يكاد يكون من غير المتصور بعد كل ما تم تسجيله عن أَخْآب أن يغرق في أعماق فساد أكبر مما كان عليه بالفعل. وفي الأصحاح السابق (ص٢٠)، استحيا بَنْهَدَدُ مَلِكُ أَرَامَ، في الوقت الذي كان يجب أن يقتله فيه، ولكن في أصحاحنا هذا (ص٢١)، يسمح بقتل أحد رعاياه؛ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ، في الوقت الذي يجب أن يحميه فيه من الأذى. وكانت هذه حادثة مظلمة بالفعل في تاريخ ملوك إسرائيل، وأسفرت عن دينونة قاسية من الرب. إن كلمات إشعياء النبي لبني إسرائيل المتمردين في أيامه تنطبق بنفس القدر على آخاب: «وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا، الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا، الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْوًا وَالْحُلْوَ مُرًّا» (إش ٥: ٢٠).
ع ١-١٦: قُمْ رِثْ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ:
كانت السامرة هي عاصمة المملكة الشمالية، ولكن من الواضح أن أَخْآب كان لديه قصر ثان في يزرعيل، التي يبدو أنها كانت مقر إقامته الصيفية. والتسلسل المُحزن للأحداث يكشف عن رغبته المحمومة في الحصول على كَرْم مجاور لهذا القصر. ولكن الْكَرْم كان يمتلكه نَابُوتُ الْيَزْرَعِيلِيِّ. وللوهلة الأولى، فإن طلب أَخْآب باستبدال كَرْم نَابُوتُ بآخر أحسن منه، أو شرائه، قد يبدو طلبًا معقولاً تمامًا، وسلوكًا لا لوم عليه: «فَكَلَّمَ أَخْآبُ نَابُوتَ قَائِلاً: أَعْطِنِي كَرْمَكَ فَيَكُونَ لِي بُسْتَانَ بُقُول، لأَنَّهُ قَرِيبٌ بِجَانِبِ بَيْتِي، فَأُعْطِيَكَ عِوَضَهُ كَرْمًا أَحْسَنَ مِنْهُ. أَوْ إِذَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ أَعْطَيْتُكَ ثَمَنَهُ فِضَّةً» (ع٢).
ولكن رد نَابُوتُ السريع والقاطع، برهن أنه يمتلك حكمة كان يفتقرها للأسف أَخْآب «فَقَالَ نَابُوتُ لأَخْآبَ: حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي» (ع٣).
لم يكن نَابُوتُ متعنتًا بلا داعٍ في رفض طلب أَخْآب. لقد كان يعرف كلمة الله، وبالتالي فهم أنه ليس حرًا في بيع الْكَرْم لآخر، فلقد أوضحت شريعة الله أن الذين يملكون أرضًا خُصِّصت لأجدادهم، لا يُسمح لهم بالتصرف فيها، إلا في حالات استثنائية من الفقر المدقع، وحتى في هذه الحالة كان البيع مؤقتًا فقط، أي حتى سنة اليوبيل التالي، وعندئذٍ يُمكن استردادها في أي وقت من قبل أحد الأقارب الذين كانوا قادرين على القيام بذلك (لا ٢٥: ٢٣ - ٢٨؛ عد ٣٦: ٧ - ٩). ولم يكن لدى نَابُوت أية نية على الإطلاق لعصيان كلمة الله من أجل كسب المال أو كسب ود الملك.
ويُقدِّم ”فاراداي“ ملخصًا موجزًا للوضع فيقول: ”كانت أرض إسرائيل فريدة من نوعها في الأرض. لقد كانت أرض يهوه بمعنى خاص جدًا، لدرجة أن يهوه يتحدث في إرميا ١٢: ١٤ عن الأمم المحيطة بإسرائيل باعتبارهم ”جِيرَانِي الأَشْرَارِ“؛ «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ عَلَى جَمِيعِ جِيرَانِي الأَشْرَارِ الَّذِينَ يَلْمِسُونَ الْمِيرَاثَ الَّذِي أَوْرَثْتُهُ لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (إر ١٢: ١٤). وقد وُزعت الأرض بين الأسباط بتوجيهاته، وكان كل فرد من شعب الله مسؤولاً عن اعتبار نفسه مُستأجِرًا من إلهه. وبالتالي لم يكن حرًا في التصرف في حصته. وهكذا كان نَابُوتُ الْيَزْرَعِيلِيِّ. كان نَابُوتُ رجلاً مؤمنًا.، وكان أباه يُقدِّر ما أعطاه إياه يهوه، وقدَّره نَابُوتُ أيضًا. إنه على استعداد أن يموت ولا يُفرِّط فيما يخص الله حقًا“.
