ويشوع، وكان العصيان هو السبب في ذلك. بل إن ما ميَّز عهد القضاة هو “افعل ما تشاء” لذلك نقرأ في قضاة 17: 6؛ 21: 25 «كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ»، فسمح الرب لأعداء إسرائيل أن يضايقوهم ويستعبدوهم بسبب شرهم. وبشكل دوري كان الإسرائيليون في تلك الأيام المظلمة يصرخون طلبًا للمعونة الإلهية؛ فكان الله في نعمته يُقيم لهم قضاة ليُخلصُوهم من يد ناهبيهم، لكن بمجرد خلاصهم من عبوديتهم لأعدائهم، كانوا يديرون ظهورهم للرب ثانية، ويعودون ليسقطوا في براثن الوثنية والرذيلة.
ظهر شمشون في المشهد في ظروف التقهقر هذه؛ وقت تسلطِ الفلسطينيين عليهم. وكانت الأمور تسير في صفه منذ البداية، وتوافرت له كل أسباب النجاح. ومن قضاة 13 نعرف أنه نشأ في بيت منضبط، بين أبوين يؤمنان بالرب ويعبدانه؛ وعلاوة على ذلك، أنه عُين من الله لكي يخلص إسرائيل من الفلسطينيين (قض13: 5). لقد كان النصر مضمونًا له، فماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟ ثم إنه كان يتمتع ببنية مُميزة أيضًا، فالله حباه لا القوة البدنية فقط، بل أيضًا جمال الصورة، بدليل علاقاته المتعددة مع الفلسطينيات! وفوق كل هذا «بَارَكَهُ الرَّبُّ. وَابْتَدَأَ رُوحُ الرَّبِّ يُحَرِّكُهُ فِي مَحَلَّةِ دَانَ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ» (13: 24، 25). وإذ أُعطي كل هذا كم هو مؤسف أن نقرأ عن نهايته المأساوية: «فَأَخَذَهُ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ، وَنَزَلُوا بِهِ إِلَى غَزَّةَ وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ. وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ» (قض16: 21). وبدلاً من أن يُخلِّص شمشون إسرائيل، أسلم هو نفسه للأعداء. كيف حدث هذا لمن كان كل شيء في صفه؟ أين الخطأ؟
سقطته
إن الأمر لا يحتاج إلى بصيرة ثاقبة لكي نكتشف مفتاح سقطة شمشون، لكنها تطل علينا بوجهها القبيح مرارًا وتكرارًا في قضاة 14- 16. شمشون لا يعرف التعفف. هو لا يستطيع أن يحكم عواطفه. فما يريده يريده في الحال، وكان شعاره “لتكن لا إرادتك بل إرادتي”؛ فمثلاً، انظر إلى عواطفه الجامحة في قضاة 14: 1- 4 حين رأى امرأة فلسطينية وثنية جميلة، وأراد أن يتخذها له زوجة، كان رده الأناني على مشورة والديه التي بحسب رأى الله «إِيَّاهَا خُذْ لِي، لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَيَّ». إن اتخاذ القرارات على أساس مجرد النظرات واللذات، هو دائمًا علامة على انعدام التعفف.
انظر أيضًا إلى ضعف شمشون مع دليلة في قضاة 16، فبسبب محبته الأنانية لتلك المرأة الفلسطينية الخائنة أفضى إليها بسر قوته ونفسه أيضًا: «فَكَشَفَ لَهَا كُلَّ قَلْبِهِ» (قض16: 17). إن مدى ضعف شمشون المذهل يُرى بوضوح، عندما جاءته ثلاثة تحذيرات واضحة لما سوف يأتي عليه (16: 7- 14)، لكنه كان أعمى أمام إعلان دليلة له صراحة لماذا أرادت معرفة سره: «أَخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ الْعَظِيمَةُ؟ وَبِمَاذَا تُوثَقُ لإِذْلاَلِكَ؟» (قض16: 6). كم هو أساسي وحيوي للمؤمن، ألا تكون له علاقة بغير المؤمنات، فالعلاقات العاطفية يُمكن أن تعمي، إلى الحد الذي يجعلنا نفعل أمورًا لم نكن نتخيل قط أن نفعلها؛ أمورًا تتخطى كل معقول. يا لها من بلية تورط نفسك فيها، أن تقع في علاقة عاطفية مع “دليلة”! فلا عجب أن تحذرنا كلمة الله من زواج المؤمنين بغير المؤمنين (2كو6: 14).
