الجزء الثالث من المثل الثلاثي الوارد في لوقا 15، هو ذلك الجزء الذي يُصوِّر الخاطي آتيًا إلى مح\ضر الله. ودعنا لا ننسى ما شرحناه في العدد السابق أن الرب يسوع في هذا الفصل، شرح لنا الجانب الإلهي من القصة أولاً، قبل أن يذكر لنا الجانب البشري.
ودعنا نتتبع قصة هذا الابن الضال في النقاط الآتية:
(1) كان له “ثروة” (ع11، 12)
«إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ» (ع11، 12). بالإضافة إلى مواهبنا الطبيعية، ووقتنا وقوتنا، أعطى الله لكل واحد من خلائقه “نفسًا”. ويمكننا أن نعتبر هذه النفس هي رأس المال الذي معنا لنتاجر تجارتنا الزمنية والأبدية، وهي أغلى وأقيم “قِسْم”، لأنها أثمن من “العالم كله” (مت16: 26؛ مر8: 36)؛ هي أثمن لأنها ستبقي بعد أن يزول العالم، وبعد أن تُحرق كل أعماله.
يبدأ المثل بإحضار الخاطي في المشهد قبل أن يسافر إلى «الكُورَة البَعِيدَة». لقد كان في منزل أبيه عندما أخذ “الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُه مِنَ الْمَالِ” لأنه «قَسَمَ لَهُمَا (الأب) مَعِيشَتَهُ (هو)»، إذًا فالقسم الذي أخذه كان قسم يُعيِّش. وهذا لا يمكن أن يشير إلاَّ إلى المخلوق، قبل ولادته في هذا العالم، حاصلاً من الخالق «أَبِي الأَرْوَاحِ» (عب12: 9) على “نَفْسٍ حَيَّةٍ”.
(2) «سَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ» (ع13)
“الكُورَة البَعيدة” هي العالم البعيد عن الله، بعيدًا جًّدا حتى إنَّ «الْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّير» (1يو5: 19)، فنتيجة لخطية آدم، انفصل الإنسان عن الله، ودخل كل نسل آدم إلى هذا العالم وهم «مُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ» (أف4: 18) فأصبحت هناك هوة كبيرة بين الله القدوس وهذا المخلوق الخاطىء، ولن يستطيع أحد أن يضع جسرًا لهذه الهوة إلاَّ شخص المسيح.
الخاطىء بعيد عن الله في قلبه وأفكاره وطرقه، وهذا يفسر لنا الكثير.
إنه يفسر لنا الإلحاد. فالإلحاد ببساطة هو محاولة الإنسان للاختباء من الحرج والارتباك الناتجين من الاعتراف بحضور الله. سوف يعطيك الناس أسبابًا كثيرة لماذا هم ملحدون أو منضمون لجماعة اللاأدريين، ولكن هذه الأسباب في الواقع ما هي إلا أعذار، بينما السبب الحقيقي هو أن الناس مُصمِّمون على الهروب من الاعتراف بكون الله يعلم كل شيء.
وهذا أيضًا يُفسِّر تجاهل الناس الشائع للكتاب المقدس. سوف يعطونك الكثير من الأسباب التي تجعلهم لا يقرأونه - أنهم لا يجدون وقتًا، لا يفهمون منه الكثير، كثيرًا ما تتضارب تفاسير محتوياته، ولذلك فهم يتركونه. فالناس يقدرون كلمة الله أقل بكثير مما يفعلونه بكتابات زملائهم الخطاة. ومع ذلك فالكتاب المقدس يعالج الكثير من المواضيع العميقة والحيوية: فهو يزودنا بالمعرفة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها عن: أصل الإنسان، طبيعة الإنسان، الغرض من وجود الإنسان، الحياة بعد القبر ... إلخ. وبسبب تأنيب الضمير يقرأ الكثيرون بين الحين والآخر أصحاحًا من كلمة الله، وينتهى الأمر عند ذلك، والسبب الحقيقي في هذا أن الكتاب المقدس يُحضِر الإنسان في حضرة الله، وهذا آخر شيء يريده الإنسان الطبيعي. وهذا دليل كافٍ على أنه في “الكُورَة البَعيدة”، وأن القلب مبتعد تمامًا عن الله.
وهذا يُفسِّر أيضًا لماذا لا يُسرّ الخطاة بالصلاة. فالصلاة الحقيقية هي كلام مباشر مع الله بوساطة المسيح. فهي التي تجعلنا في اتصال وشركة مع العظيم الذي لا يُرى. ولكن الخاطئ لا يملك القلب الذي يُقدِّر هذا، فهو لا يجد أية متعة في سكب نفسه أمام الله. أما إذا صلَّى، فالصلاة تُصبح فرضًا ثقيلاً وتكرارًا سقيمًا للكلمات، فهو يُفضِّل فعل أي شيء بخلاف الصلاة. والسبب في هذا أنه يرغب في الابتعاد عن الله.