ويُضيف ”فاراداي“: إن رد ”نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ“ على عرض أَخْآبَ الملك، بالرفض، يُقدِّم تحديًا للمؤمنين في جميع الأجيال. وتبدو روح نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ نادرة في عصرنا. إن المبادئ الإلهية التي كان يُقدِّرها آباؤنا، والتي عانى الكثيرون من أجل الحفاظ عليها، ينظر إليها أبناؤهم باستخفاف شديد. لقد ورَّثنا آباؤنا تراثًا لا يُقدَّر بثمن، ولكن هل نُقدِّره بحق؟ هل سعينا إلى استثماره في حياتنا؟ هل نتأمل طويلاً وبشكل فردي منتظم في صفحات الكلمة المقدس؟ هل كلمة الله بالنسبة لنا «أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ» (مز ١٩: ١٠)؟
من المستبعد جدًا أن يكون أَخْآبُ جاهلاً بتاريخ الْكَرْم، أو بما قالته كلمة الله عن مثل هذا الميراث. ولكن ذلك لم يمنعه من السعي لإرضاء روحه الطامعة. كملك كان يجب أن يُعزز طاعة شريعة الله، لكنه كسرها بنفسه عن طيب خاطر، وشجع بنشاط أحد رعاياه على أن يفعل الشيء نفسه. وبدلاُ من أن يخجل من أمانة ”نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ“ وتصميمه «دَخَلَ أَخْآبُ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا مِنْ أَجْلِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمَهُ بِهِ نَابُوتُ الْيَزْرَعِيلِيُّ قَائِلاً: لاَ أُعْطِيكَ مِيرَاثَ آبَائِي. وَاضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا» (ع ٤).
على الرغم من أن أَخْآب كان الملك، إلا أنه لم يكن من حقه مطالبة نَابُوتَ بإعطائه الْكَرْم. ولكن إِيزَابَلُ امْرَأَتُهُ كانت قد جاءت من ثقافة مختلفة، حيث يأخذ الحكام كل ما يطلبونه، ويسحقون أي تمرد. لذلك تبنت موقفًا مختلفًا تمامًا عندما ظهرت على الساحة. وبمجرد أن استفسرت واكتشفت لماذا كان أَخْآب في مثل هذا المزاج المتجهم (ع٥، ٦)، استولت على زمام المبادرة: «فَقَالَتْ لَهُ إِيزَابَلُ: أَأَنْتَ الآنَ تَحْكُمُ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟ قُمْ كُلْ خُبْزًا وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ. أَنَا أُعْطِيكَ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ» (ع٧). ولسيطرتها على أَخْآب، وبسبب نفوذها في المملكة «كَتَبَتْ رَسَائِلَ بِاسْمِ أَخْآبَ، وَخَتَمَتْهَا بِخَاتِمِهِ، وَأَرْسَلَتِ الرَّسَائِلَ إِلَى الشُّيُوخِ وَالأَشْرَافِ الَّذِينَ فِي مَدِينَتِهِ السَّاكِنِينَ مَعَ نَابُوتَ» (ع٨). ومن الواضح أن أَخْآب لم يقم بأي محاولة للتدخل. والواقع أن قبوله السلبي جعله مذنبًا بقدر ما كان مذنبًا بسبب الظلم الذي ارتكب.
كانت خطة إِيزَابَلُ هي وضع نَابُوت في موقع بارز بين الناس «فِي رَأْسِ الشَّعْبِ»، وترتيب شاهدي زور للشهادة ضده، واتهامه بالتجديف ضد الله والملك، وفي النهاية رجمه بالحجارة حتى الموت (ع٩، ١٠). يعتقد بعض الشراح أن أمرها بإجلاس نَابُوت «فِي رَأْسِ الشَّعْبِ» (ع ٩) هو إشارة إلى تقديمه إلى محاكمة علنية. وسعت إلى جعل الخطة ذات مصداقية من خلال وضعها في سياق إعلان الصيام في المدينة، أي كما لو أن الذنب يقع على عاتق المدينة بسبب بعض الخطايا التي ارتكبت (١صم ٧: ٦). لقد أدرجت التجديف ضد الله في التهمة، ليس لأن هذا كان مصدر قلق لها، ولكن ربما لأنها كانت تعرف أنها تحمل عقوبة الإعدام رجمًا (لا ٢٤: ١٦). علاوة على ذلك، كانت مستعدة حتى لاتباع الترتيب الكتابي لشاهدين أو ثلاثة من أجل ضمان إدانة نَابُوت (تث ١٧: ٦). كانت قادرة على لعب دور المنافق الديني عندما يناسبها ذلك.
