قصة لوط ابن أخي أبرام تختلف كثيرًا عن قصة تارح. كان لوط بارًا بلا جدال، رغم أن أحدًا قد لا يتصور ذلك، لكن بطرس بالوحي يقرره (2بط2: 7، 8). وبدلاً من أن يكون مثل تارح متدينًا بديانة أهل العالم، نجده مؤمنًا عيانيًا. هو قطعًا تبرَّر بالإيمان، وأُحضر إلى كنعان، واشترك في امتيازات المؤمنين بالله، لكنه كان عارًا على اسم الله، وثقلاً مُكدِّرًا لإبراهيم، ولطخ بالخجل كل مَن التصقوا به. لوط وتارح كانا تجربتين تابعتا إبراهيم كي تُطفأ شعلته، التي خفتت قليلاً في حاران.
اسم لوط معناه “قناع” أو “ملفوف” أو “مُستتر”. واسم تارح معناه “معوّق” أو “متباطئ”. كان لوط مثل سراج تحت المكيال، وكان تارح كمَن يحجب النور تحت سرير الراحة (مر4: 21).
أيها الأحباء: ليس في العمل ما يعيب، ولا في الراحة ما يُشين، ولكن الانصباب في الشغل حتى لا نجد وقتًا لعمل الرب، هو العيب، والاستسلام للراحة والتباطؤ حتى نفضلهما على عبادة الرب، فيهما ما يُشين. كانت هذه أخطاء في حياة التسالونيكيين، وعالجها الرسول بقوله: «أَنْ تَحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ، وَتُمَارِسُوا أُمُورَكُمُ الْخَاصَّةَ، وَتَشْتَغِلُوا بِأَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ، لِكَيْ تَسْلُكُوا بِلِيَاقَةٍ عِنْدَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، وَلاَ تَكُونَ لَكُمْ حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ» (1تس4: 11، 12).
هل يُعاب على السرير أنه مكان راحة؟ وهل يُعاب على المكيال أنه أداة تجارة؟ كلا. إنما العيب أن توضع المنارة تحت السرير أو تحت المكيال، لأن المنارة يجب أن توضع في موضع فيه يراها الجميع. هكذا كان إبراهيم: سراجًا موقدًا فوق منارة؛ فأضاء للجميع. ننطبق عليه كلمات الرب يسوع «لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ» (مت 5: 14). عند اليهود مثل يقول: “حين يُضيء السراج على شخص واحد، فهو أيضًا يضيء على مائة شخص”، وسراج إبراهيم أضاء على مئات الأجيال، ولم ينطفئ بعد، وكل هذا رغم أن إبراهيم لم يكن رجلاً فقيرًا، بل كان غنيًا جدًا، لكنه كان غنيًا لله في الداخل كما في الخارج.
كان تارح عجينة في مصوغ معدني، وكان لوط ماسة في مصوغ خزفي، أما إبراهيم فكان لؤلؤة ثمينة في مصوغ من ذهب. كان تارح مثل ذلك الأسباني الذي ظنه أصدقاؤه غنيًا عريض الثراء، لكنه في حياته الخاصة في الخفاء كان كالمُعدم، يأكل بشراهة الفُتات المتبقي من طعام الفقراء. وكان لوط مثل البخيل الذي يكدس الثروة، ولكنه يقتات على بقايا عظمة ينتزعها من فم كلب. ومثل لوط كثيرون يتطاحنون مع خطاة من أجل قطعة من جيفة، وهم يملكون ميراثًا سماويًا جزيلاً .
في الأدب القديم أسطورة، تحكي أن واحدًا من ملوك الحبشة كان أعمى، وكانت كل يوم تُرتَب قدامه مائدة عامرة بالأطايب الفاخرة، ولكن بمجرد أن تُرتب المائدة، كانت غربان الجو الجهنمية تحوم وبسرعة تهجم على المائدة وتخطف الطعام. والأعمى المسكين عاجز عن زجرها. هكذا كان لوط، وهكذا اليوم أيضًا بيننا أحباء، لهم ميراث سماوي عظيم، وزودهم الرب بمواهب سماوية غنية لكنهم يحرمون أنفسهم وإخوتهم من نصيب مُشبِّع، بسبب غشاوة على بصائرهم، وبسبب هجمات قوات الظلمة.
لقد كان بعض من المؤمنين، الذين كتب إليهم بطرس رسالته الثانية واقعين في هذا الشر. والرسول حذرهم قائلاً: «لأَنَّ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ، هُوَ أَعْمَى قَصِيرُ الْبَصَرِ، قَدْ نَسِيَ تَطْهِيرَ خَطَايَاهُ السَّالِفَةِ. لِذَلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَنْ تَزِلُّوا أَبَدًا» (2بط1: 9، 10).
هناك أسطورة تحكى أن ملكًا أراد التخلص من هرقل عبده، ومن قوته الخارقة، فكان يرسله إلى أخطر الرحلات، ويطلب منه أشق الأعمال، لعله يضعف أو يهلك. وفى إحدى الرحلات جلس ليلتقط أنفاسه المتعبة، وإذ به يُبصر، على الطريق، فتاتين مُقبلتين نحوه، الأولى تقول له: ”أيها البطل العملاق جئت لأدعوك إلى الحياة الحلوة الجميلة، المليئة بالغنى والمتعة والملذات، بشرط أن تسير معي وتصاحبني طول الطريق. فسألها هرقل: من أنتِ؟ وما اسمك؟ فقالت: أنا “اللذة”، ولكن أعدائي يُطلقون عليَّ اسمًا آخر، هو “الرذيلة”. وتقدمت الثانية وقالت: لا تصدقها أيها الإنسان المسكين، إنها مُدعيَّة وكاذبة، وأنا لن أعدك بما قالت، ولكنى أعدك بأن أسير معك الطريق الطويل، المُضني والمُتعِب والقاسي، وسوف أزودك بالإيمان والعزيمة، والقوة والشجاعة، والصبر والأمانة، فتحيا وتصبح قصتك من أعظم القصص، تتوارثها الأجيال، ويتحدث عنها الشجعان، ويتأملها عابرو الطريق في كل جيل وعصر. فسألها: من أنتِ؟ وما اسمك؟ فقالت: اسمي “الفضيلة”.
