«أَفْرَايِمُ يَخْتَلِطُ بِالشُّعُوبِ. أَفْرَايِمُ صَارَ خُبْزَ مَلَّةٍ لَمْ يُقْلَبْ. أَكَلَ الْغُرَبَاءُ ثَرْوَتَهُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ، وَقَدْ رُشَّ عَلَيْهِ الشَّيْبُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ. وَقَدْ أُذِلَّتْ عَظَمَةُ إِسْرَائِيلَ فِي وَجْهِهِ، وَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ وَلاَ يَطْلُبُونَهُ مَعَ كُلِّ هذَا» (هو٧: ٨- ١٠)
كان هناك رجلٌ فخور بشعره الحالك الكثيف، لكنه بدأ فى التساقط حتى لم تتبق منه إلا خصلة وحيدة. وذات صباح استيقظ الرجل ليجد على وسادته ما روّعه؛ وجد خصلة شعره الوحيدة الغالية الباقية على رأسه، قد فارقته، وها هي راقدة على الوسادة، فوثب من سريره وهرع مناديًا: ”مَرْثَا، مَرْثَا ، أنا أصبحت أَقْرَع!“
بالتأكيد الأمر لا يحدث هكذا. فلا يمكن لأحد ألا يلاحظ تساقط شعره، إلى أن تسقط آخر شعره من رأسه. أتحدث عن تجربتي الشخصية، ففى سنة ١٩٨٠ نظرت فى المرآة لأجد بعض الشعيرات المتدلية على جبهتي أكثر من غيرها. أول ما تبادر إلى ذهني هو أن شعر جديد ينبت هناك، لكن سرعان ما تداركت الحقيقة المؤلمة: تلك الشعيرات لم تنبت من جديد، بل كُنَّ القليلات المحاربات من أجل البقاء، وأما الباقي فقد انسحب واختفى!
هكذا الحال مع الشَّيْب. لا أحد يشّيب دون أن يلاحظ ذلك. هل تتذكر عندما اكتشفت أولى شعيراتك البيضاء؟ ربما تكون قد انتزعتها، لكنك سرعان ما تداركت أنه لو استمريت على هذا المنوال فمشكلتك التالية ستكون الصلع. ربما بدأت فى العلاج أو قلت إنك هكذا تبدو أكثر نضجًا. لكن لا أحد يشيب دون أن يعلم.
لقد كتب النبى هُوشَع عن مثل هذه الحالة الحادثة مع الأمة الإسرائيلية: «قَدْ رُشَّ عَلَيْهِ الشَّيْبُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ» (هو٧: ٩). لم يكن يتكلَّم النبى عن الشَّيْب الجسدي، بل بالحري عن الشَّيْب الروحي. لقد كانت الأمة فى حالة انحدار روحي، وبدت علامات الوهن والعجز واضحة عليها، لكنها كانت غافلة عن حالتها.
من السهل أن أخدع نفسى فى مسألة عمري، فأتذكر رياضة كنت أقوم بها منذ سنين طويلة وأفكر: ”نعم، بإمكاني فعل ذلك الآن“، وعندما أجرب ذلك يصرخ إلىَّ جسدي المُتوَّجِع ”ماذا أنت فاعل؟ أنت لست بعد شابًا!“ أحيانًا أمازح ”مَرْثَا“ ونحن نمشى على المضمار الذى كنا نسير عليه منذ سنوات، وأقول لها أنهم جعلوا المضمار أكثر طولًا من ذي قبل!
