ساعة الإحياء، وساعة الإقامة من الموت
«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يو5: 25-29).
هذه الآيات قالها الرب يسوع للجموع في واحد من أعظم أحاديثه المسجلة له في إنجيل يوحنا، والذي أعلن فيه بكل وضوح لاهوته ومعادلته للآب. وكان الرب قد قاله بعد أن شفى الرجل المقعد لمدة ثمانية وثلاثين عامًا في بركة بيت حسدا. وهذه الأقوال يشير فيها الرب إلى ساعتين، وهناك ثمة ارتباط بين هاتين الساعتين، ولو أنه بينهما أيضًا اختلافات هامة سنوضحها في حينه.
لقد أساء البعض فهم ناسوت ابن الله ليطعنوا به في لاهوته، لكن هؤلاء الرافضين وغير المؤمنين لن يفلتوا من الدينونة، وهو سيدينهم باعتباره ”ابن الإنسان“ الذي احتقروه ولم يقدروه!
والرب هنا يبدأ حديثه بالعبارة التي يستخدمها دائمًا عند النطق بإعلان هام، فقال لهم: «الحق الحق أقول لكم»، ثم نطق بإعلانه عن الساعة الأولى. وبعد ذلك تحدث في الآيتين التاليتين 26و27 عن حقين عظيمين يمكن اعتبارهما الوصلة بين إعلانه عن الساعة الأولى وإعلانه عن الساعة الثانية. وإذ أظهر بعض السامعين التعجب، فإنه أردف قائلاً: «لا تتعجبوا من هذا» ثم ذكر لهم إعلانه العظيم بخصوص الساعة الثانية.
في الآية 26 يؤكد المسيح على أنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حيـاة في ذاته. وترينا هذه الآية أن المسيح برغم كونه الابن الأزلي، والواحد مع الآب، لكنه يُنظر إليه هنا لا باعتباره الكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد، بل كالمرسل من الآب، والخادم للمقاصد الإلهية. فهو كالابن الأزلي «يحيي من يشاء» (5: 21)، ولكنه كالمرسل من الآب، وباعتباره الذي أخلى نفسه، فقد أعطاه الآب «أن تكون له حياة في ذاته» (5: 26).
وأما الإعلان التالي في ع27 فهو أن الآب أعطى الابن سلطانًا أن يدين أيضًا، لأنه ابن الإنسان.
الرب يسوع إذًا يتكلم هنا عن استخدام القوة التي فوضه الآب باستخدامها في إرساليته للعالم، في اتجاهين مختلفين، أعني بهما: الإحياء والدينونة. ذلك لأن الله – كما أشار المسيح قبل ذلك - يريد إكرامًا لابنه من الجميع (ع23). فقصد أن من يسمع صوته الآن، ينال الحياة ويكرم الابن، ومن لا يسمع الصوت الآن ولا يؤمن، سيأتي الوقت الذي فيه سيسمع صوته حتمًا.
هاتان هما الساعتان اللتان يتحدث عنهما المسيح، ويشير بالتالي إلى حقبتين متباينتين: الإحياء الآن، والإقامة من الموت في المستقبل. إذًا فنحن هنا أمام إعلانين عظيمين، جدير منا أن نعطيهما كل انتباهنا.
أولاً: ساعة الإحياء
قال المسيح: «تأتي ساعة وهي الآن حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ».
هذه الساعة تشير إلى كل فترة النعمة الحاضرة، الفترة المسماة: ”تدبير نعمة الله“. ويقول المسيح عن هذه الساعة إنها أتت بالفعل، فهي بدأت بظهوره بالجسد، وخروجه - تبارك اسمه - للخدمة. وفي هذه الساعة يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون.
لقد تعجب السامعون في ذلك اليوم مما قاله المسيح (ع28). وأعتقد أن الآية السابقة تحتوي على ثلاثة أسباب على الأقل تدعو الإنسان الطبيعي إلى التعجب من كلام المسيح:
السبب الأول أنه بحسب هذه الآية يُنظر إلى الإنسان بصفة عامة أنه ميت بالذنوب والخطايا. فرغم كون جميع اليهود أولاد إبراهيم، ورغم كون الغالبية العظمى منهم حريصين على الممارسات الدينية، ورغم تحلي البعض منهم بمكارم الأخلاق، فإنهم يعتبرون - رغم كل ذلك - أمواتًا روحيًا. فيقول المسيح ”تأتي ساعة .. حين يسمع الأموات“. هذا معناه أنه لا العقيدة الصحيحة، ولا الممارسات الدينية، ولا السلوك الراقي يمكنها أن تهبنا الحياة!