أيها الأحباء: وإن كانت هذه أسطورة، لكنها تنطبق على ما يواجهه الإنسان في كل زمان ومكان، خطاة كانوا أو مؤمنين. فلوط في سبيل الغنى اختار بلد الرذيلة “سدوم”، لذلك فقد الحياة من قبل أن يموت، وانتهت قصته منزويًا في كهف مع موآب وعَمّون. بينما فضَّل إبراهيم طريق الفضيلة، فكانت حياته دسمةً عميقةً، امتدت آثارها وتأثيرها إلى كل الأجيال المتعاقبةً، وأصبحت حياته فصلاً جديدًا من تاريخ الجنس البشرى، وعلامةً على الطريق لجميع الذين أتوا من بعده، وموضوع تأملاتهم ووعظهم، وهذا كله لأنه فضَّل أن يعيش بالإيمان، ورفض العيان.
لوط لم يهلك مع غير المؤمنين وقد خلص بالإيمان، لكنه “سْلَكَ بِالْعِيَانِ” (2كو5: 7). كان ذا تكوين فظ متنافر، ومثل أصحاب هذه الأخلاقيات المتنافرة تجد فيهم الغلظة مع العقم. أما إبراهيم “الأب العالي” فهو الرجل الغني، غنىً حقيقيًا بمعناه الصحيح، داخلاً وخارجًا، كان كريمًا سَمِحًا سخيًا، وأنار في الموضع المُظلم. كان مُطيعًا مع الله، لينًا ولطيفًا مع عبيده، جوادًا مع ضيوفه، مترفقًا حتى مع الأعداء، أبًا للمؤمنين، وخليلاً لله.
وحياة لوط فيها من الدروس الكثيرة المُحذرة لنا:
1- القلب الفارغ السطحي الذي يفتقر لرؤيا الرب وإعلاناته، أبدًا لا يستطيع أن يصمد أمام العالم وإغراءاته «فَرَفَعَ لُوطٌ عَيْنَيْهِ وَرَأَى كُلَّ دَائِرَةِ الأُرْدُنِّ أَنَّ جَمِيعَهَا سَقْيٌ، قَبْلَمَا أَخْرَبَ الرَّبُّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ، كَجَنَّةِ الرَّبِّ، كَأَرْضِ مِصْرَ. حِينَمَا تَجِيءُ إِلَى صُوغَرَ» (تك:10:13).
2- هناك ارتباط وثيق جدًا بين القلب والعين، فالذي يتمسك به القلب تتعلق به العين، والعين غير البسيطة دائمًا نظرتها خاطئة، فسدوم وعمورة التي يرى الرب أهلها أشرارًا جدًا، تراها «كَجَنَّةِ الرَّبِّ».
3- الفشل في حياة المؤمن لا يأتي فجأة، لكنه دائمًا نهاية طريق يبدأ بخطوة وراء الأخرى. مع لوط كانت السطحية، ووراءها النظرة الخاطئة، ووراءها الاختيار الخاطئ. والترياق الواقي من هذه كلها هو الشركة العميقة مع الرب.
4- عدم التدقيق والاستهتار بالثعالب الصغار، هو من أخطر الأمور التي تفسد كروم الحياة. استخف لوط بالسكن في مدن الدائرة، ونقل خيامه تجاه سدوم، فما كان بعد ذلك إلا انه ذهب ليعيش داخل سدوم، ليصبح في النهاية من سكان سدوم وأهلها.
5- شرك العالم (سدوم) شيء مرعب، يقتنص النفس الكريمة. ومن يعيش خارج المقادس لن يرى زواله، بل يؤخذ بخداعه، وزيفه، وبريقه الكاذب، وبعد أن يظهر على حقيقته من قباحة، ونجاسة، وأفعال أثيمة، لا يستطيع أن يقاومه، أو أن يخرج من بين أنيابه «إِذْ كَانَ الْبَارُّ، بِالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْمًا نَفْسَهُ الْبَارَّةَ بِالأَفْعَالِ الأَثِيمَةِ»، وحينئذ لن يبقي أمامنا سوى مراحم الرب الذي يعلم أن ينقذ الأتقياء من التجربة (2بط2: 8، 9).
أخيرًا أيها الأحباء علينا أن نُطيع تحريض الرب: «اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ!» (لو17: 32)، المرأة التي كانت في أقرب علاقة مع شخص خلص وتبرَّر، وهى التي سمعت التحذير لكي تبقى على هذه العلاقة. إنها وعت التحذير إلي زمان، وخرجت بالفعل من المدينة الشريرة، وبالرغم من كل هذه الامتيازات، هلكت.
إننا نرى في لوط كيف يقترب الإنسان من اللعنة، وبنعمة الرب ومراحمه وحدهما يخلص. وفى امرأة لوط، نرى كيف يقترب الانسان من الخلاص والنجاة، ولكن بعصيانه وعدم إيمانه يهلك.
أيها الأحباء: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ» (1يو2: 15).
(يتبع)
شنودة راسم