لكن سواء زادت شَّيبَتي، أو خدع ذهني جسدي المتهالك عن حقيقة سني، فموضوع هُوشَع هو أن الذين يعترفون بأنهم يعرفون الله يمكن أن يكونوا فى الواقع فى حالة انحدار روحي، لكنهم لا يدرون. إنه يسألنا: ”هل يمكن أن تشِّيبوا روحيًا دون أن تلاحظوا ذلك؟“ لقد حرض الرسول بولس الكورنثيين «جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ. أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ، إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ؟» (٢كو١٣: ٥)، وبذلك من الضروري من وقت لآخر أن تفحص نفسك في مرآة كلمة الله، وتسأل نفسك هل لاحظت شَّيبَتك؟
لقد تنبأ هُوشَع قبيل سبى المملكة الشمالية إلى أشور سنة ٧٢٢ق. م. كان النصف الأخير من القرن الثامن ق. م. هو الوقت الأكثر اضطرابًا وصعوبة فى تاريخ إسرائيل، قبيل السبي. ومن الست ملوك الذين ملكوا على المملكة الشمالية (التى يدعوها هُوشَع أفرايم)، أثناء الثلاثين سنة قبل أن تقهرها أشور، أربعة منهم قتلوا أسلافهم. كانت الأمة تعترف بأنها شعب الله، فساروا فى كل الممارسات الدينية الخارجية، لكنهم كانوا مفلسين أدبيًا وروحيًا. لقد عبدوا آلهة صنعوها بأنفسهم، فنجسوا أنفسهم بالزنا والعنف ومع ذلك ادّعوا أنهم يعرفون الله، لذلك يسأل النبي إسرائيل: ”هل لاحظتم شيبتكم“؛ مشيرًا إلى بعض الأمور:
الاختلاط بالعالم، وعدم الالتزام بالعهود، والانحدار الروحي اللا شعوري:
”الاختلاط“ و”عدم النضج“ هى تعبيرات خاصة بالخبيز. لقد اختلط أفرايم أو عُجِن مع الأمم كعجين، أو صار مثل كعكة نصف ناضجة، وبسبب ذلك لم تُميّز الأمة علامات الانحدار الروحي: «أَفْرَايِمُ يَخْتَلِطُ بِالشُّعُوبِ. أَفْرَايِمُ صَارَ خُبْزَ مَلَّةٍ لَمْ يُقْلَبْ» (هو٧: ٨).
(١) الاختلاط بالعالم، يقود إلى الانحدار الروحي اللا شعوري:
عندما دعى الله إسرائيل ليكونوا شعب عهده، أعلن لهم مرة تلو الأخرى «تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (لا١١: ٤٤، ٤٥؛ ١٩: ٢؛ ٢٠: ٧؛ خر٣٤: ١٢-١٦). أن تكون قديسًا يعني أن تُنفرز لله، وأن تتغيَّر إلى صورته الأدبية، وأن تنفصل عن الخطايا المعروفة، أن تتميز بالبعد عن سلوك وتفكير الذين لا يعرفون الله. لكن بدلًا من أن يكونوا متميزين، انخرط إسرائيل فى محاكاة طابع حياة الوثنيين من الأمم حولهم فعبدوا آلهتهم وتبنوا طرقهم اللا أخلاقية، وتجاهلوا شريعة الله (هو ٤: ١- ٣، ١١- ١٤).
لكن قبل أن نحرك ألسنتنا ونقول: ”يا للعار! يا للعار!“ نحتاج أن نُقرّ بأن القداسة هى مشكلة بالنسبة لنا، كما كانت بالنسبة لهم، بل ربما لنا بالأكثر. ويُحذرنا العهد الجديد مرات عديدة من ذلك الخطر:
«لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟» (٢كو ٦: ١٤، ١٥).
«أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا ِللهِ» (يع ٤: ٤).
«لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ، بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (١يو ٢: ١٥-١٧).
