«خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب» (يوحنا 11: 50)
في العدد السابق بدءنا الحديث عن نبوة قيافا رئيس الكهنة عن موت المسيح. وعرفنا أن خلفية النطق بهذه النبوة كانت المعجزة العظيمة التي عملها المسيح، معجزة إقامته للعازر من الأموات. وهذه المعجزة، وإن لم تكن هي علة صلب المسيح الأساسية، فإنها على الأقل – نتكلم إنسانيًا - عجلت به. لقد كانت كأس قادة الأمة الأشرار مليئة بالحقد ضد مسيح الله، ولكن تلك الكأس بعد المعجزة طفحت. فوطدوا العزم - مهما كانت المعطيات – أن يقتلوا المسيح.
ولقد عقد رؤساء الكهنة والفريسيون جلسة استثنائية لمجمع السنهدريم ليبحثوا في الأمر، وفي هذه الجلسة نطق قيافا رئيس الكهنة بشهادة عظيمة عن ضرورة موت المسيح وأهميته ومعناه، وأثبتت الأيام التالية أن أقواله كانت ذات صبغة نبوية، تجاوزت بكثير مدارك الشخص الذي نطق بها.
أ قيافا أيضًا بين الأنبياء؟!
يخبرنا البشير يوحنا أنه في هذا الاجتماع الاستثنائي الذي عقده رؤساء الكهنة والفريسيون لبحث موقفهم من الرب يسوع، قال فياقا: «إنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا». ثم يعلق البشير على ذلك: «وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ».
وهو أمر مدهش أن يتنبأ رجل مثل هذا، في سنة مثل هذه، في موضوع مثل هذا. ومن هذا نتعلم شيئًا رائعًا ومباركًا، أن الله لا يُحد، وأنه قادر أن يستخدم الأبرار، كما يستخدم الأشرار، حسب إرادته.
ولكننا نحن الذين نعرف كلمة الله جيدًا، لا ينبغي أن نتعجب كثيرًا من استخدام الله لقيافا هنا، فالله قبل ذلك جعل شاول الملك الشرير يتنبأ. بل إننا نتذكر أيضًا قبله بلعام العراف الشرير، والذي - رغم شر قلبه - فإن الله استخدمه ليعلن حقًا عظيمًا. ومع أن بلعام كان يبغض إسرائيل، إلا أن الرب استخدمه رغمًا عنه للنطق بالبركة عنهم.
بل إن المسيح في موعظته فوق الجبل أخبرنا عن كثيرين سوف يقولون له في ذلك اليوم: «يا رب يا رب: أ ليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟» حينئذ سوف يصرح لهم: «إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (مت 7: 22، 23). وكما قال أحدهم: ”إن كلمات النبوة في الفم، لا تعد دليلاً على وجود النعمة في القلب“. فهؤلاء جميعًا الذين ذكرناهم الآن استخدمهم روح الله، ولكن قلبهم المظلم بقي على حاله، فلم يتغيَّر.
إذًا فقد كان قيافا هنا مثل بلعام، يتكلم بنبوة عظيمة، ولكنه لم يفهم شيئًا من معناها. كلاهما تم فيه قول المثل: ”مثل الحمار يحمل أسفارًا“. فغني عن البيان أن المعنى الروحي الراقي المحمَّلة به كلمات قيافا، والذي سنتأمله بعد قليل، لم يكن في فكره المظلم والشرير على الإطلاق وهو يردد هذه العبارات.
وإن كان كل من بلعام وقيافا شريرين، إلا أن شر قيافا أفظع من شر بلعام بما لا يقاس. فبينما بلعام أممي، فقد كان قيافا من شعب الله؛ وبينما بلعام عرَّاف وثني، كان قيافا رئيس كهنة الله؛ وبينما بلعام اتجه بالشر نحو شعب الله، فإن قيافا اتجه بالعداء ضد مسيح الله وابن الله! ثم إن كانت علة قلب بلعام هي الطمع، فإن رجلي قيافا كانت سريعة إلى سفك الدم.
نبوة قيافا:
لقد كان قصد قيافا من الكلام رديئًا، ولكن الكلام نفسه – كما سنرى - كان صحيحًا، بل كان صحيحًا فوق تفكيره بكثير. والأعداد 50 إلى 52 تحتوي على عناصر ثلاثة: ع50 يتحدث عن موت المسيح؛ ع51 يتحدث عن غرض هذا الموت؛ ع52 يتحدث عن مجال وبركات هذا الموت. ويوضح يوحنا أن قيافا لم يقل تلك النبوة من نفسه، بل لقد استخدمه الروح القدس، استخدمه كمجرد آنية دون إرادته، بل دون وعي منه. وإذ كان تحت التأثير الفائق لسلطان روح الله القدوس، فقد استخدمه الله لإعلان فكره من جهة موت ابنه.
