«لأنه لا بد أن نموت، ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضًا. ولا ينزع الله نفسًا، بل يفكر أفكارًا حتى لا يطرد عنه منفيه» (2صم14: 14).
هذه الآية قالتها المرأة التي من تقوع، والتي كلفها يوآب بن صروية أن تدخل إلى الملك وتحكي له قصة من نسج خياله، حتى يمكنه إرجاع أبشالوم بن داود الهارب عند جده تلماي ملك جشور، بعد جريمته البشعة بقتل أخيه الشرير أمنون، الذي نجس أخته ثامار.
ولقد كانت واحدة من نقاط الضعف في حياة الملك داود رقته الشديدة مع أولاده، متغاضيًا عن قداسة الله. فيخبرنا الوحي أن داود بمرور الوقت تعزى عن مقتل ابنه، وحن إلى رؤية أبشالوم قاتل أخيه، واستغل يوآب الشرير هذا الميل عند داود (ع1)، وأراد أن يكسب لصالحه نقطة عند كل من داود وأبشالوم في آن، ضاربًا بحق الله عرض الحائط، فهذا لم يكن له قيمة ما في نظر يوآب.
والقصة التي سردتها تلك المرأة على داود، هو أنه كان لديها ولدان، تخاصما في الحقل وليس من يفصل بينهما، فقام الواحد على الآخر وقتله. وطالبت العشيرة كلها بتسليم القاتل ليقتلوه، وهذا مطلب بار (خر21: 12؛ لا24: 17؛ عد35: 16-19؛ تث19: 1-13). وهنا توسلت المرأة من أجل ولدها لئلا يُقتل فلا يبقى هناك وارث، ولا من يحمل اسم رجلها. لقد غلَّبت هذه المرأة العطف على العدل والشفقة على البر. فتعاطف داود معها، ووعدها بحفظ حياة الأخ القاتل.
ولثاني مرة ينطق داود بكلام ضد نفسه دون أن يدري. كانت المرة الأولى عندما حدثه ناثان النبي بقصة الغني الذي ذبح نعجة الرجل الفقير، فنطق داود بالعدل ضد نفسه (2صم12: 5و6). وهنا ينطق داود بالعطف، ولكنه في ذلك كان مخطئًا ضد شريعة الله، التي كان المفروض فيه أن يحميها وينفذها، وسوف يحصد داود علقمًا من وراء هذا (2صم15-18).
وثلاث مرات تتحدث المرأة إلى الملك طالبة تدخله، فلم يؤكد لها إحياء ابنها فقط، بل غلظ الوعد بقسم. وإذ وصلت المرأة التقوعية إلى مرادها، فقد ذكَّرت داود بما هو حادث في بيته. وقالت له: لماذا افتكرت بمثل هذا الأمر على شعب الله؟ أوَلا يكون الملك كمذنب إذ أصدر هذا الحكم في قضيتي، بما أنه لم يرد ابنه من منفاه. ثم ذكرت الآية موضوع السؤال: «لأنه لا بد أن نموت، ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يُجمع أيضًا. ولا ينزع الله نفسًا، بل يفكر أفكارًا حتى لا يطرد عنه منفيه».
في جزء الآية الأول فإن المرأة قللت من بشاعة خطية أبشالوم، معتبرة أن الموت هو واقع سيحصل علينا كلنا بطريقة أو بأخرى. ثم إن الموت متى حدث – كما في مسألة أمنون - فإنه لا يمكن إرجاع الميت ثانية، فلماذا ننشغل بالماضي الذي لن يعود. وإذ غضت المرأة الطرف عن مطاليب الله العادلة والتي كان يجب على داود باعتباره ولي الدم، وأيضًا باعتباره الملك أن يقوم بإجرائها بنفسه (عد35: 33)، فقد تجاوزت ذلك في النصف الثاني من الآية، إذ اعتبرت الله يفكر لصالح المخطئ، الذي هو أبشالوم، والذي اتضح من بقية قصته أنه لم يتب، واعتبرت أن الله يفكر أفكارًا ويدبر خططًا لإعادة المنفي إلى وطنه، فجعلت الله بذلك خادمًا للخطية!
لقد أنكرت المرأة على الله في كلامها نزع النفس، منكرة شريعته القديمة والصريحة من جهة القاتل وحتمية موته (تك9: 5و6)، وهي بهذا تذكرنا بكلام بعض أصحاب البدع من أن الله لا يمكن أن يخلق جهنم ولا أن يطرح الأشرار فيها، لأن «الله محبة» (1يو4: 8)، وينسون «أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (1يو1: 5).
والدروس التي نتعلمها من هذه القصة كثيرة:
فأولاً لنحذر من الخطية، فكل هذا الذي حدث في بيت داود جاء نتيجة خطية طائشة، التذ داود بها إلى لحظة، ثم ظل يجرع مرارتها حتى نهاية حياته.
ثم إنه حسن أن يكون عندنا عواطف من نحو ذوينا، ولكن لنحذر من أن تحولنا عواطفنا عن طريق الطاعة البسيط لكلمة الله، كما حدث من داود.
وأخيرًا هناك درس من كل من أبشالوم ويوآب، فإن تحالفهما الأثيم، والذي لم يعط اعتبارًا لقداسة الله ولا لبره كان لا بد أن ينتهي نهاية أسيفة، فأبشالوم في آخر الأصحاح أحرق حقلة يوآب، ويوآب بعد ذلك هو الذي قتل أبشالوم بيده (2صم18: 9-15).