إن صوت ابن الله بمجرد أن يصل إلى الأموات بالذنوب والخطايا، ولو كان قد مر على موتهم عشرات من السنين، ولو كانوا أنتنوا في قبور خطاياهم، فإنهم بمجرد أن يسمعوا صوت ابن الله، فإنهم يحيون!
والسبب الثاني للعجب: هو أن الميت - كما نعلم - لا يسمع، لكن المسيح يقول هنا ”يسمع الأموات صوت ابن الله“. كيف يمكن أن يكون هذا؟ الإجابة إن صوت ابن الله له إمكانية اختراق الموت، وأن يصل إلى المائتين، ويجعلهم يسمعون!
والسبب الثالث للعجب: أن صوت ابن الله بمجرد أن يصل إلى الأموات بالذنوب والخطايا، ولو كان قد مر على موتهم عشرات من السنين، ولو كانوا أنتنوا في قبور خطاياهم، فإنهم بمجرد أن يسمعوا صوت ابن الله، فإنهم يحيون!
وعلى طول كتابات يوحنا الرسول نتعلم أن الحياة هي نصيب حاضر للمؤمن، وأنها عطية يقدمها ابن الله، ذاك الذي «فيه كانت الحياة»، والذي «يحيي من يشاء»، كما أنه يتم الحصول على هذه العطية بالإيمان.
كما أن هذه الآية توضح لنا أن وسيلة الأحياء هي صوت ابن الله، وشرط الإحياء هو الاستماع لهذا الصوت. وتتضمن كلمة ”السامعون“ الطاعة لهذا الصوت، والإيمان القلبي أيضًا.
وإن كانت الجموع تعجبت من كلام المسيح في ذلك اليوم، فإننا نحن أيضًا نتعجب، ليس لما قاله ابن الله، بل لأن الأكثرية من الأموات في ذلك اليوم وحتى اليوم، لم تسمع ولم تنل الحياة. نعم نحن قد نفهم عجز الإنسان تحت الناموس، لكن العجيب والمحزن حقًا احتقار الإنسان لنعمة الله. فالله الآن لا يطلب شيئًا من الإنسان، كما كان يفعل في تدبير الناموس، بل هو يقدم له عطية النعمة بالإيمان، وعطية الحياة بالمجان؛ ثم إن هذه العطية الآن لا تخص شعبًا واحدًا، بل هي متجهة لكل البشر دون استثناء.
نحن قد نفهم عجز الإنسان تحت الناموس، لكن العجيب والمحزن حقًا احتقار الإنسان لنعمة الله. فالله الآن لا يطلب شيئًا من الإنسان، بل هو يقدم له عطية النعمة بالإيمان، وعطية الحياة بالمجان
لكن كما أفسد اليهود الشهادة التي كانت من امتيازهم، إذ تحولوا عن الرب وعبدوا الأوثان، وكسروا الناموس، هكذا الأمم الآن أفسدوا الشهادة الأعظم التي تحدث المسيح عنها هنا، إذ تحولوا إلى الطقوس والفرائض، مهملين العطية العظمى المقدمة إليهم، عطية الحياة الأبدية، عن طريق الاستماع إلى صوت ابن الله!
أسفي على أولئك الذين أبعدوا أنفسهم وأبعدوا البشر معهم عن نعمة الإنجيل الغنية، مهملين خلاصًا هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به. أسفي أيضًا على الذين تجاهلوا تلك العبارة العظيمة التي نطق بها المسيح بنفسه، مصدرًا إياها بالقول: «الحق الحق أقول لكم»، وحولوا المسيحية لممارسة طقوس، فلا هم سمعوا صوت ابن الله، ولا هم نالوا الحياة, لكن – من الجانب الآخر - نشكر الله على الملايين التي سمعت، فكان صوت ابن الله كافيًا لأن ينشئ فيهم حياة روحية، ونالوا فيه الحياة الأبدية.
(يُتبَع)