وبالتالي يمكن القول إن بواعث هذا الشخص الشرير كانت مضادة لله، ومع ذلك فإن الله المسيطر على كل الأمور، في كل لحظات الزمان، ولا سيما في تلك الفترة الأكثر أهمية من كل الزمان بأسره، استطاع أن يجعل غضب الإنسان يحمده، ويجعل كل الأمور تؤول إلى تحقيق مقاصده بالتمام.
ودعنا الآن نحاول أن نفهم ما الذي كان يقصده قيافا الشرير بالضبط من كلامه، ثم بعد ذلك نبحث ماذا كان قصد الروح القدس من كلمات ذلك الرجل. إن المنطق الفاسد لقيافا الشرير واضح تمامًا وهو. ما أبسط التضحية: إنسان واحد! وما أعظم المكسب: الأمة كلها! ونلاحظ أن قيافا لم يكن يبحث عن العدل، بل عن المصلحة. إنه لم يفتش عن البر، بل عن الربح والمكسب. إنه هنا لا يمثل الرحمة باعتباره رئيس كهنة، ولا حتى العدل كقاضٍ، بل يتصرف وينطق كسياسي، بكل ما في السياسة من دهاء ومن فساد. لا يعنى بأخلاق ولا يبالي بقانون، بل خلص إلى القول إن ازدياد شهرة هذا الناصري يحتم موته، بغض النظر عن أي اعتبار آخر.
خير أن نعرض حياة شخص للخطر، ولا نعرض الأمة كلها للخطر. قديمًا عندما أراد داود المرفوض أن يخرج للحرب مع الشعب، فإن رجال شعبه المخلصين له رفضوا. وكانت حجتهم للرفض «إننا إذا هربنا لا يبالون بنا، وإذا مات نصفنا لا يبالون بنا. والآن أنت كعشرة آلاف منا» (2صم 18: 2، 3). وأما ابن داود، الذي هو في الوقت نفسه ابن الله الوحيد، ولكنه المحتقر والمخذول من الناس، فلم يجد من يقول في حقه مثل هذه الكلمات التي قيلت عن داود. بل قال قيافا خير أنه يهلك، عن أن تهلك الأمة.
يا للعمي! هل المسيح في نظرك يا قيافا مجرد واحد، لا بأس من أن يهلك؟ ألا تعرف أيها الشرير من هو هذا الواحد؟ ألا تعلم أن قيمته أكبر من كل الأمة بما لا يقاس، بل إن كل الأمم أمامه – كما أخبرنا إشعياء - كنقطة من دلو، وكغبار الميزان تحسب (إش40: 15)، أو بالحري لا تحسب. ولولا عنصر المحبة العجيبة التي بها أحب، كان من المحال أن تتم تضحية كهذه.
ثم يا للظلم! أيجبر البريء، الذي لم يفعل ذنبًا، ليموت عن الأمة. إنه لم يأخذ رأيه إن كان يقبل تلك التضحية لأجل الأمة أم لا، بل إن قيافا هو الذي سيحكم عليه بالموت لينقذ الأمة!
وأخيرًا أقول: يا للمأساة! «كَيْفَ صَارَتِ الْقَرْيَةُ الأَمِينَةُ زَانِيَةً! مَلآنَةً حَقّاً. كَانَ الْعَدْلُ يَبِيتُ فِيهَا. وَأَمَّا الآنَ فَالْقَاتِلُونَ. صَارَتْ فِضَّتُكِ زَغَلاً وَخَمْرُكِ مَغْشُوشَةً بِمَاءٍ. رُؤَسَاؤُكِ مُتَمَرِّدُونَ وَلُغَفَاءُ اللُّصُوصِ» (إش 1: 21-23). فهذا هو ممثل الرحمة، بحكم وظيفته (عب 5: 1، 2)، فإذا به لا يمثل الرحمة، ولا حتى يمثل العدالة، بل إنه مثَّل بها.
يسوع مزمع أن يموت عن الأمة
لكن لو تجازنا عن القصد الشرير الذي قصده ذلك الرجل الفاسد، فما أسمى الحق المتضمن في هذا الإعلان العجيب: أن المسيح مزمع أن يموت عن الأمة! وقبل قيافا بمئات السنين، تنبأ إشعياء بالقول: «وفي جيله (أي جيل المسيا) من كان يظن أنه قُطِع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي؟». وأيضًا: «كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا». بل إن إشعياء لم يسجل فقط هذا الحق، بل سجل أيضا كيف ستسيء الأمة تفسيرها لما حدث، وبالتالي تقديرها لمخلصها وربها، فيقول: «ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا, تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا» (إش 53: 4 -8). ويخبرنا كاتب العبرانيين: «مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلَّهِ حَتَّى (أي إلى الدرجة التي فيها) يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ» (عب 2: 17). وأما دانيآل فقد قال: «يُقطع المسيح وليس له». وأحد المعاني المقترحة لهذه العبارة العجيبة أن المسيح سيموت، ليس لعيب فيه ولا لذنب عمل!