هذه الأعداد ترسم خطًا واضحًا ومُميَّزًا جدًا على الطريق! إما أنك تُحب الله أو تُحب العالم، لكن ليس الاثنين. والروح العالمية في جوهرها هى قضية قلب. إذا تعلَّق قلبك بالعالم، ستُحب الأشياء التى فى العالم. أما إذا تعلق قلبك بمحبة الله، ستنجذب إليه وإلى أموره. والطريقة الوحيدة التي تغيّر قلوبنا، فنحب الله، هي الولادة الجديدة المُعجزية. أن تكون عالميًا هو أن تسلك بنفس مبادئ من لا يعرفون الله، فتُفكر وتتصرف بأنانية وشهوة وطمع وكبرياء وطموح أناني. أن تكون لديك رغبات أنانية لما ليس عندك، وكبرياء بغيض بما عندك. وبدل أن تعيش لمسرة الله المختبر القلب، يحاول الشخص العالمي أن يعجب الناس الذين يروا ما هو من الخارج.
يصف ”ديفيد ويلز“ الروح العالمية بأنها ”مجموعة الممارسات في مجتمع ما، قيمها وطرقها في النظرة إلى الحياة، تجعل الخطية تبدو شيئًا طبيعيًا، والبر يبدو غريبًا“. وقبل سنوات من اختراع الشبكة العنكبوتية والهاتف الجوال كتب ”ديف برانون“: نفترض أنك أردت أن تغير تفكير أمة بأسرها، مثلًا أردت أن تجعل الناس تعتقد أن الأحمر أخضر. كيف يُمكنك فعل ذلك؟ واحدة من ضمن الأفكار هى أن تجمع حوالي ٦٠ فى المائة من المواطنين، ليتقابلوا مرة أسبوعيًا في مبنى ما، وتقضي حوالى ساعة، لتقنعهم بفكرتك؛ لكن على الأرجح لن تفلح هذه الطريقة.
الخطة الأفضل هي أن تجعلهم يصرفون من ٨ إلى ١٠ ساعات يوميًا أمام التلفاز يتابعون العديد من البرامج فيها يقر بعض المشاهير أن الأحمر أخضر. بالإضافة إلى ذلك تأكد أن المواطنين مشغولون بالراديو باقي الوقت يستمعون إلى أغاني صاخبة عن الظل الأخضر الجميل للون الأحمر. وأيضًا أقم آلاف المسارح فيها يسترخي الناس، ويستجمون بالضحك على الفكرة السخيفة أن الأحمر أحمر، وكدعم إضافي ضع فكرتك في الكتب والمجلات والجرائد.
هذا بالضبط ما حدث في كل العالم تقريبًا مع المثلية! من خلال التلفاز والفيديو والإنترنت ووسائل التواصل الأخرى، لقد قصف العالم كل الناس برسالة مفادها أن تلك الممارسة عادية، وأن من يعتقد أنها خطية هو غريب الأطوار. والكونجرس الأمريكي على وشك سنّ تشريع بأن ”الزواج المثلي“ هو قانون البلاد. والعديد من الكنائس المُفترض أنها مسيحية انضمت إليهم بإقامة مثليين غير تائبين، كقسوس وكأعضاء! هكذا اختلطوا بالعالم!
وكما يعلن إشعياء «وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا، الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا، الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْوًا وَالْحُلْوَ مُرًّا» (إش٥: ٢٠). وكل من إشعياء وهُوشَع يريدانا أن نفحص أسلوب معيشتنا وقيمنا وأهدافنا ونماذج علاقاتنا، لتحديد ما إذا كانت من كلمة الله، أم من العالم. أما إذا سمحنا لأنفسنا أن نختلط ونمتزج ونُعجن مع العالم، فسنشيب روحيًا تدريجيًا، دون أن ندري.
وأنت تفكر في هذا المقطع اسأل نفسك: ”هل أنا أحيا بالقداسة أمام الرب؟” وإلا فافحص أولوياتك وجدول مواعيدك، واقطع الأمور التي تضغطك في قالب العالم، واستبدلها بأمور تُعينك لتنمو في القداسة.
