من الصعب قراءة هذين
الأصحاحين (تك ٢٩، ٣٠)
دون تذوق طعم قانون الزرع والحصاد. هنا نجد عقوبة المُخادع؛ يخدعه خاله لابان، ليحصل يعقوب على ما بستحقه. لكننا نرى أن الموضوع الرئيسي في القصة هو معاملات الله الكريمة في حياة هذا البطريرك. وحسنًا قال ”تشارلس ماكنتوش“: ”من أراد أن يتعلَّم من هو الله عليه أن يذهب إلى بيت إيل، ومن أراد أن يتعلَّم من هو الانسان عليه أن يذهب إلى حاران. وإذ قصَر يعقوب عن إدراك إعلان الله نفسه له في بيت إيل، أرسله إلى حاران ليريه ذاته، وما أصعب وأَمَّر الدروس التي كان عليه أن يتعلمها هناك“.
الحب من أول لحظة
(تك ٢٩: ١ - ٣٠)
غادر يعقوب بيت إيل بخفة وبقلب غير مُثقَل، وبكل ثقة وبهجة. قبل لقائه مع الرب كان بإمكانه فقط أن يشير إلى إله أبيه قائلاً لأبيه: «إِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ قَدْ يَسَّرَ لِي» (٢٧: ٢٠)، ولكنه الآن يتكلَّم عن الرب باعتباره الرَّبُّ إلهي”؛ الرب إله يعقوب (تك ٢٨: ٢١). لقد رأى رؤيا السلم من السماء، وسمع وعد الله بحضوره ورعايته وحمايته. كان لديه تأكيد عودته إلى الأرض وبركات إبراهيم (تك ١٨: ١٠ - ١٧). كان هناك شعور بتوجه جديد، وأمل جديد، ومعنى جديد للحياة. كان لا يزال ذاهبًا إلى حاران، لكن الله كان معه.
«ثُمَّ رَفَعَ يَعْقُوبُ رِجْلَيْهِ وَذَهَبَ إِلَى أَرْضِ بَنِي الْمَشْرِقِ. وَنَظَرَ وَإِذَا فِي الْحَقْلِ بِئْرٌ وَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ قُطْعَانِ غَنَمٍ رَابِضَةٌ عِنْدَهَا، لأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ يَسْقُونَ الْقُطْعَانَ، وَالْحَجَرُ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ كَانَ كَبِيرًا. فَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَى هُنَاكَ جَمِيعُ الْقُطْعَانِ فَيُدَحْرِجُونَ الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ وَيَسْقُونَ الْغَنَمَ، ثُمَّ يَرُدُّونَ الْحَجَرَ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ إِلَى مَكَانِهِ» (تك ٢٩: ١-٣).
اقترب يعقوب من حاران، وجاء إلى بئر ماء في الحقل. ونحن نعتقد أنها كانت بئرًا مختلفة عن تلك التي جاء إليها عبد إبراهيم (تك ٢٤: ١١). ففي تكوين ٢٤ كان البئر نبعًا يقع ”خارج المدينة“، وكانت النساء تأتي إليها لجلب مياه الشرب (تك ٢٤: ١١، ١٣). ولكن البئر الذي جاء إليه يعقوب فكانت في حقل بعيد عن المدينة، وكانت عبارة عن حوض كبير للماء تشرب منه الماشية مباشرة. كانت هذه البئر مغطاة بحجر كبير لحمايته من التلوث أو الامتلاء بالرمال. ولعل الأهم من ذلك أنه قصر استخدام ذلك البئر على أوقات معينة، وعلى الأشخاص المأذون لهم فقط. وهكذا جلس الرعاة، ربما الفتيان الصغار، حول البئر في انتظار الوقت الذي يُمكنهم فيه سقي أغنامهم. وهكذا دخل يعقوب مع هؤلاء الرعاة في محادثة:
«فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: يَا إِخْوَتِي، مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ حَارَانَ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَ لاَبَانَ ابْنَ نَاحُورَ؟ فَقَالُوا: نَعْرِفُهُ. فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَهُ سَلاَمَةٌ؟ فَقَالُوا: لَهُ سَلاَمَةٌ. وَهُوَذَا رَاحِيلُ ابْنَتُهُ آتِيَةٌ مَعَ الْغَنَمِ» (تك ٢٩: ٤-٦).
أراد يعقوب أن يعرف كم كان بعيدًا عن وجهته. أخبره رد الرعاة أنه قريب جدًا من حاران. كان سؤاله عن سلامة لابان هامًا جدًا ليطمئن على الوضع الحالي في عائلة لابان. وإلى حد ما، يمكن قياس نجاح رحلته من خلال رد الرعاة. فقد اطمئن يعقوب أن لابان على ما يرام، وأكثر من ذلك، كان لديه ابنة ستصل إلى البئر قريبًا، وهكذا كان من الأفضل الانتظار حتى تقوده بنفسها إلى منزل خاله.
