الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا في هذه الأيام أنه إذا هجمت البلايا، وحلت المصائب على شعب الرب، فإنها لا تأتي عبثًا، بل كل شيء يسمح به الرب لغرض في قلبه، إذ ينخس بأشواكها قلوب شعبه، ليُوقظ ضمائرهم، ويقودهم رجوعًا إليه إن زاغت قلوبهم عنه. لذا وفقًا لاعتبارات قداسة الله ومطاليب بره، قد يسمح بضيق كهذا ليُحقق قصده الصالح؛ وهو أن يسترد شعبه. الله في محبته يؤدبنا، لا ليقضي علينا، بل ليُعيدنا من جديد للوضع الصحيح الذي يتناسب مع المركز الذي أقامنا لأجله، والذي به تستقيم شهادة كنيسته، كما أنها الحالة التي فيها يفيض علينا ببركاته وتعزياته وابتسامة رضاه.
الحدث المُرهِب والحس المُرهَف
عندما تحل بنا النوائب من كل جانب دعونا نتذكر قول عاموس النبي: «هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَالرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟ إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ» (عا ٣: ٦، ٧). جيد أن نرى الله في المشهد، فلا نخشى أهوال الزمان، ونستند على مواعيده الصالحة. ومن الرائع أن نلاحظ يده وهي تحرِّك الأحداث، وأن نؤمن بسلطانه على كل شيء، ونُدرِك أنه الجالس على العرش في السماء، والممسك بزمام كل الأمور. لكن الأعظم من ذلك أن تكون لنا البصيرة الروحية التي تجعلنا نقرأ المشهد بعين الرب، ونفهم قصده من وراء ما يُجيزنا فيه، فتُضْبَط مَوجة قلوبنا على موجة قلبه. حينها سنتخذ الموقف الصحيح الذي يُريدنا الرب أن نأخذه.
الأمناء القريبون من قلب الرب الذين تدربوا على تمييز معاملاته، صار لهم الحس الروحي المرهف الذي به يُميزوا الرسالة التي يريد الرب أن يقولها. هؤلاء الأتقياء المُفكرون في اسمه، لا يُخطئوا تمييز معاملات الرب التأديبية، خاصة عندما يستشعرون أن الرب - الذي تحول عنه الشعب - لم يعُد يأخذ مكان السيادة والقيادة في وسطهم. لم يعُد صخرتهم ومُتَّكلهم، فخرهم وغايتهم. يا لها من حالة رهيبة! أليس هذا ما يُمَيِّز شعبه عن سائر الشعوب؟ ماذا بقي بعد؟ الخسارة أفدح من أن توصف. مثلاً: عندما يُحرم المؤمنون من أسمى وأقدس امتياز، كالالتفاف حول الرب في محضره، لتقديم السجود معًا ككهنوت مقدس، أو تتعطل الشهادة ولو إلى حين. هل يعوض أي شيء عن هذه الخسارة! كأن التيار الكهربي قد قطع عن عمود إنارة. فما دوره إن فقد نوره؟ هكذا الحال إذا تعطلت الشهادة للرب، ولو إلى حين. كل مَن يهمه هذا الأمر سيكون قلبه مكسورًا، وحزنه ثقيلاً. عندما انقطعت التقدمة والسكيب عن بيت الرب بعد ضربة الجراد الرهيبة التي نقرأ عنها في سفر يوئيل، يقول الرب: «تَنَطَّقُوا وَنُوحُوا أَيُّهَا الْكَهَنَةُ. وَلْوِلُوا يَا خُدَّامَ الْمَذْبَحِ. ادْخُلُوا بِيتُوا بِالْمُسُوحِ يَا خُدَّامَ إِلهِي، لأَنَّهُ قَدِ امْتَنَعَ عَنْ بَيْتِ إِلهِكُمُ التَّقْدِمَةُ وَالسَّكِيبُ» (يوئ ١: ١٣).
