سجل الكتاب المقدس الجواب الصحيح لهذا السؤال، لأنه في الوقت الذي أُخفيَّ فيه الأمر عن أذهان البشر، أعلنه إله البشر في كتابه، في صيغة تأملات في عالم الخليقة.
وبما أن الله ذاته أزلي أبدي، إذًا فهو بلا حدود بالنسبة إلى عامل الزمن، ومع هذا ففي ترتيبه نجد ألفاظًا زمنية، مثل ”قبل“ أو ”بعد“، مع أن كل الأوقات سواء كانت ماضية أو حاضرة أو مستقبلة، كلها أمامه في وقت واحد. وقد أوضح موسى رجل الله هذه الحقيقة في قوله: «لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ» (مز٩٠: ٤)؛ أي أن العالم الموجود في كل مداره الزمني، كان حاضرًا أمامه منذ الأزل، مع أن بدء الخليقة نفسها له تاريخ زمني، أما ارتباط الأبدية بالزمن في أفكار الله فهذا أمر لا يُدرك كنهه إلا الله.
وفي الكتاب المُقدس نجد عدة إيضاحات عن: ماذا كان الله يعمل قبل تأسيس العالم؟
(١) قبل تأسيس العالم كان الله الابن مع الله الآب في شركة أزلية، ومحبة أبدية:
«فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو١: ١، ٣).
«اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ» (أم٨: ٢٢، ٢٣).
«أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ» (يو١٧: ٢٤).
«وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ» (يو١٧: ٥).
(٢) قبل تأسيس العالم خلق الله الملائكة والكواكب:
«أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ. مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟» (أي٣٨: ٤ - ٧).
(٣) قبل تأسيس العالم اختار الله قديسيه، وتبناهم ووعدهم بالحياة الأبدية بالقصد والنعمة:
«اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ» (أف ١: ٤، ٥).
«عَلَى رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، الَّتِي وَعَدَ بِهَا اللهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْكَذِبِ، قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ» (تي١: ٢).
«الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ» (٢تي١: ٩).
(٤) قبل تأسيس العالم دبر الله ميعاد إعلان السر الخاص بالكنيسة:
فهكذا قال الرسول بولس:
«إَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ ... سِرِّ الْمَسِيحِ. الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ ... وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أف ٣: ٣ - ٩).
(٥) قبل تأسيس العالم عرف الله أن دم المسيح هو واسطة الفداء الأبدي:
فهكذا قال الرسول بطرس:
«عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ ... بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (١بط١: ١٨ - ٢٠).
(٦) مُنْذُ تأسيس العالم أعدَّ الآب الملكوت للمُباركين.
وهكذا سوف يقول الْمَلِكُ يومًا للذين عن يمينه:
«تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت ٢٥: ٣٤).
(٧) مُنْذُ الأزل استعد الابن ليقوم بعمل الفداء الكامل عن طريق موته على الصليب:
«الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عب ٩: ١٤).
فالمسيح – بروحه الأزلي الذي به ”عَمِلَ الْعَالَمِينَ“ – قدَّم نفسه للآب في طاعة كاملة حتى الموت، موت الصليب. ومع أن هذا الموت حدث في وقت محدد، إلا أنه كان في فكر الله منذ الأزل، وبحسب مشورة الله الأزلية، اختار الابن أن يُقدِّم هذه الفدية عن العالم. وفي هذا يقول الرسول يوحنا:
«هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦).
إن كل ما ذُكِر من حقائق إلهية وكتابية، ليس لمجرد العلم بالشيء، بل بقصد توضيح مقدار محبة الله لنا، وكيف أنه سبق أن دبر لنا أمر خلاصنا منذ الأزل، وهكذا كنا في فكره قبل تأسيس العالم، وقبل أن يُقرّ قَوَاعِدُهُ، وقبل أن ترنمت كواكب الصبح معًا، أو يهتف بنو الله. وهكذا يُمكنني أن أهتف من القلب باطمئنان، قائلاً: «ابْنِ الله ... أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غل٢: ٢٠).