مريم أخت لعازر
جلسة عند قدميه، يغيب العالم، ويختفي البشر؛ فتنسى ذاتها. عينان مسمرتان في شخصه، الذي يختصر السماء والأرض. أذنان في رحلة شوق موصول، تجتنيان كلمات، تُغْني النفس، وتسبي القلب، وتبحر في حديث يرتفع على أجنحة الروح.
كان الخيار الأمثل: جوع وغذاء، عطش ورواء، شوقُ تعلُّم وسخاء؛ انسكاب النعمة في الحبيب، ونيل النصيب الأعظم.
من عميق أحزان تُذيب، وسيفُ آلامٍ يخترق؛ بُعِثت رسالة من أختين، انتزع الموت أخاهما – حبيبهما الغالي – السند والعضد. المسيح يدخل بيت عنيا، التي اتشحت سوادًا، وارتدت بلية. فيستقبله أهلها في صمت ووجوم؛ وموت يجول ويصول، متكبرًا متجبرًا. لكن الرب السماوي، الذي يحب كثيرًا، له موقف مع الموت هذا.
على العشاء، تفجَّر الحب، وظهر السجود المُعبِّر، والتعبد المُقدِّر، والطيب المُعطِّر.
في بيت عنيا، تَبدَّت شخصية مريم في مواقف ثلاثة مُشرِّفة؛ حيث الإيمان العظيم، الذي يزكو في نار التجارب، ويلمع في خضم الأحزان؛ مضحيًا بالكنز الأغلى، منكسرًا عند قدمي الرب.
ففي لوقا الأصحاح العاشر، جلست مريم واختارت. وفي يوحنا الأصحاح الحادي عشر، حزنت وتَعزَّت. وفي يوحنا الأصحاح الثاني عشر، سجدت وقدمت.
1. جلست واختارت:
زار الرب بيت مرثا ومريم. وكان يقصد بيت عنيا، حيث التقوى، والعبادة، والخدمة؛ وحيث قلوب جائعة روحيًا، وشخصيات عطشى للكلمة.
فرأت مرثا تعب التجوال على محياه، وإرهاق العمل في صفحة عينيه؛ وتحرَّكت لتكرم المعلم، بطعام يسنده، وشراب يُرويه. ومن خلال نظرتها هذه، راحت تنّْهم وتهتم؛ فعملت، وارتبكت، واضطربت، وتذمرت، ولدى الرب اشتكت. أما مريم، فاختبرته مصدرًا يُشبِع، وينبوعًا يُروي، وتاعبًا يُريِّح؛ وقد ملأ حياتها. فجلست عند قدميه، تسمع ... تحفظ ... تتأمل ... تغوص ... في محيطه اللامتناهي.
فقد شبعت من غناه؛ وبدورها أشبعته بوليمتها، لأنه الشخص الأوحد لديها. وكانت كلماته الخالدات، تقديرًا عظيمًا لمن صمتت... وأصغت ... وتعلمت .... واختارت. أجاب يسوع مرثا قائلاً: «اختارت مريم النصيب الصالح، الذي لن ينزع منها» (لوقا 10: 42).
2. حزنت وتعزت:
رسالة من بيت عنيا – محطة المحبة والراحة، إلى الرب يسوع: «هوذا الذي تحبه مريض» (يو11: 3).
أقصر رسالة، لكنها أبلغ رسالة.
أصغر رسالة، لكنها تتضمن الموضوع الأعظم ”المحبة“.
أبسط رسالة، لكنها تصل إلى أعماق القلب.
فعل واحد، فعل الحب ”تحبه“، يعود إلى ما قبل الأزمنة – في الأزل، ويتحرك في الزمان، ويمتد إلى الأبدية.
جاءت مرثا تستقبل الرب، ملهوفةً ... مستغيثةً ... محطمةً؛ تتعثر بالدموع، ويسحقها الألم: «لو كنت ههنا، لم يمت أخي».
تستطيع أن ترد الموت عن مريض يُحشرج، وتشفي سقيمًا ينازعه المرض؛ لكن، بعد أن حدث الموت، وانتشر الفساد والنتانة، هل يقوم أخي؟؟
«سيقوم أخوك»: قالها الرب، جازمًا ... حاسمًا؛ لأنه رب الحياة والموت.
«أتؤمنين بهذا!؟» «أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًا وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 25).