هناك عامل ثاني متضمن في اللا شعور بالتدهور الروحي:
(٢) عدم الالتزام بالعهود يقود إلى الانحدار الروحي اللا شعوري:
«أَفْرَايِمُ يَخْتَلِطُ بِـالشُّعُوبِ. أَفْرَايِمُ صَارَ خُبْزَ مَلَّةٍ لَمْ يُقْلَبْ» (هو٧: ٨). الخبز المقصود هنا هو الفطير الذي يخبز على الحجارة الساخنة، فإذا لم يُقلَب، يُحرَق من جهة، بينما يبقى عجينًا من الجهة الأخرى. هل تتخيل أن تطلب فطير من مطعم، فيأتيك محروقًا من جهة، وعجينًا من الجهة الأخرى؟ بالطبع سيكون عديم القيمة!
يقول هُوشَع هكذا كان إسرائيل؛ كانوا غير ناضجين، وغير ملتزمين، في تكريسهم للرب. كان لهم ثوب التدين، لكن تحته كان لهم قلب منحرف. كان لهم اعتراف دون ممارسة، وعقيدة دون سلوك، وقانون دون سيرة. وبكلمات أخرى لم يؤثر تديّنهم في حياتهم اليومية. كما يقول الرب (٧: ١٤)، أرادوا أن يُعطيهم الله قمحًا وخمرًا جديدة، لكنهم لم يريدوا الله نفسه «لاَ يَصْرُخُونَ إِلَيَّ بِقُلُوبِهِمْ حِينَمَا يُوَلْوِلُونَ عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. يَتَجَمَّعُونَ لأَجْلِ الْقَمْحِ وَالْخَمْرِ، وَيَرْتَدُّونَ عَنِّي» (هو٧: ١٤). صرخوا إليه، لكن ليس من قلوبهم. كانوا مثل الخبز نصف الناضج. لقد اعترفوا بأنهم يعرفون الله، لكنهم أنكروه بأفعالهم «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، إِذْ هُمْ رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَل صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ» (تي١: ١٦).
ليس أسوأ من أن تكون فى هذا الوضع. فى سفر الرؤيا كانت كنيسة لاودكية هكذا؛ لم يكونوا ضد الله، ولكن لم تكن قلوبهم كاملة نحوه لذلك يقول الله: «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِدًا أَوْ حَارًّا! هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي» (رؤ ٣: ١٥، ١٦). المؤمن الفاتر مثل الخبز نصف الناضج: غير نافع تمامًا لله. كيف يمكنك أن تكون شهادة للرب يسوع المسيح، إذا كان لديك قدم واحدة في كلا العالمين؟! العالم يرى النفاق، حتى لو لم يره المؤمن الفاتر.
هل تذكر قصة يُونَان؟ قال له الله: «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى ... وَنَادِ عَلَيْهَا»، ولكن يُونَان قال: ”مستحيل“؛ فهرب في سفينة ذاهبة إلى تَرْشِيشَ «فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ». وفي يأسهم، ألقى النوتية قُرْعَةً ليتبينوا «بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ ... فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ». فسأل النُّوتِيَّة الوثنيون يونان: «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟» (يون١: ١-٨).
فقال لهم يُونَان: ”أنا عبرانيٌّ، أنا نبيّ إله السماء الذي صنع البحر والبر، وأنا أحاول الهروب من وجه الرب“. كان رد فعلهم تقليديٌّ «فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ» (يون ١: ١٠). لم يرَ يُونَان أي خطأ في تصرفه هذا، لكن هؤلاء النُّوتِيَّة الوثنيين رأوا ذلك بوضوح! لم يُميز نفاق تكريسه نصف الناضج، أما النُّوتِيَّة الوثنيون فميزوه بوضوح. التكريس نصف الناضج يقود إلى تدهور روحي لا شعوري.
ارفع لنفسك مرآة كلمة الله. ما مدى تكريسك للرب يسوع المسيح السنة الماضية؟ انظر إلى جدول مواعيدك: كيف تقضي وقتك؟ انظر إلى مصروفاتك: كيف تصرف أموالك؟ لا تصر خبزًا لم يُقْلَب!