وضع قادة المدينة الضعفاء والخائفون والفاسدون خطة إِيزَابَل موضع التنفيذ دون تساؤل (ع ١١- ١٣)، وأبلغوها أن نَابُوت قد مات (ع ١٤). «وَلَمَّا سَمِعَتْ إِيزَابَلُ أَنَّ نَابُوتَ قَدْ رُجِمَ وَمَاتَ، قَالَتْ إِيزَابَلُ لأَخْآبَ: قُمْ رِثْ كَرْمَ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ الَّذِي أَبَى أَنْ يُعْطِيَكَ إِيَّاهُ بِفِضَّةٍ، لأَنَّ نَابُوتَ لَيْسَ حَيًّا، بَلْ هُوَ مَيْتٌ» (ع١٥). يبدو من ٢ ملوك ٩: ٢٦ أن أبناء نَابُوت قد قُتلوا نفس الوقت، مما مهد الطريق أمام أَخْآبُ لامتلاك الْكَرْم «وَلَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ أَنَّ نَابُوتَ قَدْ مَاتَ، قَامَ أَخْآبُ لِيَنْزِلَ إِلَى كَرْمِ نَابُوتَ الْيَزْرَعِيلِيِّ لِيَرِثَهُ» (ع ١٦). ويقول ”كيل“: بما أنه تم قتل أبناء نَابُوت مع أبيهم في نفس الوقت، فقد تمكن أَخْآبُ الملك من مصادرة ممتلكاته، ولكن ليس على أي قاعدة منصوص عليها في ناموس موسى، ولكن وفقا للمبدأ الذي تنطوي عليه فكرة الخيانة العظمى ذاتها. لأنه - على سبيل المثال - في حالة التجديف، كانت تتم مصادرة ممتلكات الذي جدَّف على الرب، واعتبار هذه الممتلكات مُحرَّمة للرب. واُعتبرت ممتلكات الذي جدَّف ”حَرَامَ“، أي أنه شيء أُفرِزَ عن الاستعمال الطبيعي الشائع، ليكون مُكرَّسًا ومُخصصًا أو ملكًا خالصًا لله“
من الصعب التأمل في هذه الحادثة المحزنة دون التذكير بمَثَل الكَرْم والكَرَّامِين الذي قاله الرب يسوع المسيح وهو في طريقه إلى الصليب، وتحدث عن ابن طرد من كَرم أبيه، وقُتِل بيد الكَرَّامِين الذين «لَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ!» (مت ٢١: ٣٣ - ٤١). وكان الرب يسوع بالطبع يتحدث عن نفسه، وأوجه التشابه بين رواية رفضه والحادثة المتعلقة بِنَابُوت الْيَزْرَعِيلِيِّ، لافتة للنظر. لقد وضعه العالم الديني والسياسي المعلن «فِي رَأْسِ الشَّعْبِ» (ع ٩)، وأحضروا شهود زور ضده، واتهموه بالتجديف، وحكموا عليه باعتباره مُذنبًا، وأخرجوه خارجًا، ليصلبوه خارج أسوار مدينة أورشليم القدس (١ مل ٢١: ١٠؛ مت ٢٦: ٦٠، ٦١، ٦٥، ٦٦). كانت النتيجة النهائية لأولئك الذين فعلوا ذلك هي الدينونة، كما حدث بالنسبة لأَخْآب وإِيزَابَل «فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟ قَالُوا لَهُ: أُولئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكًا رَدِيًّا، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا» (مت ٢١: ٤٠، ٤١).
