معمودية الروح القدس
مواهب الروح القدس
أفسس4؛ كورنثوس الأولى12- 14
من المهم أن نلاحظ الفرق الواضح الذي يُظهره الكتاب المقدس، بين عطية الروح القدس، والتي كنا نتأمل فيها في الشهور الماضية، وبين مواهب الروح القدس، والتي بمعونة الرب سنتأمل فيها قليلاً الآن. إن عطية الروح القدس هي عامة لكل ابن لله في حالته العادية الآن، حيث إن كل شخص وُلد من الله، وآمن بابن الله، ويعرف ما يعنيه الفداء الذي بدم المسيح، وغفران الا، مثل هذا الشخص لا بد أن يكون قد قَبِلَ وعد الآب، أي عطية الروح القدس.
وفي الحقيقة، لا يُعتبر الشخص مسيحيًا بمعنى الكلمة، إذا لم يكن له الروح القدس. لذلك فإن عطية الروح القدس هي التي حينما تُقْبَل، تضع النفس في المركز المسيحي الحقيقي. لكن لا يتبع ذلك أن كل شخص قد نال عطية الروح، بالضرورة يكون مُشاركًا في مواهب الروح القدس، التي ذُكر بعضها في أفسس 4. وأقول بعضها، لأنك لا تجد في أي مكان في العهد الجديد قائمة كاملة لهذه المواهب الروحية، التي سُرَّ رأس الكنيسة أن يعطيها بواسطة الروح القدس لبعض الأعضاء من جسده هنا على الأرض. ونحن نقرأ عن هذه المواهب في رومية 12؛ كورنثوس الأولى 12؛ ومرة أخرى في الأصحاح الرابع من رسالة أفسس.
وقد قصد الله أن يضعها في أماكن متعددة في كلمته، حتى تبحث النفس الراغبة والمُحِبَة للكلمة، لكي تتعلم وتعرف فكر الله من جهة هذا الأمر. فضلاً عن ذلك ستجدون بحسب المكان الذي ذُكِرَت فيه هذه المواهب وأعلن عنها، أن هناك اختلافًا واضحًا في الوجهة التي تُقدَّم فيها، كما في المصدر الذي تأتي منه:
ففي رومية 12 نجد أن الكل يفيض من الله.
وفي كورنثوس الأولى 12، الكل يفيض من الروح القدس.
أما في الأصحاح الرابع من رسالة أفسس، فالكل يفيض من رأس الجسد المرتفع، الإنسان الممجد في يمين الله، الرب يسوع.
مثل هذا الاختلاف بلا شك هام وله مغزى.
المواهب الروحية في أفسس4
أول كل شيء سنتأمل في الأعداد التي في رسالة أفسس 4: 7- 16، والتي تكشف بكل جمال وتقدم لنا الرب يسوع نحو شعبه الذين على الأرض.
وكما نعلم، فإن رسالة أفسس تقدم الكنيسة كجسد المسيح، متحدة بالروح القدس معه حيث هو الآن في المجد. ولذلك فهي من حيث مصدرها، وطبيعتها، ونصيبها، جسد سماوي. إن الرأس هو في السماء، والجسد على الأرض، وبالتالي يحتاج هذا الجسد إلى كل أنواع الإعانة والقوت لأجل النمو والبركة، والتي لا يقدر أن يزوده بها إلا الرأس فقط. إن الجسد هو جسد واحد، كما يُخبرنا الرسول في العدد الرابع «جسدٌ واحد، وروحٌ واحد، كما دُعيتم أيضًا في رجاء دعوتكم الواحد». إن كل ما يحتاجه هذا الجسد، بينما يعبر هذا المشهد، هو مجهز من الرأس الذي في المجد. ذاك الذي يحب بمحبة عميقة لا تُطفأ ولا تُخْمَد، كنيسته، جسده الذي على الأرض.
ولكي يقوت ويربي تلك الكنيسة، يعطي ما هو مقدم لنا هنا. ففي العدد السابع نجد الاختيار والسلطان المُطلق للمسيح في توزيع المواهب، حيث نقرأ: «ولكن لكل واحد منا أُعطِيَت النعمة حسب قياس هبة المسيح». إن الرب في سلطانه، سُرَّ أن يعطي هذه المواهب الروحية حيث يشاء. إنه يختار ويعد أواني معينة لأجل أعمال معينة، بحسب مشيئته. إن الأمر غير مرتبط بمشيئة الإنسان، أو اختيار الإنسان، ولكن نعمة المسيح المطلقة، وبالتالي فإنه من الجهل التام، أن يكون هناك مشاجرة من جهة ما هو موجود أو غير موجود في إناء معيَّن. إنك تتشاجر مع رأس الجسد. أنت تسأل، لماذا ليس لذلك الشخص كذا وكذا؟ إنه تساؤل حول سلطان المسيح. إنه يجعل واحدًا مبشرًا، وآخر معلمًا، وآخر راعيًا، ونادرًا ما يجمع الكل في شخص واحد، كما تفعل المسيحية الاسمية في تعييناتها الخدمية. إنه يعطي مؤهلات روحية، وعادةً لياقة طبيعية لأجل الخدمة الخاصة، مُعطيًا «كل واحد على قدر طاقته»، كما نقرأ في مَثَل الوزَنات في متى25: 15.