غني عن البيان أن قيافا لم يكن يدور في ذهنه هذا المعنى الرائع من العمل الفدائي والنيابي العجيب. ولكنه في بغضة قلبه وشره من نحو مسيح الله تمم مشيئة الله دون أن يدري. وهو في هذا يذكرنا بإخوة يوسف الأشرار، الذين أرادوا إبطال مشورة الله من جهة يوسف، فإذا بهم يتممونها رغمًا عنهم. نعم لقد قصد قيافا للمسيح شرًا، ولكن الله قصد به خيرًا (تك 50: 20).
أما من جهة المسيح فقد قبل الموت من يد الله بكامل إرادته، وأما بالنسبة لتصرف الأشرار الظالمين، فقد كان المسيح يُسلِّم لمن يقضي بعدل (1بط 2: 23)، والويل لمن يظلم، أيًا كان (كو 3: 25)، فكم بالحري عندما يظلم الإنسان قاضيه وديانه!
وليس عن الأمة فقط
يوضح لنا البشير يوحنا في العددين 51، 52 في ما يمكن أن نعتبره مذكرة تفسيرية، أن قيافا لم يقل تلك النبوة من نفسه، بل استخدمه الروح القدس رغمًا عنه في النطق بها. ويقول في ع52: «تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ (أو أولاد) اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ».
نعم لم يمت المسيح عن الأمة فقط، فلقد سبق المسيح وحدثنا في الأصحاح السابق (يوحنا 10) أنه سيضع نفسه عن الخراف، وهو يخبرنا أن الخراف نوعان، هناك خراف الحظيرة، وكذلك الأمم، الخراف الأخر التي ليست من حظيرة اليهودية. فليس كل من في الحظيرة هم خراف الراعي، ولا كل خرافه هم من عائلة اسرائيل. وإذ إن له خرافًا أخر ليست من حظيرة إسرائيل، كان ينبغي أن يأتي بها، لتكون رعية واحدة وراعٍ واحد. ويخبرنا الرسول يوحنا في رسالته أن المسيح كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضًا (1يو 2: 2). ويقول الرسول بولس عنه: «وهو مات لأجل الجميع» (2كو5: 14، 15).
وكم نعجب من موت المسيح ونتائجه العظمى! فوإن كان في موته تفرق عنه القليلون الذين كانوا يتبعونه، إلا إنه نتيجة لموته جُمع الكثيرون من الذين آمنوا به. حتى ذلك الوقت كان هناك أولاد لله لكنهم مشتتون، ما كان شيء يربطهم معًا، ولكن نتيجة موت الصليب فقد أمكن للمسيح أن يجمعهم إلى واحد. لقد أصبح كل الخراف التي له، رعية واحدة. وفي الأصحاح التالي (يوحنا 12) سيذكر المسيح أنه بموته فوق الصليب سوف يجذب إليه الجميع.
في رموز العهد القديم نقرأ في لاويين 16 عن فرائض بوم الكفارة العظيم، ونتعلم أن هارون كان يدخل إلى قدس الأقداس أولاً بدم الثور، يقدمه عن نفسه وعن بيته (صورة للكنيسة، انظر عبرانيين 3: 6)، ثم بعد ذلك كان يدخل إلى الأقداس بدم التيس، الذي يقدمه عن بيت إسرائيل. وهو الحق عينه الذي نجده في الأعداد موضوع دراستنا، أن المسيح مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ (أولاد) اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ».
ولكننا في فرائض ذلك اليوم نتعلم شيئًا آخر. فلقد كان دخول هارون بدم الثور ليكفر عن بيته أسبق من دخوله بدم التيس ليكفر عن بيت إسرائيل. وهذا يعنى أن الكنيسة هي التي استفادت أولاً ببركات الكفارة. لقد استفادت به من الآن، ولكن بعد ذلك، في المستقبل، سيأتي دور إسرائيل.
نعم إن المسيح سيموت ليس عن الأمة فقط، وليس عن الأمة أولاً. فالأمة سوف تستفيد من موته فقط يوم يظهر بالمجد والقوة، ويرد كل شيء، لكنه قبل ذلك جمع (أولاد) الله المتفرقين إلى واحد، بواسطة معمودية الروح القدس التي تمت يوم الخمسين. وهو قدم هذا الامتياز للأمة فرفضته، وتمتع الأمم به بحسب مقاصد نعمة الله الغنية. (يتبع)