وفي غضون وقت انتظار ابنة لابان، أخبرهم يعقوب بأمر هام:
«فَقَالَ: هُوَذَا النَّهَارُ بَعْدُ طَوِيلٌ. لَيْسَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْمَوَاشِي. اِسْقُوا الْغَنَمَ وَاذْهَبُوا ارْعَوْا. فَقَالُوا: لاَ نَقْدِرُ حَتَّى تَجْتَمِعَ جَمِيعُ الْقُطْعَانِ وَيُدَحْرِجُوا الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ، ثُمَّ نَسْقِي الْغَنَمَ» (تك ٢٩: ٧، ٨).
لم يكن من المناسب جمع الأغنام ليلاً، حيث كان لا يزال الوقت مبكرًا جدًا في اليوم. ولم يكن من المنطقي أن يجلس هؤلاء الرعاة حول البئر في انتظار وقت لاحق لسقي أغنامهم، بينما يمكنهم سقيها الآن، وإعادتها إلى المراعي لعدة ساعات. الشيء العملي الذي يجب فعله هو سقي الأغنام الآن، وعدم الانتظار حتى وقت لاحق.
لم يتأثر الرعاة على الإطلاق بالسؤال، ولا بنصيحة يعقوب بخصوص رعاية الأغنام. في الواقع، ربما بدا سؤاله أحمق بالنسبة لهم. بالطبع كان يعقوب على حق. حتى هؤلاء الرعاة الصغار كانوا يعرفون أن الأغنام تنمو بشكل أسرع في الرعي في الأراضي العشبية بدلا من الوقوف حول البئر، حيث تم استهلاك العشب قبل فترة طويلة. ومع ذلك، لم يكن يتم استخدام البئر، على ما يبدو، في الوقت الذي يناسبهم.
كان البئر موردًا مهمًا قيّمًا، تماما مثل بئر النفط اليوم. على هذا النحو، كان يجب أن ينتمي إلى شخص ما، وهذا الشخص سيُحدد كيف ومتى سيتم استخدام البئر، وربما بأي ثمن. يبدو أن الاتفاق بين مالك البئر والرعاة هو أنه يمكن استخدام البئر مرة واحدة في اليوم. فكان يجب أولا جمع الرعاة عند البئر مع قطعانهم. ثم يقوم المالك أو عبيده الأَجْرَى بدحرجة الحجر الكبير بعيدًا (ع ٨)، وهكذا يُمكن سقي الخراف، ربما بالترتيب الذي وصلت به القطعان. هذا من شأنه أن يفسر سبب وجود الرعاة وقطعانهم هناك في وقت مبكر جدًا. بهذه الطريقة، ما كان أكثر ربحية لمالك البئر، لم يكن عمليًا (وهكذا كان سؤال يعقوب)، ولكن كان يجب الالتزام بشروط المالك.
«وَإِذْ هُوَ بَعْدُ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ أَتَتْ رَاحِيلُ مَعَ غَنَمِ أَبِيهَا، لأَنَّهَا كَانَتْ تَرْعَى. فَكَانَ لَمَّا أَبْصَرَ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ بِنْتَ لاَبَانَ خَالِهِ، وَغَنَمَ لاَبَانَ خَالِهِ، أَنَّ يَعْقُوبَ تَقَدَّمَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ وَسَقَى غَنَمَ لاَبَانَ خَالِهِ. وَقَبَّلَ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَبَكَى. وَأَخْبَرَ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ أَنَّهُ أَخُو أَبِيهَا، وَأَنَّهُ ابْنُ رِفْقَةَ، فَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا» (تك ٢٩: ٩-١٢).
يقترح بعض الشرَّاح أن يعقوب اقترح على الرعاة أن يسقوا الغنم على الفور، ويذهبوا ليرعوا، للتخلص منهم قبل وصول راحيل حتى يتمكن من مقابلتها بمفرده. ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال. فيعقوب لم يكن يعرف بعد شيئًا عن عمرها أو عن جمالها، ولكنه بالتأكيد كان يريد مقابلتها في ظل الظروف المناسبة.
ومع ذلك، دعونا نتأمل تسلسل الأحداث التي وقعت عندما التقى يعقوب وراحيل. كنت أتوقع أن يُقدِّم يعقوب نفسه أولاً لراحيل، ثم يُقَبِّلها، وأخيرا يسقي خرافها. ولكن ما حدث هو العكس تمامًا. فهو أولاً سقي خراف لابان، وطرح جانبًا أي اعتبار لما قاله له الرعاة. ثم قَبَّلَها – وهذه أول حالة تقبيل بين أبناء العم. وأخيرًا، قدَّم نفسه لها باعتباره قريبها. إذا كان هذا الترتيب للأحداث صحيحًا، فقد ألقى يعقوب كل التقاليد جانبًا، وربما تكون راحيل قد انساقت إلى حد ما بمثل هذه اللفتة الرومانسية. كل هذا، يُمكن قراءته بين السطور.
وهكذا التقى الاثنان. ربما لم يكن ”حبًا من النظرة الأولى“، لكن لربما كان كذلك! وكانت مقابله هذين الاثنين بمثابة التمهيد للمرحلة التالية من علاقتهما.
(يتبع)