(٣) التدهور الروحى اللا شعوري يتميَّز بعدة علامات واضحة مُنبهة: سأذكر منها خمسة:
(أ) التدهور الروحى اللا شعوري يتضمن خسارة تدريجية في القوة:
«أَكَلَ الْغُرَبَاءُ ثَرْوَتَهُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ» (هو٧: ٩). يُشير هُوشَع إلى الأمم المحيطة التي فرضت على إسرائيل جزية. كانت الحالة مُحزنة لما آلت إليه الأمور، مقارنة بأيام قوة الأمة تحت حكم داود وسليمان. لكن حدث هذا تدريجيًا عبر السنين، فلم يلحظه أحد، وبدا الأمر طبيعيًا الآن. كانت الأمة مثلي تمامًا عندما ظننت أني قوي الآن، مثلما كنت في شبابي، بينما الواقع أني لست كذلك.
فهل أنت قوي في الرب وفي شدة قوَّته (أف ٦: ١٠)؟ هل تختبر نصرة روحية ثابتة ومستمرة، على الخطية، بدءًا من مستوى التفكير؟ هل تعتمد بثبات على وعود كلمة الله للقوة؟ هل شركتك مع الله ناضرة وحيَّة؟ أم أنك كشمشون الذي تعامل مع العالم طويلًا، حتى أنه عندما قصَّت دَلِيلَةُ خُصَلِ رَأْسِهِ، وقالت: «الْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ ... انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ» (قض ١٦: ١٩، ٢٠).
(ب) التدهور الروحي اللا شعوري يتضمن نظرة مخففة للخطية والقداسة:
هؤلاء الناس كانوا منغمسين في شرور رهيبة (هو ٤: ١١- ١٤)، إلا أنهم ادعوا تبعية الرب. فروح الدهر الشرير أثر حتى على الكهنة، الذين كانوا يأكلون من ذبائح خطية الشعب، ويفرحون لتماديهم في الإثم، ليكثر نصيبهم منها «يَأْكُلُونَ خَطِيَّةَ شَعْبِي وَإِلَى إِثْمِهِمْ يَحْمِلُونَ نُفُوسَهُمْ» (هو ٤: ٨).
عندما يكون الناس في حالة انحدار روحي ولا يدرون، يستخفون بقداسة الله، ويبررون خطيتهم، مُقارنين أنفسهم بالآخرين، ويشكّلوا الله ليكون إلهًا حسب استحسانهم. لكن عندما تقترب إلى الله كما استُعلن في كلمته، تصير أكثر دراية بأعماق خطيتك، كإشعياء عندما رأى السَيِّد جالسًا على عرشه والملائكة السَّرَافِيمُ تهتف: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»، عندئذٍ صرخ إشعياء: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (إش ٦: ١-٥).
إذا كان الانحدار الروحي يتضمن الاستخفاف بالخطية والقداسة، فالنهوض يتضمن دائمًا قرار جاد للتعامل مع الخطية الشخصية. أحد الأسباب الهامة لاحتياجك للالتزام بممارسة عشاء الرب باستمرار، هو أنها تجعلك تمتحن قلبك قبل الشركة.
(ج) التدهور الروحي اللا شعوري يتضمن صمّ الآذان عن توبيخ الله:
«وَقَدْ أُذِلَّتْ عَظَمَةُ إِسْرَائِيلَ فِي وَجْهِهِ، وَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ وَلاَ يَطْلُبُونَهُ مَعَ كُلِّ هذَا» (هو٧: ١٠). كثير من المفسرين يُترجمون ”عَظَمَةُ إِسْرَائِيلَ“ إلى ”كبرياء إسرائيل“؛ وهكذا فكبرياء إسرائيل تشهد عليه، ولم يتوبوا إلى الرب إلههم، ولم يلتمسوه مع كل ذلك.
