جاءت أمٌّ مُحبّة، تريد ككل الأمهات أن تضمن مستقبل أولادها وقالت للمسيح: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ» (مت٢٠: ٢١). ربما كانت تحلم بالاستقرار المادي والمركز الاجتماعي المضمون؟ إنها إنسانة تتمنّى أن تتحوّل إلى أم الأمراء، ولسان حالها: متى يتحوَّل الحلم إلى حقيقة؟
لكن كنت أرجو أن أسألكما يا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي، يا تلميذا ورفيقا المُعلِّم: مَن هو صاحب فكرة هذه المبادرة؟ لمَ اختبأتما وراء أمّكما؟
بكلماتها المذكورة، كانت أم رفيقيهم سبب عثرة وإزعاج للرُّسُل العشرة الآخرين، الذين اغتاظوا من محاولتها لانتزاع مكانة خاصة لولديها، قبل الوقت، وعلى حسابهم، لكن غيظهم واستيائهم الواضحين كان من الأخوين، وكأنهم عرفوا الدافع الحقيقي لأقوال أّمهما «فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ» (مت٢٠: ٢٤).
قد تقول: لقد دعاهما المسيح “ابْنَيِ الرَّعْدِ“ (مر٣: ١٧)، فلربما أرعدا بكلمات متسرّعة، كما قالا مرة لسَيّدهما عن السامريين: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟» (لو٩: ٥٤).
لكن وللأسف، لم يكن العشرة أفضل منهما، أو أرقى في تفكيرهم، ورأى الرب أن قلوبهم جميعًا كانت مشتاقة للسيادة والسلطة، فكانوا محتاجين لكلمة تخترق قلوبهم: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدً» (مت٢٠: ٢٦، ٢٧).
منهم مَن لم يكن يستطيع الانتظار لملكوتٍ موعود لا يؤمن به أصلاً، فكان يسرق صندوق التبرعات طالما هو في عهدته، فالمال الموجود هو “عصفور باليد” أطبق عليه يهوذا الإسخريوطي الذي رأى نفسه وزيرًا للمالية، قبل أن يأتي ذلك الملكوت. كان لسان يهوذا يُنبّر على مساعدة الفقراء، لكن كل فكره كان في السرقة أكثر وأكثر... وسريعًا صار السارق خائنًا ثمّ نادمًا دون توبة، فقتل نفسه، وذهب إلى مكانه.
أيضًا كان هناك آخرون ممّن أرادوا الملكوت بتوقيتهم، وكان موقفهم مزعجًا. فعندما قال يسوع إنه: «يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ» (مت١٦: ٢١)، ورغم أنهم «لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ» (لو١٨: ٣٤)، لكن لم يعجبهم ذلك؛ فمنهم مَن حزن (مت١٧: ٢٣)، أو ربما عاتب، أو كبطرس الذي انفرد به وابتدأ ينتهره قائلاً: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» (مت١٦: ٢٢). كأني بهم يقولون لسيّدهم: “هذا لا يوافق حساباتنا، نحن نريد الملكوت الآن لنعوّض به سنوات الحرمان والفقر التي قضيناها نحلم بأن نتخلّص من الرومان ونكون نحن السادة بلا منازع ... لا تحرمنا هذا!”
من الناحية الأخرى - ويا للسخرية - فإن لسان كل واحد منهم كان سبّاقًا في الكلام والوعود باتّباع الرب في أحلك الظروف، فيعقوب ويوحنا قالا دون تردّد أنهما يستطيعان أن يشربا الكأس التي سيشربها السيّد، وبطرس قال بأكثر تشديد: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ! وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ» (مر١٤: ٣١). ألم تسمع مُعلِّمك يا بطرس عندما قال: «مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت١٠: ٣٣)، لكن الرب طلب لأجلك لكيلا يفنى إيمانك، وأعطاك الفرصة للرجوع الحقيقي إليه.
في الساعة الحاسمة هرب من هرب، وأنكر من أنكر ... وخان من خان، لكن العجيب هو رب المجد الذي أحبّ كلّ هؤلاء، وعرف أفكارهم، لكنه في كل مسيرته معهم لم يهدّد ولم يستهزئ، لم يقبّح ولا عيّر أحدًا منهم. أذكر أن يسوع في آخر كلماته ليهوذا وهو آتٍ ليسلمه إلى اليهود خاطبه بعبارة: «يَا صَاحِبُ» (مت٢٦: ٥٠)، وأن الثلاثة المذكورين آنفًا بطرس، يعقوب ويوحنا كانوا الثلاثية المقرّبة من المسيح في خدمته على الأرض. كان طويل الروح محتملاً ضعفاتهم، وحتى غباوتهم، وكثيرًا ما كان يُجيبهم بتساؤل هدفه التبكيت، والتوجيه البناء، والتشجيع الذي لا يمكن أن نسمعه من آخر.
إنه ذات الشخص الذي يحبّك، ويُوجّهك بكل أناة، لتُصحّح أولوياتك، بل ويعطيك - في ابتعادك - الفرصة تلو الأخرى لترجع إليه. إنه إله الفرص، لكن سر معه بتوقيته، وبلا شروط. وتيقّن أنك دائمًا ستبقى إنسانًا ضعيفًا محتاجًا لمعونته التي لن يبخل بها عليك أبدًا.
التفت إليه، وأمسك بيمينه القديرة متّكلاً عليه واثقًا به، فهو لا يهملك ولا يتركك، عينه عليك ... أما إصرارك على تحقيق ما تريد، كيفما تريد، وقتما تريد، فلن يجلب لك إلاّ الهزال الروحي والتشتت الفكري، ممّا يؤثر سلبًا على حياتك بجملتها.
صدّقني أيها العزيز، إنّ ترتيب الله وتوقيته هو الأفضل دائمًا، فهو الذي صنع الكل حسنًا في وقته وكلامه دائمًا يتم في وقته، بل اسمعه يقول: «أَنَا الرَّبُّ، فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ» (جا٣: ١١؛ لو١: ٢٠؛ إش٦٠: ٢٢).