«وَاسْتَحْلَفَ يُوسُفُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلاً: اللهُ سَيَفْتَقِدُكُمْ فَتُصْعِدُونَ عِظَامِي مِنْ هُنَا» (تك ٥٠: ٢٥)
«بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ» (عب ١١: ٢٢)
هذا هو التصرف الذي انتقاه كاتب رسالة العبرانيين كعلامة للتدليل على أن يوسف عاش بالإيمان. ولوهلة كان هذا التصرف دليلاً على ثقة يوسف في وعد الله، ومدى اشتياقه إلى تحقيقه. كما كان ذلك علامة على شعوره بالغربة في مصر، حيث لم يعتبر نفسه هناك في موطنه. وعلى الرغم من أنه في مظهره الخارجي كان يبدو تمامًا كواحد من المصريين، إلا أن روح أسلافه داخله كانت قوية وحقيقية. لقد حمل اسما مصريًا، ولقبًا فخمًا يضج بمصريته، وتزوج بامرأة مصرية، وكان حموه كاهنًا مصريًا، ولكن هويته الإسرائيلية كانت متأصلة في قلبه. وفي وسط صخب واجباته الرسمية، والكرامة الفائقة التي كانت تحوطه، كانت أشواق قلبه غير موضوعة عليها، بل كانت موضوعة على الوطن الذي وعد به الله آباءه.
وعندما كان يحتضر، لم يتحمل فكرة أن تُدفن عظامه وتبلي في البلد الذي قضي فيه حياته. وكأني به يقول: ”على أية حال، أعلم أن هذه ليست أرضنا، فاحلفوا لي – أنه عند مجيء الموعد العتيد الذي لو توانى، ولكنه يقين، ستحملون ما تبقي من جسدي، وتدفنونه في ركن من الأرض المُباركة، حتى أشارك على نحو ما في التمتع بميراث شعب الله. حتمًا سيفتقدكم الله، فتُصعدون عظامي من ههنا“.
ربما تكون رغبة يوسف مزيج من الايمان والرغبة العاطفية الطبيعية، حيث إن المعرفة بشأن المستقبل كانت منقوصة. نحن جميعًا نشعر، على نحو ما، أن أجسادنا ستظل جزءًا منا حتى بعد الموت. وقد تكون لنا رغبات بخصوص أين سنُدفَن، ولكن يبدو أن يوسف كان له اعتقاد أكثر تحديدًا في هذا الشأن. فما الذي تُعبِّر عنه نظرية الحياة بعد الموت، كما نراها في المومياء المصرية؟ لماذا كل هذا الجهد والاهتمام بحفظ هذه التذكارات؟ ألم يكن ذلك وليد اعتقاد مفاده أن لا حياة بدون جسد، ومن ثم يجري تحنيط للجسد بطريقة غامضة بغية حفظه. ولعل يوسف الذي كان مُزمعًا أن يُحنَّط، ويُوضع في تابوت، قد تأثر بنغمة الفكر السائد المحيط به، ألا وهو أن حمل عظامه إلى أرض الموعد، هو بمثابة حمله هو شخصيًا إلى هناك. وسواء كانت تلك الرغبة نتاج خطأ في فهم العلاقة بين الجسد والروح، أو كانت رغبة طبيعية نتشارك فيها كلنا، بحيث نرفض أن يكون مثوانا بين الغرباء، بل بجوار قبور آبائنا وأمهاتنا. ليس هذا لب الموضوع. رأس الكلام هو أن هذا الرجل عند موته وثق في وعد الله، وسعي لأن يكون له نصيب فيه.
وهذا ما يبني عليه كاتب الرسالة إلى العبرانيين، الذي يغض الطرف عن تفاوت المعرفة بين يوسف وبين المسيحيين الذين يكتب إليهم، لكن يُشير إلى إيمان يوسف القوي الواثق في الله، وإلى أشواقه الحارة للتمتع بالمواعيد الإلهية، وهكذا عند رقاده، استنارت عيناه وصار له ”رَجَاء عِنْدَ مَوْتِهِ “. وهكذا يتضح أن مبدأ الإيمان الذي كان يُحرك هذا الرجل في ضوء الإعلان الجزئي الخافت، هو ذاته الذي يُرشدنا نحن الذين نعيش في نور شمس الإعلان الكامل الساطع.
لنا أن نجني من هذه الحادثة عبرة، أعني إن الإيمان أرفع منزلة في انفصاله عن الواقع. طوال أيامه، ومنذ نزوله إلى مصر، صار منظر يوسف مصريًا. لقد شغل بكفاءة موقعه في بلاط فرعون، ولكن كلماته الأخيرة تفتح لنا نافذة على مكنونات نفسه، وتكشف ضآلة إحساسه بالانتماء إلى النظام الذي يعيش في وسطه. أيضًا إن هذا الرجل - المحوط بالحضارة القديمة، من معابد جرانيتيه، وأهرام شامخة، وتماثيل لأبي الهول الثابتة الراسخة، وكلها رموز للخلود - اعترف أن ليس له هنا مدينة باقية، طالبًا العتيدة. وهكذا اتبع سبيل أسلافه الذين عاشوا في خيام؛ إبراهيم الذي ارتحل بقطعانه ومواشيه، ومُقيمًا خيمته خارج أسوار حبرون، وإسحاق في سهول الجنوب الخصبة، ويعقوب الذي ترفع عن الاقتراب مع الشعوب والعشائر المحيطة به، وصولاً إلى سليلهم الوارث معهم نفس الوعد، معلنًا أنه أيضًا يعتبر نفسه «غريبٌ ونزيلٌ». وفي ساعة موته طلب قائلا: «تُصْعِدُونَ عِظَامِي مِنْ هُنَا» (تك٥٠: ٢٥). ومن ثم لنا أن نتيقن أنه في حياته كان يتوقد في قلبه رجاء الميراث، كنور خفي يُضئ جنبات فؤاده، الأمر الذي جعله متغربًا في كل مكان، عدا أرضه المُباركة.