ع ١٧ - ٢٩: إِيلِيَّا ... قُمِ انْزِلْ لِلِقَاءِ أَخْآبَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ:
وقد لوحظ بالفعل في هذا التعليق أن أَخْآبَ لم يستطع أبدًا الهروب من كلمة الرب من خلال الأنبياء. وبطبيعة الحال، كان يبدو الأمر كما لو أن إِيزَابَل قد خططت وارتكبت الجريمة الكاملة. على ما يبدو، بدون أدنى وخزة في الضمير، ذهب أَخْآبَ ليستولي على الكَرْم كما لو أنه لن تكون هناك عواقب دائمة لما حدث. حتى هذه اللحظة كان الرب هو المراقب الصامت للظلم، لكن هذا تغير مع وصول إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ: «فَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ قَائِلاً: قُمِ انْزِلْ لِلِقَاءِ أَخْآبَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ. هُوَذَا هُوَ فِي كَرْمِ نَابُوتَ الَّذِي نَزَلَ إِلَيْهِ لِيَرِثَهُ» (ع١٧، ١٨). صحيح أن القارئ قد يجد صعوبة في تفهم توقيت تدخل الرب، لكن الرسالة المهمة هي أن الأشرار لن ينتصروا في النهاية، وأن الرب لا بد وأن يُبرر ويُنصف شعبه. أما لماذا كان على نَابُوت أن يموت قبل أن يواجه الرب أَخْآبَ وينطق بالحكم على بيته، فهذا أبعد ما يكون عن أن تُجيب عليه الحكمة البشرية. ولكن تكفينا كلمات إبراهيم: «أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تك ١٨: ٢٥). ويكتب داود: «انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ الرَّجُلِ الْمُجْرِي مَكَايِدَ. كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (مز ٣٧: ٧ - ٩).
كان بإمكان أَخْآبَ أن يَدعي أن مسؤولية موت نَابُوتَ تقع على رأس إِيزَابَلُ، لكن رسالة الرب إليه، من خلال إِيلِيَّا، كانت واضحة ولا لبس فيها: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَلْ قَتَلْتَ وَوَرِثْتَ أَيْضًا؟ ثُمَّ كَلِّمهُ قَائِلاً: هكَذاَ قَالَ الرَّبُّ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَحَسَتْ فِيهِ الْكِلاَبُ دَمَ نَابُوتَ تَلْحَسُ الْكِلاَبُ دَمَكَ أَنْتَ أَيْضًا» (ع ١٩). لم يستطع الاختباء وراء إِيزَابَل، والهروب من ذنبه الشخصي في جريمة القتل. في مناسبة سابقة كان أَخْآبَ قد أشار إلى إِيلِيَّا باعتباره «هُوَ مُكَدِّرُ إِسْرَائِيلَ» (١مل١٨: ١٧)، ولكن الآن كانت تحيته لإِيلِيَّا أكثر شخصية: «هَلْ وَجَدْتَنِي يَا عَدُوِّي؟» (ع ٢٠). إن أولئك الذين يعقدون العزم على اتباع طريق الشر يرون دائمًا أولئك الذين يواجهونهم بالحق كأعداء لهم، بدلاً من الاعتراف بأن نعمة الله هي التي تكشف لهم خطأ طرقهم. لذلك كان على إِيلِيَّا أن يشير إلى أَخْآبَ بأن طرقه الشريرة في نظر الرب هي التي أدت إلى هذا اللقاء: «فَقَالَ (إِيلِيَّا): قَدْ وَجَدْتُكَ لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ نَفْسَكَ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ» (ع ٢٠).