والآن لنرى من أين فاضت هذه المواهب، لأنه أمر في غاية الأهمية أن يكون ذلك واضحًا تمام الوضوح. إن تلك الخدمة، التي هي إظهار الموهبة الروحية، لها مصدرها الوحيد فقط في المسيح. فأنت لا تستطيع أن تصنع خدامًا. ومن حيث أنَّ الموهبة مُعطاة من المسيح، فالأمر لا يحتاج إلى معونة الإنسان أو تعليمه ليجعلهم خدامًا. لقد جعلهم المسيح هكذا بنعمته المطلقة بالنظر إلى حاجة جسده. وإذا لم يكونوا موهوبين بواسطة المسيح، فإن التعليم الإنساني، وحتى المقدرة الإنسانية للتكلم، سوف لا تجعلهم أبدًا معونات حقيقية روحية. إن الخدمة هي ممارسة موهبة روحية، قد أتت من الرب يسوع، الذي جعل بعض الأعضاء من جسده خدامًا بحسب نعمته المطلقة واختياره.
وأسأل مرة أخرى: من أين تفيض هذه الخدمة؟
لا يوجد شيء أجمل من العدد التالي «لذلك يقول، إذ صعد إلى العَلاء، سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا» (أف4: 8). نجد هنا ثلاثة أشياء قيلت عن الرب يسوع كإنسان.
فهو أولاً: الإنسان المرتفع الممجد،
ثانيًا: كإنسان هو صعد بعد أن سبى سبيًا، إذ غلب قوة الشيطان وسلطانه،
وثالثًا: حينما صعد كإنسان، قَبِلَ وأعطى الناس عطايا.
وكما نعلم، هذا العدد هو اقتباس من المزمور الثامن والستين، وسأذكره لأن الطريقة التي بها يُقَدَم في هذا المزمور مختلفة قليلاً: «صعدت إلى العلاء ـ سبيتَ سبيًا. قبلت عطايا بين الناس، وأيضًا المتمردين (أو للمتمردين) للسكن أيها الرب الإله (أو لكي يستطيع الرب الإله أن يسكن بينهم)» (مزمور68: 18). إن كونه صعد إلى السماء كإنسان نجده بوضوح في الأصحاح الثاني من سفر الأعمال. ليتنا نتحول إليه. في العدد الثاني والثلاثين نقرأ: «فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه». إنه كالإنسان المرتفع الظافر والغالب، قَبِلَ عطايا في شخصه. وأول كل شيء قَبِلَ الروح القدس بهذه الطريقة الجديدة كإنسان في المجد لأجلنا. لكنه قَبِله لغرض خاص مزدوج، ليس فقط لكي يعطي ذلك الروح لكل خاصته على الأرض، كالمعزي الساكن فيهم، لكن أيضًا لكي يجعل البعض منهم مستودعًا للقوة الروحية بذلك الروح، لتقديم الشهادة لمجده.
إنه يجعل تلك الأواني التي كانت قبلاً مُستعبدة للخطية والشيطان، أواني لنعمته للشهادة للآخرين المحيطين بهم «قبلت عطايا بين الناس، وأيضًا المتمردين للسكن أيها الرب الإله». وبالحقيقة جميل أن نرى المكان الذي منه تفيض الخدمة، وهو الرب يسوع كرأس الكنيسة المرتفع في المجد.
خدمة المسيح مستمرة وهو في السماء
لقد كان المسيح هنا على الأرض، وقد رأى بؤس وشقاوة الإنسان، ورأى أيضًا شر وعداوة الشيطان، وقد هزم الأخير، بينما خَلَّص الإنسان، ثم ذهب إلى الأعالي ليباشر ويستمر في عمل نعمته. ذلك ما يوضحه العدد التالي من أصحاحنا «وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضًا أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل» (أف4: 9، 10).