لكن الكلمة العبرية تفيد معنى العظمة والجلال. والعلَّامة الألماني ”س. ف. كيل“ يُترجم هذه العبارة كإشارة إلى الرب، الذي هو مجد إسرائيل، وتتكرر نفس العبارة في هُوشَع ٥: ٥ «وَقَدْ أُذِلَّتْ عَظَمَةُ إِسْرَائِيلَ فِي وَجْهِهِ، فَيَتَعَثَّرُ إِسْرَائِيلُ وَأَفْرَايِمُ فِي إِثْمِهِمَا، وَيَتَعَثَّرُ يَهُوذَا أَيْضًا مَعَهُمَا » (هو ٥: ٥). فإن كان على صواب، إذًا فهُوشَع يستخدم المفارقة ليوضح قصده: ”إسرائيل يفتخر بكونه شعب الله، لكنهم يرفضوا أن يستمعوا إلى الإله الذي يفتخرون فيه!“. لكن في كلتا الحالتين كان إسرائيل أصَمّ لتوبيخ الله.
إحدى الطرق لتحديد ما إذا كنت متجهًا صعودًا أو هبوطًا روحيًا هي كيفية تجاوبك مع توبيخ وتقويم كلمة الله، أو شعبه لك. إذا لم تعره اهتمامًا، أو طبَّقته على غيرك وليس على نفسك، فأنت في انحدار روحي لا شعوري.
(د) التدهور الروحي اللا شعوري يتضمن الجهل بالاحتياج الروحي:
نلاحظ أن العبارة «وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ» تتكرر مرتين في ع٩ «أَكَلَ الْغُرَبَاءُ ثَرْوَتَهُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ، وَقَدْ رُشَّ عَلَيْهِ الشَّيْبُ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ». واضح للجميع أن ذلك الإنسان فى حالة انحدار روحي، لكن إذا سألته سيجيبك أن كل شيء على ما يرام. قال ”مَلاَكِ كَنِيسَةِ الّلاَوُدِكِيِّينَ الفَاتِرة“: «إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ»، ولكن تقييم الله له كان «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤ٣: ١٧). لقد كانوا بحاجة أن يروا حالتهم الروحية المحزنة.
(هـ) التدهور الروحي اللا شعوري يتضمن الإخفاق في إدراك الشَّيْب الروحي:
كتب ”كامبل مورجان“ عن هوشع٧: ٩ : ” الشَّيْبُ ليس مأساة فى حد ذاته، بل الإخفاق فى رؤيته”. فهل يزداد إدراكك لحاجتك إلى الله؟ وإلا فربما تكون تشيخ روحيًا، لكنك لا تعلم.
(٤) التدهور الروحي اللا شعوري يتكشف عندما تتحوَّل إلى العالم - لا إلى الله - للمعونة في وقت الأزمات.
غزا أشور الوثني إسرائيل، لكن بدلاً من أن يتحولوا إلى الرب تحولوا إلى أعدائهم للمعونة! «رَأَى أَفْرَايِمُ مَرَضَهُ وَيَهُوذَا جُرْحَهُ، فَمَضَى أَفْرَايِمُ إِلَى أَشُّورَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلِكٍ عَدُوٍّ. وَلكِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْفِيَكُمْ وَلاَ أَنْ يُزِيلَ مِنْكُمُ الْجُرْحَ» (هو٥: ١٣). ربما يشير ذلك إلى الوقت الذي أعطى فيه إسرائيل ويهوذا الجزية لأشور (٢مل١٥: ١٩، ٢٠؛ ١٦: ٥-٩). أحيانًا تجدي هذه الطرق على المدى القصير، لكنها حلول غير إلهية. إن الله يسمح بالتجارب في حياتنا حتى نطلبه بأكثر لجاجة، فندخل إلى أعماق غنى المسيح الذي لا يستقصى (مز٥٠: ١٥؛ أف٣: ٨)
الخلاصة:
ما هو حل الانحدار الروحي؟ أولًا: قيّم ذاتك بأمانة؛ ما مدى اختلاطك بالعالم؟ هل تكريسك حقيقي وناضج مِن الجانبين؟ إذا استشعرت الانحدار الروحي، فارجع إلى الرب؛ اطلبه:
«هَلُمَّ نَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ لأَنَّهُ هُوَ افْتَرَسَ فَيَشْفِينَا، ضَرَبَ فَيَجْبِرُنَا. يُحْيِينَا بَعْدَ يَوْمَيْنِ. فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يُقِيمُنَا فَنَحْيَا أَمَامَهُ. لِنَعْرِفْ فَلْنَتَتَبَّعْ لِنَعْرِفَ الرَّبَّ. خُرُوجُهُ يَقِينٌ كَالْفَجْرِ. يَأْتِي إِلَيْنَا كَالْمَطَرِ. كَمَطَرٍ مُتَأَخِّرٍ يَسْقِي الأَرْضَ» (هو٦: ١-٣).
«وَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ وَلاَ يَطْلُبُونَهُ مَعَ كُلِّ هذَا» (هو٧: ١٠).
«لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ، لأَنَّ عِنْدَ الرَّبِّ الرَّحْمَةَ وَعِنْدَهُ فِدًى كَثِيرٌ، وَهُوَ يَفْدِي إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ آثَامِهِ» (مز١٣٠: ٧، ٨).
هُوشَع ليس نبي الإدانة الصعب، بل هو نبي صوّر في حياته محبة الله لشعبه العاصي. لقد أعطى الله هوشَع أمرًا غريبًا: أن يتزوج زانية (هو١: ٢). تخيل كيف سيكون الخبر صادمًا فى يومنا هذا: ”أسقف مشهور يتزوج زانية!“ وعندما زاغت امرأة هُوشَع بعيدًا عنه، وانتهت لتوجد في سوق النخاسة، قال الله لهُوشَع ”اذهب اشتريها أيضًا“. فذهب هُوشَع ودفع الثمن ليشتري زوجته الزانية، لكنه لم يعاملها كأَمَة، بل أحبها بإخلاص كزوجته (هو٣: ١-٣). هذه صورة بديعة لمحبة الله لشعبه العاصي. كتب ”كامبل مورجان“: ”الخطية فى تحليلها النهائي، وفي أسوأ صورها هي خيانة المحبة. إنها تجرح الله“. لقد دفع الله الثمن الأقصى – موت ابنه – ليفديك من سوق عبودية الخطية، وقد فعل هذا بحب، ليجعلك عروسه. فذكر نفسك دائمًا بمحبة الله العظيمة، المُبرهنة بإرسال ابنه ليُنقذك من خطيتك.
عزيزي: في هذا الصباح، هل لاحظت أي شعيرات بيضاء زحفت إلى رأسك؟ الله سيتولى أمرها إذا عدت لذراعيه الحانيتين.
أسئلة تطبيقية:
* ما هى الروح العالمية؟ هل مبدئيًا هي خارجية أم داخلية، أم الاثنين؟
* الروح العالمية ماكرة جدًا وشائعة، كيف نتحكم بها في حياتنا؟
* كيف تصف مؤمن مكرس؟ كيف تكون حياته؟ هل يمكن لشخص عادى أن يكون له نفس تكريس خادم متفرغ لعمل الرب؟
* هل يمكن لمؤمن حقيقي أن ينحدر؟ هل يمكن أن يفقد خلاصه؟ ماذا سيحدث له؟ هل يمكن أن يذهب بعيدًا إلى الحد الذي لا يستطيع معه الرجوع؟ دعم إجابتك من المكتوب.
* كيف يمكننا تحاشي الانحدار الروحي؟ ما هى الخطوات العملية التي تنصح بها شخص يريد فعلًا أن يجعل حياته تعمل لصالح الله؟
ستيفن ج. كول