أما رسالة الدينونة التي سلمها إِيلِيَّا إلى أَخْآبَ فقد هزته حتى النخاع. فإِيلِيَّا لم يتنبأ فقط بأن أَخْآبَ سيموت موتًا شنيعًا عنيفًا (ع ١٩)، ولكنه أعلن أيضًا أن جميع نسل بيته الذكور سيُقطَعون «هأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَيْكَ شَرًّا، وَأُبِيدُ نَسْلَكَ، وَأَقْطَعُ لأَخْآبَ كُلَّ بَائِلٍ بِحَائِطٍ وَمَحْجُوزٍ وَمُطْلَق فِي إِسْرَائِيلَ» (ع ٢١)، أو «لِهَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: هَا أَنَا أَجْلِبُ عَلَيْكَ شَرًّا وَأُبِيِدُ ذُرِّيَّتَكَ وَأُفْنِي كُلَّ ذَكَرٍ لَكَ، حُرًّا كَانَ أَمْ عَبْدًا» (ع٢١ – ترجمة الحياة). وفي الواقع ذهب الرب ليعلن من خلال إِيلِيَّا «أَجْعَلُ بَيْتَكَ كَبَيْتِ يَرُبْعَامَ بْنِ نَبَاطَ، وَكَبَيْتِ بَعْشَا بْنِ أَخِيَّا، لأَجْلِ الإِغَاظَةِ الَّتِي أَغَظْتَنِي، وَلِجَعْلِكَ إِسْرَائِيلَ يُخْطِئُ» (ع ٢٢). ومن قراءة الأصحاحين ١٤، ١٦ نعرف كيف تم تنفيذ أحكام مماثلة على هذين الملكين، بسبب الشر الذي فعلاه في نظر الرب، والطريقة التي استفزاه بها ليغضب. وأعلن الرب أيضًا، من خلال إِيلِيَّا، نهاية مخزية لإِيزَابَلُ الشريرة: «وَتَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنْ إِيزَابَلَ أَيْضًا قَائِلاً: إِنَّ الْكِلاَبَ تَأْكُلُ إِيزَابَلَ عِنْدَ مِتْرَسَةِ يَزْرَعِيلَ» (ع ٢٣). لم يكن هناك مفر من دينونة الرب لأي من بيت أَخْآبَ: «مَنْ مَاتَ لأَخْآبَ فِي الْمَدِينَةِ تَأْكُلُهُ الْكِلاَبُ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْحَقْلِ تَأْكُلُهُ طُيُورُ السَّمَاءِ» (ع ٢٤).
كان الحكم الصادر على أَخْآب وإِيزَابَلَ شديدًا لدرجة أن القارئ غير المُميِّز قد يميل إلى استنتاج أنه كان مُفرطًا ومُبالغًا فيه. ولكن الوحي المُقدَّس يُعطي ملخصًا لعهد أَخْآب ليكون بمثابة تذكير في الوقت المناسب بمدى الشر الذي كانا عليه: «وَلَمْ يَكُنْ كَأَخْآبَ الَّذِي بَاعَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، الَّذِي أَغْوَتْهُ إِيزَابَلُ امْرَأَتُهُ. وَرَجِسَ جِدًّا بِذَهَابِهِ وَرَاءَ الأَصْنَامِ حَسَبَ كُلِّ مَا فَعَلَ الأَمُورِيُّونَ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» (ع ٢٥، ٢٦). كان أَخْآب وإِيزَابَلَ يستحقان تمامًا حكم الدينونة التي كانت ستأتي عليهما.
ربما يكون من الصعب على القارئ أن يفهم طول أناة الرب ورحمته تجاه رجل باع نفسه لعمل مثل هذا الشر، بما في ذلك قتل رجل بريء. «وَلَمَّا سَمِعَ أَخْآبُ هذَا الْكَلاَمَ، شَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ مِسْحًا عَلَى جَسَدِهِ، وَصَامَ وَاضْطَجَعَ بِالْمِسْحِ وَمَشَى بِسُكُوتٍ» (ع٢٧). والرسالة التي جاءت إلى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ في ضوء استجابة أَخْآب لم تكن لتأتي إلا من إله كريم ومُنعِم، قال عنه النبي: «مَنْ هُوَ إِلهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ! لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ، فَإِنَّهُ يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ» (مي ٧: ١٨)؛ «فَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِيلِيَّا التِّشْبِيِّ قَائِلاً: هَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ اتَّضَعَ أَخْآبُ أَمَامِي؟ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدِ اتَّضَعَ أَمَامِي لاَ أَجْلِبُ الشَّرَّ فِي أَيَّامِهِ، بَلْ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ أَجْلِبُ الشَّرَّ عَلَى بَيْتِهِ» (ع ٢٨، ٢٩). وقد شكك بعض المعلقين في صدق تواضع أَخْآب، ويرفضون اعتباره دلالة على توبة حقيقية. إلا أن استجابة الرب تُبدد أي شك، لأنه لا ينخدع أبدًا «اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ (الله لا يغشه أحد)» (غل ٦: ٧). كان أَخْآب متواضعًا وتائبًا حقًا. لذلك كان مما لا يليق بصفات الرب أن يحجب رحمته، لذلك تم تأجيل الدينونة، وليس إلغاؤها. لقد أعطاه فرصة أخرى للتخلي عن عبادة الأصنام، وقطع كل الروابط مع زوجته الشريرة، والعيش في طاعة لكلمة الرب. ولكن للأسف، أظهرت الأحداث اللاحقة أن تغير قلبه لم يدم طويلاً.