نكث العهد
رويدًا رويدًا أخذ عدم ضبط النفس وضعه في شمشون، وبالرغم من أنه أخذ عهد النذير مبكرًا، إلا أنه كسر قواعد الانتذار شيئًا فشيئًا بسبب عيشته الأنانية غير المنضبطة. كان على النذير حفظ العديد من الأحكام حتى لا يختلط بأي شيء يؤثر على انفصاله للرب: «فَعَنِ الخَمْرِ وَالمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ ... كُل أَيَّامِ نَذْرِهِ لا يَأْكُل مِنْ كُلِّ مَا يُعْمَلُ مِنْ جَفْنَةِ الخَمْرِ مِنَ العَجَمِ حَتَّى القِشْرِ. كُل أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لا يَمُرُّ مُوسَى عَلى رَأْسِهِ ... كُل أَيَّامِ انْتِذَارِهِ لِلرَّبِّ لا يَأْتِي إِلى جَسَدِ مَيِّتٍ» ، (عد6: 3-6). أما شمشون فقد كسر كل هذه الفرائض بسبب رغباته الأنانية غير المحكوم عليها؛ فكانت كروم تِمْنَة التي في فلسطين هي آخر مكان يمكن لشمشون أن يتواجد فيه، ناهيك عن زواجه من فلسطينية، الأمر الذي لا يتفق مع وصية الرب لأي عبراني (تث7: 1- 6)، ثم أنه نجّس نفسه بلمس رمة الأسد (قض14: 8، 9)، وبدلاً من أن يتخذ الخطوات اللازمة لتطهيره، استخف بانتهاكاته بأن جعلها جزءًا من أحجيته (قض14: 14)! وأين ألقى شمشون أحجيته؟ في وليمة للفلسطينيين حيث جرت عادة شرب الخمر والمسكر (14: 10).
وفى بداية أصحاح 16 نجد شمشون وقد دخل إلى امرأة، ليست فلسطينية فحسب لكنها فلسطينية زانية. فغلبت عواطفه المسيبة عهوده. وأخيرًا نجد دليلة وقد اتفقت مع الحلاق الفلسطيني عليه! كيف لشمشون أن يفعل هذا؟
لكن ماذا عن أعمال القوة الخارقة التي عملها شمشون ضد الفلسطينيين؟ وحتى في ذلك أيضًا نجده يستخدم قوته المعطاة له من الله لمصلحته الشخصية. تتبع سجل إظهارات القوة العاتية في حياة شمشون، ستكتشف أن دوافعه في كل موقف كانت نابعة من أنانيته البحتة، وليس لمجد الله أو لخلاص إسرائيل؛ وحتى في النهاية عندما منحه الرب سؤله الأخير (قض16: 28- 30) لا نجد ذكرًا للتوبة من ناحيته، بل مجرد طلب أناني «يَا سَيِّدِي الرَّبَّ، اذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللهُ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ».
درس نتعلمه
هناك درس قوى للمؤمنين في كل هذا. ربما أعطانا الله نحن أيضًا الكثير من الإمكانيات، لكننا قد نطيح بها كلها بسبب عدم التعفف. وكشمشون، ربما نكون قد أتينا من خلفية مسيحية منضبطة، حيث تعلَّمنا نصائح كلمة الله ومبادئها، لكن كشمشون ربما ندير ظهورنا لتلك التعاليم الواضحة، لأننا نريد أن نفعل إرادتنا ونذهب في طرقنا الخاصة. وكشمشون، ربما تكون لدينا كل المميزات الجسدية؛ القوة وحسن الصورة والمهارة ... إلخ، لكن كشمشون أيضًا، يمكننا أن نأخذ جمال الصورة والقدرات التي وهبنا الله إياها ونستخدمها لننغمس في ملذاتنا الأنانية وعواطفنا المسيبة. وحتى مواهبنا الروحية يمكن أن نُسيء استخدامها بسبب مآربنا الشخصية وطموحاتنا. فبدون التعفف يصبح المؤمن صاحب إمكانيات القوة الهائلة، ضعيفًا كشمشون. إن ضبط رغباتنا الأنانية هو أمر في غاية الأهمية، وله ضرورة قصوى في الحياة المسيحية؛ وينصحنا بطرس أن نستخدم الاجتهاد لكي نضيف إلى إيماننا تعففًا (2بط1: 5- 7) كما تؤكد لنا الرسالة إلى غلاطية 5: 16-23 أن المزيد من التعفف متاح لنا، ويعطَى لأولئك الذين يجعلون من أمور الله قمة لأولوياتهم.
عزيزي: هل تحتاج إلى المزيد من التعفف؟ ما هي أولوياتك؟
وبالرغم من افتقار شمشون إلى التعفف إلا أن الله استمر يستخدمه (قض 14: 4، 19؛ 15: 14). وتؤكد لنا الرسالة إلى العبرانيين أن شمشون كان مؤمنًا (عب11: 32)، وكل هذا يشجعنا نحن الذين كثيرًا ما نتصرف بأنانية كشمشون، إنَّ الله يستطيع أن يستمر يُتمّم مقاصده من خلالنا، لكن كم يكون أعظم لو أخضعنا زمام أمورنا لقيادته، وميَّزنا عُظم فوائد إمكانياتنا.
ديفيد ريد