السراج والسكين
ألا نلاحظ في هذه الأيام الصعبة غير المسبوقة أن الرب يُرسل رسائل عتاب إلى الكنيسة؟ بلا شك أنه يتكلَّم إلى الجميع؛ أفرادًا وعائلات وكنائس محلية. إننا نكاد نسمع صوته النابع من قلبه المكسور قائلا: «عِنْدِي عَلَيْكَ». ألا يتعين علينا أن نتواضع أمام الرب، ونفحص طرقنا ونمتحنها، ونرجع إلى الرب؟
إن فحص طرقنا يعني أن نفحص أنفسنا أولاً، ولا نُوجه أصابع الاتهام لهذا أو ذاك، بل إلى ذواتنا. ليسأل كل واحد منا نفسه هل بسببي أنا هذه البلية؟ ماذا فعلت؟ هل تحولت عن أمر كان يجب أن أفعله؟ أم سعيت في طريق لا يريدني الرب أن أسلكه؟ هل كسرت وصية صريحة في الكتاب المقدس؟ هل تخليت عن حق ثمين، وفرطت فيه لأجل مصالحي الشخصية؟
من أهم الأدوات اللازمة لفحص النفس هي أن نمتحن كل شيء فينا في نور كلمة الله الفاحصة والكاشفة. كلمة الله تكشف وتمتحن كل شيء فينا. تمتحن الأقوال والأفعال، الخطط والآمال، بل تُميِّز أفكار القلب ونياته. نحتاج بكل اتضاع أن نراجع دوافعنا وعلاقاتنا وتطلعاتنا. ما أحوجنا في هذه الأيام إلى فحص النفس الذي يَرُدّ نفوسنا إلى الكلمة المقدسة، كما قال المرنم: «تَفَكَّرْتُ فِي طُرُقِي، وَرَدَدْتُ قَدَمَيَّ إِلَى شَهَادَاتِكَ. أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ» (مز ١١٩: ٥٩، ٦٠).
فحص النفس ليس مجالاً للشفقة على الذات، أو تبرير التصرفات، بل الاستعداد الجاد للتوبة الحقيقية، طالما وُجِدَت النفس ملومة. وأولى الخطوات هي الحكم على الذات، والاعتراف بالخطأ بكل اتضاع أمام الله البار. يوجد ميل فينا بالطبيعة أن نُلقي التهمة على الآخرين، كما فعل آدم عندما ألقى التهمة على حواء، وهي ألقت التهمة على الحية. ولكن أحد دلائل الرجوع القلبي الحقيقي للرب، أن نقف في صف الرب ضد أنفسنا، صانعين سكاكين من صوان مستخدمين إياها مع أنفسنا، وليس مع إخوتنا.
وقفة صادقة وفحص دقيق
إن ضَرَبَتنا قلوبُنا ولامَتْنا ضمائرُنا، دعونا نقف على مفارق الطرق؛ وقفة صادقة بدلاً من التقدم في طريقنا بعدم مبالاة، فتضيع أوقاتنا وطاقاتنا في إرضاء الناس أو ذواتنا، ونتجاوب مع تلك الصرخة المدوية: «قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَانْظُرُوا، وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (إر ٦: ١٦):
(١) «قِفُوا على الطرق»: الأمر يستدعي وقفة صادقة للمراجعة والفحص الدقيق.
(٢) «انْظُرُوا، وَاسْأَلُوا»: لم يقل: “صيحوا ونددوا بما هو خطأ”، بل «انْظُرُوا، وَاسْأَلُوا»:
«انْظُرُوا»: البحث الدقيق باجتهاد واهتمام وإخلاص شديد، لمعرفة ما يقوله الكتاب.
«اسْأَلُوا»: الصلاة للرب، وطلب معونة الروح القدس الذي يهدينا للطريق التي نسلكها.
(٣) «وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ و َسِيرُوا فِيهِ»: يقينًا من يسأل الرب في جهاد الصلاة، ويبحث في الكلمة باجتهاد واتضاع، سيجد عند الرب جوابًا شافيًا. وحين يُقنعنا الرب مُشيرًا للطريق الصالح، علينا أن نسلكه مسرعين، مهما كانت آراء الناس وتوجهاتهم.
(٤) « فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ»: الذين يبتغون بإخلاص أن يسلكوا بالحق، بدون شك سيكونون مُعذَّبين وهم يعرجون بين أشباه الحقيقة، لكن حين يرشدهم الرب بنعمته ويكشف لهم الطريق الصحيح، ستمتلئ قلوبهم بالراحة الحقيقية؛ راحة في الضمائر لا تخطئها النفوس الأمينة، التي تبتغي أن تتصرف حسنًا في كل شيء.
كم نحتاج للرجوع الدائم للرب بكل اتضاع وبروح الصلاة، ملتمسين إرشاده، خاضعين لسلطان كلمته ومستعدين لعمل مرضاته، مُراعين مجده فوق أي اعتبار آخر.