وهذا يفسر أيضًا لماذا لا يجد الخاطي سرورًا حقيقيًا بالعبادة الجماعية لله. صحيح قد يذهب إلى اجتماعات الكنيسة، فالإحساس بالواجب قد يقوده إلى هناك، أو ربما بسبب العادة التي اكتسبها من نشأته المسيحية، أو قد يقوده ضميره المتعب للمواظبة على الحضور. ولكنه دائمًا غير مكترث بما يسمع. ولكن عندما يقدم الواعظ الرسالة منمقة فصيحة ممتعة للآذان، فهو لا يسمع فقط بل يُبهر ويُسرّ. ولكن دع الواعظ ينسى بلاغته وفصاحته، دعه يخاطب ضمير الخاطئ مباشرة قائلاً: «أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ»؛ دعه يَستحضره في حضرة الله، وسوف تجد هذا الخاطئ المسكين في حالة من عدم الارتياح، وليس غريبًا إذا لم يعد يستمع مرة أخرى لهذا الواعظ.
(3) «وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ» (ع13)
كما أشرنا من قبل أن «مَالَهُ» أو «الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُه مِنَ الْمَالِ» هو النفس الحية التي يأخذها كل إنسان من خالقه، والمفترض أن تُقدر كرأس المال الذي يملكه الإنسان ليتاجر به تجارته الزمنية والأبدية. وهنا نرى كيف يستخدم الخاطئ، كل خاطئ، «الْقِسْمَ» الذي ناله من أبي الأرواح؛ لقد بذَّره. دعنا نؤكِّد على أن الابن الضال ليس بالضرورة يُمثِّل فئة معينة من الخطاة الأكثر شرًا من رفقائهم، والذين تفوق إهانتهم لله على سائر الخطاة؛ ولكن الابن الضال يُمثِّل منهاج الحياة الذي يتبعه كل نسل آدم.
«وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ»: الإنسان الطبيعي من ساعة الميلاد لم يخالجه شعور واحد، ولم يفكر فكرًا واحدًا، ولم ينجز عملاً واحدًا مقبولاً لدى الله. وإذا تعلق الأمر بالأبدية فهو عقيم روحيًّا: فحياته غير مثمرة. وهو لم يتجاهل فقط مطاليب الله، ولم يُهمل فقط الأمور الخاصة بالله، ولم يفشل فقط في أن يُحبّ الرب إلهه من كل قلبه، ولكنه أضاع وقته، أساء استخدام مواهبه، وعاش حياته كلها لنفسه.
(4) «وَهُنَاكَ» واجه “الجُوعٌ الشَدِيدٌ” (ع14):
«فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ» (ع14). تلك الكورة هي “الكُورَةِ البَعيدةِ”. إنها العالم، العالم المُبتعد كليَّة عن الله، والذي بالتالي “موضوع في الشرير” (1يو5: 19). وفي هذه الكورة «جُوعٌ» طوال الوقت. على أننا نُخبر بأنه «حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ»، فلم يكن الحال دائمًا هكذا هناك. فالجوع «حَدَثَ» عندما انفصل الإنسان عن الله، أي في السقوط؛ فالجوع يشير إلى تلك الحقيقة: لا يمكن أن يوجد شيء في هذا العالم يُشبع الإنسان ويخدمه.
(5) «فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ» (ع14)
إذا نظرنا إلى قصة أي خاطئ تعرَّف بالرب وخَلُص، نجد أنه هنا يبدأ الأمل. فهناك الكثيرون اليوم يعيشون في هذه “الكُورَة البَعيدة”، حيث يوجد «جُوعٌ شَدِيدٌ»، ولكن المؤسف أنهم لا يشعرون به. فهم مُكتفون بما يجدونه هناك. إنهم يشعرون أنه لا يوجد احتياج يفشل هذا العالم في سداده! فليس قبل أن يبدأ الله بالعمل مع النفس، حتى يكتشف الخاطئ أن كل شيء هنا ما هو إلا «بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ» (جا1: 14). طوبى لمن أدرك هذه النقطة، طوبى لمن «ابْتَدَأَ يَحْتَاجُ»، طوبى لمن شعر بالفراغ الموجع في قلبه، باشتياق في نفسه، وباحتياج في روحه، تفشل أمور هذا العالم وملذات الخطية في إشباعها. فمثل هذا “ليَس بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ” (مر12: 34). ومع ذلك فإن الشعور بالاحتياج هو مجرد اختبار مبدئي، فهناك المزيد من الاختبارات المؤلمة التي لا بد من اجتيازها قبل أن يأتي الخاطئ فعليًّا لله. دعنا نتابع قصة “الابن الضال”، التي ترسم بدقة الطريق الذي سار فيه كلٍّ منَّا.