والإيمان ينتج دائمًا مثل هذه التأثيرات. بما يتناسب مع قوته. والثقة الحية في الله توجه أفكارنا وأشواقنا إلى ”اَلْمَلِكَ بِبَهَائِهِ“ (إش٣٣: ١٧)، وإلى الأرض العتيدة. وبالقدر الذي به تتوجه أفكارنا ورغباتنا إلى الله، ستتحول عن المناظر المحيطة بنا، ويستقر شوقنا، وتتثبت عيوننا على الأفق في العلاء، ولا تعود تلتفت الزهور عند أقدامنا. لأننا إذا نظرنا إلى الله ستتضاءل أمجاد وبريق المخلوق والخليقة. أن هذه النفوس التي تطعم على المّنّ السَّماوي، وأولئك الذين تعلموا أن هذا هو طعامهم الضروري، لن يلقوا بالاً إلى قدور اللحم في مصر، فأفخر ما لديها ليس سوى ثوم وكرات. المسألة ببساطة هي مفاضلة بين طبقتين من الأفكار تشغل الفكر، ونوعين من العواطف تسكنا القلب. فإذا سمح القلب للهموم أو الملذات العالمية أن تشغلاه، فلن يعود ثمة مكان بعد لفكر السائح الغريب. ومن ثم لا يعود للمسيح يسكن الحضن الفسيح الذي يوفره هذا السائح. ولكن إذا عُمر القلب بالأمور المقدسة، فسيطرد حُضورها الجلبة الصاخبة، ويحول المكان إلى هيكل سماوي.
لا شيء- عدا الإيمان المسيحي – يؤمن المستقبل ويكسب النفس صلابة وعزمًا وطمأنينة، والتي ربما تكون بمثابة حائل يصد عنا الأمواج - أمواج بحر الاهتمام والهم. وإذا كان لغير المرئي أن يوجه حياتنا، فلا بد أن يكون ذلك عن طريق أفكارنا، ويقين المعرفة. إن الآمال والطموحات متزعزعة حتى أنها لا تصلح حصونًا في مواجهة الحاضر الحقيقي الواقعي. ولكن مثل هذا اليقين يتأتى من خلال الإيمان الذي يمسك بمواعيد الله، ويُوحد النفس برباط لا ينفصم بالمُخلِّص المُقَام، حتى أنها تجلس معه في السَّماويات. ومثل هذا اليقين لا يكون إلا ثمرة الإيمان.
وهل هناك قوة على ظهر البسيطة – عدا الإيمان المسيحي – يفعم القلب بالمحبة، ويشحنه برغبات تواقة إلى غير المنظور، والأبدي؟ وأين – سوى هنا – يمكن أن تجد ثقلاً يوازن النفس لتكون كفتها الراجحة، وتسمو فوق المادة ولا تلصق بالتراب؟ وأين – إلا هنا – يمكن أن تجد النفس خلاصًا من ضغوط التوافه التي تحيط بنا، لتحلق في أجواء أفكار المسيح المُقام في السَّماويات ، وتُقَزِّم كل ما على الأرض، وتركز وتحصر محبتنا فيه، وتُحررنا من الآلام والأوجاع التي تكتنف محبة الأشياء الفانية.
دعونا نتذكر أن خلاصًا مثل هذا من الأمور الحاضرة، هو شرط كل حياة نبيلة، وفرحة، وطاهرة. وهنا يلزم الإيمان المسيحي ليُمكنك أن ترى كيف أن هذه الأمور مرغوبة، وكيف أنها مرتبطة بكل ما هو محبوب، وكل ما صيته حسن، فضلاً عن كونها منفصلة عن المرئي والأرضي. فالإنسان الذي يعيش من أجل غايات بعيدة، هو أفضل كثيرًا من الشخص المحصور في الحاضر. والحياة التي ليس لها نجم هادي يُنير مستقبلها لن تتمتع بالاتحاد بالمسيح، ولا بالشركة مع جسد المسيح، وتكون محصورة في ذاتها، ومتوترة. كما تخلو من القوة الواعية التي تضفي على أيامنا نبلاً وقوة. والمؤمن الذي يسمح للغايات المستقبلية أن تحكم حاضرة لهو متفوق على أترابه.
من امتياز الإنسان الذي يعيش في المستقبل أن يزدري بالذات ويعيش أيامه عاملاً مجتهدًا. لقد وجد القوة الكاملة المسيطرة المباركة المحية والتي لا تزال في فكر المستقبل، ويعيش الآن حياة توجهها هذه القوة. ثم أن هذا المستقبل يتلخص كله في اسم مُخلِّصه: يسوع. وهكذا تكون الجلجثة هي مركز حياته، والشركة مع المسيح هي مستقبله، والفرح في السماء مناخه. فإذا كانت تلك هي آمالنا، سنكون مخطئين إذا لم نحفظ أنفسنا طاهرين ولطفاء وهادئين، وسط التقلبات والأوجاع، متسلحين ضد الأخطار، وابتسام العالم: حاملين فوق الكل ترس الإيمان، وخوذة الخلاص.