لقد كان هنا في هذا المشهد كإنسان، وواجه مَن غلب الإنسان وأسره ـ أي الشيطان. لقد هزمه أدبيًا في البرية، حينما جُرِبَ إلى المنتهى لمدة أربعين يومًا كما تعرفون، وقد غلب ذلك العدو تمامًا، بالاتكال على الله، وطاعته، ولذلك فارقه. ثم خرج، وإذ ربط الرجل القوي، نهبَ قصره، العالم، سالبًا أمتعته ـ بتعبير آخر، مخلِّصًا أسراه ومُحررًا إياهم. لكن لا يزال هناك عمل ليعمله، إذ كان عليه أن يتولى قضية الخطية، وأن يواجه حجة الشيطان على الإنسان كخاطئ. أكثر من ذلك كان يجب أن يرجع هو نفسه إلى المجد، وعلى أساس العمل الذي كان عليه أن يتممه، سيأخذ أولئك الذين هم له معه إلى هناك. لذلك فإن نزوله إلى أقسام الأرض السفلى، لم يكن المقصود به إتيانه من السماء إلى الأرض، حينما اتخذ لنفسه ناسوتًا، لكن المقصود هو الصليب وما تبعه.
لقد نزل الرب يسوع إلى الموت كدينونة الله على الإنسان، وبالموت أباد ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. كما أبطل الموت، وصار الظافر الكامل بقيامته من بين الأموات. لقد انتصر بالموت، وأستطيع أن أقول إنه في وسط مملكة الشيطان، في دائرة الموت، الذي غلب كل إنسان آخر، نراه منتصرًا ظافرًا، لأنه قام من الموت، ثم ذهب إلى الأعالي، وملأ كل شيء، بمحبة وقوة ومجد الفداء، الذي أكمله.
لقد ذهب إلى السماء! لأي غرض؟ ليس لكي يبرهن على نُصرته على الشيطان كالإنسان المتواضع، المطيع، المتكل على الله، الذي أخلى نفسه، لكنه صعد إلى هناك لكي يستطيع أن يأخذ معه أولئك الذين خلَّصهم بنعمته. «إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا». حينما جاء الرب إلى الأرض، ماذا وجد؟ وجد الشيطان هو سيد المكان، والإنسان عبد مسكين مُستسلم، مربوطًا في عجلات عربة الشيطان المنتصر. لكن آه! يا له من تغيير عمله المسيح. لقد تغيَّر الكل. فليس الشيطان هو المنتصر الآن والإنسان المسبي، لكن الإنسان في المسيح هو المنتصر، والشيطان هو المسبي الذي هُزِمَ تمامًا من جهة سلطانه، وذلك بطاعة وموت يسوع.
والشيء الأول الذي عمله الرب عندما اجتاز إلى المجد وقَبِلَ الروح القدس، هو أن أرسله إلى الأرض. لأي غرض؟ لكي يستخدم أولئك الذين كانوا أسرى الشيطان، والذين قد حررهم وخلَّصهم، في إذاعة ونشر الأخبار المُفرحة التي ستحرر ربوات لا تُحصى من الأسرى المساكين، وهذا هو البرهان الوحيد الحاضر على مُلاشاة قوة الشيطان. وآه! إنه أمر رائع أن يكون الإنسان إناءً لتقبُّل أية موهبة من المسيح، ليس لاستخدامها لأجل تمجيد ذواتنا، ولكن لأجل نشر الشهادة لابن الله، بطريقة تحمل البركة معها لآخرين مُحيطين بنا.
وفي العدد الحادي عشر من أفسس4 تُذكر بعض المواهب المُعطاة حيث نقرأ: «وهو أعطى البعض أن يكونوا رُسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين». وأنا أعتقد أن هذا يعني، ليس فقط أن الرب أعطى مقدرة وطاقة روحية خاصة، أو قوة روحية لأشخاص معينين، لكن بالحري أنه إذ منح هؤلاء الأشخاص قوة روحية، وجعلهم ممتلكين لموهبة خاصة، أعطاهم بهذه الطريقة المتميزة إلى جسده الكنيسة أو الجماعة. إن الرعاة والمعلمين هم ما يمكن أن نسميهم موهبة متصلة. وهم يظهرون أنهم مرتبطون في شخص واحد، كما سأبين لكم حالاً. إن الواحد منهم ذو قيمة قليلة جدًا بدون الآخر، ومن جهة الفائدة العملية نجد أنهما غالبًا متحدان في الشخص نفسه. إن الشخص الذي هو معلم فقط بدون أن يكون راعيًا، من النادر أن نرى خيرًا كثيرًا من تعبه، والرجل الذي هو راعٍ فقط دون أن يكون معلمًا، ليس له نفس دائرة النفع أو الفائدة، التي ستكون له، إذا كان له أيضًا القوة ليعلِّم. إن الرب يضعهما هنا معًا.
(يتبع)
و. ت. ب. ولستون