دعا الرب مريم؛ فلما سمعت، أسرعت تستقبله. وصلت، وخرَّت عند قدميه، لأنها تدرك عظمته، وبه يليق التعبد والسجود. فرأى الرب عينيها ينبوع دموع، تُغطي وجهها، حاملة أعباء أحزانٍ وأثقال آلام؛ وفقد أخٍ وحيد، هو الكتف والتي إليها تستند، في النوائب والمصائب، في الملمات والنكبات.
ثمَّن الرب عَبَرات مريم، الناطقة صدقًا، ومحبة، ورجاء. فشاركها البكاء، مؤاسيًا، معزيًا، في موقف قاسٍ جدًا.
امتاز موقف مريم عن مرثا، وبدا الفارق بارزًا:
لم يَـدعُ الرب مرثا، إنما دعا مريم.
لاقته مرثا لقاء عتاب، أما مريم لما سمعت، قامت وجاءت مسرعة.
لم تسجد مرثا، أما مريم فخرَّت عند رجليه.
لم يبكِ الرب عند رؤيته مرثا، لكنه تأثر عميقًا لمنظر مريم، وحزن حزنًا بالغًا.
مريم كسرت الطيب، وغسلت قدميه، ومسحتهما بشعرها.
وقف الرب أمام القبر، حيث ظِلّ الموت، على الجميع يخيم. ودعا لعازر باسمه، لعازر الذي يعرف صوته جيدًا ويميز نغمته الحنون. أطاعه في الحياة، وهل يعقل ألاَّ يسمعه من خلف حجاب الموت، ويطيعه؟؟ كما يذكر الكتاب: «الحق الحق أقول لكم، إنه تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسامعون يحيون» (يو 5 :25). فهو الله المتجسد، وصوته يخترق الحدود والسدود، والقيود؛ حتى جدار الموت الصفيق، وسلطانه الأقوى.
سمع الميت صرخة الرب، فدبت فيه الحياة، فقام، وتحرك، وخرج.
3. سجدت وقدمت:
بعد إقامة لعازر، كان عشاء للرب، لعازر كان متكئًا، ومرثا منهمكة بتأمين الواجبات، لكن لا تذمر أو تشكي. أما مريم، التي تنمو بالنعمة واكتشاف الرب ومعرفته؛ جاهدةً في كمالية النضج؛ فقد أخضعت الذات، وشبعت بالرب. فبعد الجلوس والتعلُّم، ونيل النصيب الصالح، والتعزية والفرح؛ فاض قلبها تعبدًا لتقديم الأغلى. وأدركت نهاية أيامه على الأرض؛ كأن مشهد موته يرتسم في ذاكرتها. اعتنت بمقدمة تكفين جسده القدوس، حبًا، واحترامًا وتقديرًا.
أحبت، وكان حبها ساميًا، طاهرًا. وتواضعت، وكان تواضعها إنحناءً حقيقيًا. إن الطيب الذي جمَّعت لسنوات، وحفظته كنزًا، ليُكسَر في يوم زفافها؛ لكنها عندما تعرفت بالرب، وسبى قلبها، وملأ كيانها، وجمَّل حياتها؛ غدا، هو هو وحده، مستحقًا الكنز الخالص، الكثير الثمن.
كسرت القارورة، وغسلت قدميه بالطيب، ومسحتهما بشعرها؛ فانسكب مجدها على قدميه (1كو 11: 15). ففي حضرته، يفنى كل مجد. بعد سكب الطيب، فاح طيب أعطر؛ فعندما مس الطيب قدميه، إزداد طيبًا وغدا جديدًا وعجيبًا؛ كالخمر المحوَّلة من ماء، في عرس قانا الجليل.
مريم في عملها، لم تبصر بشرًا، بل كانت ترى الرب أمامها فقط؛ يتلألأ جمالاً وكمالاً. دهنت قدميه باعتباره ابن الله، وملك الملوك ورب الأرباب.
إن عملها الرائع سيرافق الإنجيل دهورًا وأجيالاً؛ وسَيُحفَـر بأحرف الروح الذهبية، كما قال الرب: «الحق أقول لكم، حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يُخبَر أيضًا بما فعلته، تذكارًا لها» (مر 14: 9).
***
في لوقا 10، جلست مريم وخدمت مرثا.
في يوحنا 11، دُعيت مريم، وسألت مرثا.
في يوحنا 12، سجدت مريم، وخدمت مرثا، واتكأ لعازر.
في لوقا برزت مرثا. وفي يوحنا 11 لمعت مريم. وفي يوحنا 12 ظهر لعازر. عائلة تعرَّفت بالرب. ضيَّفت الرب، فأرحبت له القلوب، وشرَّعت البيت.