«انظر عمل الله؛ لأنه من يقدر على تقويم ما عوَّجه؟ في يوم الخير كن بخير، وفي يوم الشر اعتبر. إن الله جعل هذا مع ذاك، لكيلا يجد الإنسان شيئًا بعده» (جا7: 13، 14).
سفر الجامعة الذي وردت فيه هذه الآية، هو أحد الأسفار الشعرية، وكتبه سليمان الحكيم، ويعتبره البعض سفر الحكمة الأرضية، ويشرح ما تحت الشمس، دون نور من الروح القدس، ولو أن الكاتب سجَّل ما سجله بالروح القدس طبعًا.
بهذا الاعتبار فهو مليء بدروس الحكمة النافعة. ومع ذلك فلا يخفى على القارئ الفطن أن السفر يتضمن قصورًا وعجزًا، وذلك لأن الحكمة الإنسانية، في أسمى صورها، تقف عاجزة عن الإجابة عن العديد من مشكلات الحياة، أو أن تشرح أمور العالم غير المنظور، هذه الأمور التي لا يمكن أن يجيب عنها سوى الإعلان الإلهي.
وسليمان الحكيم قبل الآية موضوع السؤال كان قد تحدث عن الحكمة ونفعها، وهنا يواصل الحديث عن أحد مظاهرها، وهو أن يتأمل الإنسان عمل الله. ثم يقول: من يقدر أن يغيِّر شيئًا عمله الله؟ أو من يستطيع أن يقوِّم شيئًا عوَّجه الله؟
قد يرى بعض الناس أن الأمور تسير بأسلوب معوَّج، ويرون أنه كان من الأفضل أن تتم الأمور بصورة مختلفة، حسبما يتراءى لهم؛ ومع ذلك فالكل يعترف أنه ليس باستطاعته أن يقوِّم هذا الشيء الأعوج الذي عمله الله، ولا أن يصلح ما يراه هو أنه خطأ. الحكمة إذًا تقتضي بأن نقبل الأمور التي يعملها الله معنا كما هي.
ثم يتحدث الحكيم عن يوم الخير ويوم الشر. ففي حياتنا هناك يوم السراء ويوم الضراء. لقد مزج الله في حكمته بين الظروف الصعبة في حياتنا، والظروف السهلة، الهينات مع المضنيات. لقد ”جعل الله هذا مع ذاك“. فإن جاء يوم الخير، فمرحبا به، وإن جاءنا يوم الشر فعلينا أيضًا أن نكون حكماء ونقبله.
نحن لا نعرف كم سيطول يوم الخير، ولا كم سيستمر يوم الشر. وكثيرًا ما فاجأنا يوم الشر تاليًا ليوم الخير، وقد يحدث أيضًا العكس، وبذلك لا يقدر إنسان أن يعرف بماذا يأتي المستقبل، وهذا ما قصده الجامعة هنا بالقول: ”لكيلا يجد الإنسان شيئًا بعده“، أو بحسب ما وردت في الترجمة التفسيرية: ”لِئَلاَّ يَكْتَشِفَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِمّا يَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ“.
ولكن ليس بعد موت الإنسان فحسب، بل إننا أيضًا لا نعرف ما سوف يأتي به الغد القريب. قال الحكيم: «لا تفتخر بالغد، لأنك لا تعلم ماذا يلده يوم» (أم27: 1)، وقال الرسول يعقوب: «أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد»، ويعتبر أن الافتخار بالغد إنما هو ”افتخار رديء“ (يع4: 16). ويقرر الجامعة أن الله قصد أن يبقي مستقبلنا مجهولاً بالنسبة لنا (قارن أصحاح 8: 7؛ 10: 14). وإذ يقتنع العاقل أنه ليس من الممكن معرفة المستقبل، ولا حتى معرفة أمر الغد: صحوًا سيكون، أم عاصفًا؛ لذلك ينصح الحكيم بأن نقبل أمور الله كما هي: فنفرح في يوم الخير، ونعتبر في يوم الشر. والله له في ذلك قصد حكيم لا يمكن لعقولنا المحدودة أن تسبر غوره. فلا داعي لأن نقلق بأمر الغد، بل لنثق في الله كلي السلطان وكلي الصلاح، فهو يعرف ما سوف يحدث، وسوف يعطينا نعمة لمواجهة ما سوف يأتي علينا.
ليس من الحكمة أننا في يوم الخير نظل خائفين لئلا ينقلب إلى شر، ونكدِّر أنفسنا والمحيطين بنا. لذلك يقول هنا: «في يوم الخير كن بخير»، أي استمتع بالخير الذي أعطاك إياه الله. وليس من الحكمة أيضًا أننا نتجاهل يوم الشر، وألا نعتبر دروسه التي يريد الرب أن يعلمها لنا، لذلك «ففي يوم الشر اعتبر». دعنا إذًا نقبل يوم الخير بفرح، ولا ننسى أن نشكر الله على الخير الذي متعنا به (انظر تثنية 8: 10-14). ودعنا أيضًا أن نقبل يوم الشر العاصف بهدوء، ولا نسمح له بأن يمر دون الاستفادة من دروسه، فنحن في يوم الشر نكون أقرب ما يمكن للرب، وهو عادة يكون أنسب الأوقات للتأمل والاعتبار، كما قال الرب لشعبه على أيام حجي النبي: «اجعلوا قلبكم على طرقكم» (حج1: 5، 7)، أي تأملوا طرقكم، حتى إذا وُجد فيها شيء باطل ترجعون إلى الرب بالتوبة، فيرجع إليكم بالبركة.
وإذ إننا على يقين من أنه ليس صحيحًا على الإطلاق ما تنادي به بعض الوثنيات من أنه يوجد إله للشر وإله آخر للخير. وإذ نعلم أن أمورنا كلها في يد إلهنا الحكيم وحده، ذاك الذي معه أمرنا (عبرانيين 4: 12)، وإذا نعلم أنه ”من فم العلي يخرج الشرور والخير“ (مرا3: 38)، فعلينا إذًا في كل الأحوال أن نثق في سلطان الله وصلاحه. وكم من خير خالص في حياتنا نتج عن شر بيِّن!
وهناك حكمة أخرى نتعلمها من هذه الأقوال: فالحكيم يتحدث عن فترة الشر وفترة الخير باعتبار أن كلاً منها ”يوم“. وهذا يدل على محدودية هذا وذاك. فما يسعدنا هو وقتي، وما يحزنا ويضايقنا هو أيضًا وقتي، فدعنا لا نركز النظر على الأشياء الوقتية، بل لننظر إلى الأشياء الأبدية. فهل أبديتك ستكون مع المسيح في خير دائم، أما أنها ستكون بدون المسيح، في شر مقيم!
وإننا أخيرًا، وفي ضوء الإعلان الواضح في العهد الجديد، نعلم أن الخير ملازم لنا كل الطريق سواء رأيناه أم لم نره. قال المرنم: «إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي» (مز23: 6). وقال الرسول إن الله يقدر أن يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبونه (رومية 8: 28). فلنكن دائمًا بخير، ولنشكر الله دائمًا، ونشكره في كل شيء. ومن الجانب الآخر فإن ”اليوم الشرير“ الذي تحدث عنه الرسول بولس في أفسس 6: 13 يشمل كل الفترة الممتدة من صعود المسيح وحتى لقياه على سحاب السماء. فحبذا لو كان كل يوم هو فرصة للاعتبار والتعلم.