(6) «فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ» (ع15):
كم هذا واقعي! لاحظ أنه لم يُقرِّر أن يرجع لأبيه من البداية - فهذا لا يحدث الآن. فبدلاً من الرجوع لأبيه، ذهب إلى إنسان آخر ليريحه، فذهب للعمل إذ نقرأ «فَأَرْسَلَهُ (وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ) إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ». هل يحتاج القاريء المسيحي إلي من يُفسِّر له ع15؟ ألا يعطيه ماضيه الخاص مفتاحًا لفهم هذا العدد؟ فبداية الشعور بالاحتياج لا بد أن يقود في البداية إلى يقظة النفس، أو بمعنى آخر يقود إلى إدانة الخطية. وعندما تستيقظ النفس، وتُدان الخطية، ويأتي الوعي بوجود احتياج لم يُسَدّ بعد، ما الذي لا بد أن يفعله هذا الشخص؟ هل أنت عزيزي القارئ اتجهت مباشرة للمُخلِّص؟ ستكون إجابتك “لا”، إذا كان اختبارك يُشبه ما حدث مع الكاتب، ومع الغالبية العظمى من المسيحيين الذين تكلم معهم. فعندما يستيقظ ضميرك تبدأ في محاولة إصلاح نفسك، وفعل الصلاح، والذي يساعدك في هذا هو ذهابك إلى رجل المشورة والمساعدة. ولولا نعمة الله المطلقة المتسلطة على الظروف، لن تجد المسيحي الحقيقي ذا الفطنة والمعرفة بأمور الله، والذي يدفعك فورًا للبحث في كلمة الله لتكتشف علاج الله، ولكنك سوف تجد مسيحيًا اسميًّا وهو لا يزيد عن أن يكون «ِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ (العالم)»، وعند لجوئك إليه سوف يفعل معك بالضبط كما نقرأ في المثل؛ يُرسلك لِترْعَى خَنَازِيرَ. وإذا فسرنا الكتاب بالكتاب، فالخنازير هنا تشير للمسيحيين الاسميين، الذين يرتدون أخيرًا (انظر 2بطرس 2: 20-22). فالشخص الذي تذهب إليه طالبًا النصيحة، يُخبرك بأن ما تحتاجه هو أن تُشغِل نفسك بالخدمة. “اعمل لأجل الرب”، “انشغل بمساعدة الآخرين”، كل هذا وأنت ما زلت ميتًا بالذنوب والخطايا! فربما يُطلب منك أن تُعلِّم أطفال غير مُخلَّصين في مدارس الأحد، أو أن تكون مسؤولاً عن مجموعة من الشباب (أغلبهم غير مخلَّصين مثلك)، وبالتالي يجعلونك “ترعى خنازير”.
(7) «فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ» (ع17):
«وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ ...» (ع16، 17). مرة أخرى نقول كم هذا واقعي في الحياة! فماذا جلب له التصاقه بواحد من تلك الكورة؟ أو عمله في الحقل؟ أيّة راحة جلبتها هذه الأمور لنفسه الجائعة؟ لا شيء على الإطلاق. فلم يأتِ من ذلك الرجل إلا «الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ». وأنت، ماذا جلبت لك خدمتك، بينما ضميرك متعب لأنك ما زلت خاطئًا؟ هل أراحت الخدمة قلبك المتعب؟ بالطبع لا. فكل حماسك وتقدِماتك في ما يُسمَّى بالخدمة المسيحية لم تُقدِّم لك سوى “الخرنوب”، ذات الخرنوب الذي تأكله الخنازير. ويا لها من كلمات تثير الشفقة: «فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ»! فاحتياج الخاطئ ذي الضمير المستيقظ أعمق من أن يُشبعه أي إنسان. فهذا هو الدرس التالي الذي على الخاطئ أن يتعلَّمه. عليه أن يتعلَّم الانصراف عن الإنسان والنظر إلى المسيح نفسه. وقبل تعلم هذا لن يمكنه أن يجد أية راحة.
«فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ». أي أنه استعاد صوابه، لأنه كان قبلاً “فاقدًا صوابه”. فكلمة الله تُشير إلى الخاطئ كمن هو مُعتل روحيًّا، والتغيير يمنحه العقل السليم. يُحرض الرسول القديسين في أفسس قائلاً: «لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ» (أف4: 17، 18). وأيضًا في مرقس 5 نرى في المجنون صورة لخاطئ مستعبد من إبليس، فعندما شفاه الرب رأيناه جالسًا ولابسًا وعاقلاً. وأخيرًا يصف الرسول في 2 تيموثاوس1: 7 التغيير الذي تمنحه الولادة الجديدة: «لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالنُّصْحِ »، فالاختلال هو عدم المقدرة على التفكير الصحيح، وعدم النظر لأنفسنا ولمن حولنا بالصورة الصحيحة. بل هو معاناة من أشكال مختلفة من الهذيان. والدليل القاطع على صحة هذا الكلام عن المختل، هو أن المختل يجهل تمامًا أنه كذلك، بل يعتقد أنه على ما يرام. وما ينطبق على العالم الطبيعي، يصح أن ينطبق على الروحي أيضًا. فذهن الخاطئ أعمى، وعقله مليء بالضلال والوهم، فهو لا يستطيع أن يصل إلى استنتاج صائب، وأسوأ ما في الأمر كله، أنه لا يعي على الإطلاق مرضه الروحي. ولكن عندما يعمل روح الله في إنسان، تُزال هذه الأوهام، وتُبعد الظلمة عن تفكيره، مثل الابن الضال الذي «رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ».
(8) «قال: ... أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي» (ع18)
ليس قبل أن يشعر بالجوع الشديد في الكورة البعيدة، وليس قبل أن يتأكد أن لا أحد يستطيع أن يُشبعه، وليس قبل أن يرجع إلى نفسه؛ حتى يبدأ أن يفكر صحيحًا، ويُذكِّر نفسه أن في بيت أبيه «يَفْضُلُ الْخُبْزُ»، وحينئذ فقط يُقرِّر «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي»، أي حينئذٍ فقط ابتدأ يتَّجه إلى الله. وما الذي نقرأه بعد ذلك؟ لماذا لم يكتف الابن بالعودة لأبيه؟ ولماذا أعلن أنه سوف يقول له: «يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ»؟ إن هذا معناه أنه مستعد الآن أن يأخذ مكان الخاطي الضال أمام الله. هذه هي التوبة.
(9) «وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ» (ع19)
نرى الابن هنا ما زال ناموسيُّا. إذا طبقنا هذه اللغة على الخاطئ وهو راجع إلى الله، نكون قد وصلنا إلى النقطة التي فيها فعل الروح القدس الكثير مع الإنسان الصادق - كشف له عن احتياجه، أنار ذهنه، قاده في قراره، أوصله لإدانة نفسه - إلا أن عمل النعمة لم يكتمل بعد. فالخاطئ الآن يُدرك بعمق عدم استحقاقه، ولكنه لم يتعلم بعد نعمة الله العجيبة التي لا تكتفي بسد احتياجه العميق. وهذا يظهر عندما أصبح أقصى ما يتخيله ويتمناه عقل الابن الضال، هو أن يُصبح أحد “الأجرى”. كم ذهن الإنسان ناموسي! كم يصر على ما يمكن أن يفعله! كم يجادل على ضرورة الإتيان بأعماله الخاصة! فلكي يحصل “الأجير” على أي شيء، عليه أن يعمل.
(10) «فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ» (ع20)
مبارك اسم الرب! فالله لن يتوقف عن أن يعمل فينا بصبر وطول أناة حتى يصل بنا إلى هذه النقطة. على الرغم من فهمنا الضحل، وأذهاننا التي في عداوة مع لله، ورغباتنا المعارضة له، إلا أنه في نعمته يثابر معنا حتى يستنير ذهننا، وتختفي عداوتنا، وتُخضع إرادتنا، فنقوم ونذهب إليه.
ما هو الاستقبال الذي حظي به الابن الضال؟ هل تعرف ما كان ينتظر “الابن الضال” بحسب الناموس؟ اقرأ معي هذا الجزء: «إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ابْنٌ مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لا يَسْمَعُ لِقَوْلِ أَبِيهِ وَلا لِقَوْلِ أُمِّهِ، وَيُؤَدِّبَانِهِ فَلا يَسْمَعُ لهُمَا. يُمْسِكُهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَيَأْتِيَانِ بِهِ إِلى شُيُوخِ مَدِينَتِهِ وَإِلى بَابِ مَكَانِهِ، وَيَقُولانِ لِشُيُوخِ مَدِينَتِهِ: ابْنُنَا هَذَا مُعَانِدٌ وَمَارِدٌ لا يَسْمَعُ لِقَوْلِنَا وَهُوَ مُسْرِفٌ وَسِكِّيرٌ. فَيَرْجُمُهُ جَمِيعُ رِجَالِ مَدِينَتِهِ بِحِجَارَةٍ حَتَّى يَمُوتَ» (تث21: 18-21). فكيف استقبل الأب هذا “الضال” إذًا؟ هذا يقودنا إلى التأمل في:
استقبال الأب لابنه الضال