الرعب:
أن يدين الله شعبه، لهو أمر يبدو وكأنه المستحيل بعينه. إلا أن هذا ما أدركه حبقوق النـبي، ولم يستطع تصديقه، وهو يرى الرعب الآتي، والموصوف في العدد الافتتاحي على أنه “ثِقل”. فالكلمة “وَحْيٌ” تأتي في الإنجليزية “ثِقل The burden)”، لأن الأمر كان أثقل من أن يُحمَل؛ وإذ علق هذا بذاكرته، فقد غدا مكتئبًا، كما لو كان رازحًا تحت حمل ثقيل.
«حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟» (حب ١: ٢). بالرغم من كون هذه رؤية للمستقبل القريب، إلا أنها لم تتحقق بعد بشكل نهائي وكامل. لكن أليس من تطبيق هام جاد لها في أيامنا نحن أيضًا؟ أليس حريٌّ بنا أن ننظر برعب إلى القضاء المُعلَّق فوقنا؟ أليست خطايا شعب إسرائيل في ذلك اليوم، هي ذات خطايا شعوبنا في هذه الأيام؟ «وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا. لِذلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً» (حب ١: ٣، ٤).
هناك فوضى وانفلات في شوارعنا، كذب واحتيال في التجارة وفي الحياة العامة، والجار يقوم على جاره «قَدْ رَأَيْتُ ظُلْمًا وَخِصَامًا فِي الْمَدِينَةِ ... وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا. مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَـبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ» (مز ٥٥: ٩-١١). هذا ما قاله داود المرنم قبل حوالي ٤٠٠ سنة. لقد شعر بنفس الرعب والتمرد كما فعل حبقوق.
عمق مشورات الله:
لا بد أن يكون النـبي قد شعر، تمامًا كالمرنم، بأنه على وشك الخوار والاستسلام. ونحن إذ نختـبر قساوة قلوب مَن حولنا، وتجاهلهم المتعمد، ألا نشعر بنفس الشعور؟! إلا أنه عندما تصرخ قلوبنا حزنًا على كل الخطايا الـتي حولنا، حينئذ يأخذنا الله إلى عمق مشوراته، وبالتدريج يتضح لنا كل شيء.
إن كلمة الله تلقي بنورها على ظلمة كوكبنا الكئيبة، ونحن نرى أن الله، في النهاية هو المُسيطر والمُتحكم في كل الأمور. إنه يحمل المستقبل، فهل نخاف؟ حـتى في زمن حياة حبقوق كان الله يخطط ليقوم بعمل لا يُصدَّق «فَهأَنَذَا مُقِيمٌ الْكَلْدَانِيِّينَ الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ» (حب ١: ٦)، إذ كان الرب سيُقيمها كأداة قضاء على شر شعبه.
لنضع كل هذا في جدوله الزمـنى. لقد رأى حبقوق الانحدار في مملكة إسرائيل. إلا أن يوشيا الملك الشاب، الذي جلس على العرش منذ ٨ سنوات، وعمره الآن ١٦ عامًا، كان يخطط لإصلاحاته؛ لقد كان الله في رحمته مُعطيًا شعبه فرصة أخرى للتوبة، وليُصلحوا الحالة الخربة لأمتهم، ولحياتهم. حـتى في ذلك الوقت، لا بد أن المتشائمين والمتهكمين، كان لهم أن يبتسموا ابتسامة يائسة ساخرة، وينغضون رؤوسهم قائلين: “لا فائدة من ذلك”.
وحـتى في يومنا هذا، نحن لا نعلم ماذا سيكون. إلا أن الله له خططه، وبينما نحن نتمتع بالحرية، يمكننا أن نعلن تحذير الإنجيل: «يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ» (يو ٩: ٤). فالضرورة تزداد إلحاحًا. وعن بابل العائدة للحياة، نقرأ: «تَصِيرُ بَابِلُ، بَهَاءُ الْمَمَالِكِ وَزِينَةُ فَخْرِ الْكِلْدَانِيِّينَ، كَتَقْلِيبِ اللهِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ» (إش ١٣: ١٩)، منتظرة بأجنحة، مُلهَمة من الشيطان، لكن بسماح من الله، ليأتي على هذه الأرض الآثمة بالقضاء المريع.
إن الخطية كالفساد، تنتشر في كل الرتب والأحوال الاجتماعية. في النهاية فالأساسات تفسد، ويتزعزع كل الهيكل، لينهار أخـيرًا. ومن الطبيعي أن يتسلل إلى ضمائرنا رجفة فزع. ومن الطبيعي أن نيأس، لكن الله يعرف ضعفنا ويعطينا تشجيعًا من كلمته.
إن دينونة الله عادةً ما تكون علاجية، مُطهِّرة لنفوسنا حـتى نصل إلى الأفضل. لم يبدُ تدمير أورشليم وخراب الهيكل، كبركة لشعب إسرائيل، إلا أنه كان كذلك. لقد أعطاهم السبي منظورًا مختلفًا، فقد رجعوا من السبي شعبًا حزينًا، لكن أكثر حكمة.
تطابق الرؤية:
إن تجربة النـبي حبقوق تشبه تلك الـتى للمرنم آساف؛ فها هو ينال أيضًا الاستنارة «فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هذَا، إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْـنَيَّ. حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ، وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ» (مز ٧٣: ١٦، ١٧). لقد أعلن الله لحبقوق عن حضوره، وهذا وضع الأمور في نصابها الصـحيح: «أَلَسْتَ أَنْتَ مُنْذُ الأَزَلِ يَا رَبُّ إِلـهِي قُدُّوسِي؟ لاَ نَمُوتُ ... عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ» (حب ١: ١٢، ١٣).
ليس ما يعطينا الشجاعة مثل معرفة أن الله معنا. وكحزقيال فيما بعد، فهم حبقوق الإرسالية التى أعطاه الله إياها وأكد: «عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ، وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ» (حب ٢: ١).
فى سفر حبقوق نجد سلسلة من الأخبار الواضحة تلمع لتُنبه عقولنا، فلا تُنسى. فها الخطة تتكشف، وكـ“مارتن لوثر” نتشـجع لـنرى أن «الْبَار بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حب ٢: ٤). ثم نجد شخصًا شريرًا للغاية، على النقيض تمامًا من الضعيف المُتعلق بحق الله: هذا «الرَّجُلَ مُتَكَـبِّرٌ وَلاَ يَهْدَأُ. الَّذِي قَدْ وَسَّعَ نَفْسَهُ كَالْهَاوِيَةِ، وَهُوَ كَالْمَوْتِ فَلاَ يَشْبَعُ، بَلْ يَجْمَعُ إِلَى نَفْسِهِ كُلَّ الأُمَمِ، وَيَضُمُّ إِلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ الشُّعُوبِ» (حب ٢: ٥).
إن ارتباط السياق بالكلدانيين واضح، إلا أن ذاك “الرَّجُلُ المُتَكَـبِّر” ليس مرتبطًا بنَبُوخَذْنَصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ الْكِلْدَانِيِّ؛ فلم يكن هذا الأخـير سوى مجرد رمز لهذا القاهر القاسي الرهيب، الذي طموحه يجعل منه أداة في يد الشيطان الطامح لأن يمد نفوذه على العالم بأسره. وعـبر تاريخ الكتاب المقدس، يتكرر هذا النموذج، وكل نموذج يظهر في صورة أعـتى وأشر مِمَن قبله. هذا “الرَّجُلُ المُتَكَـبِّر” أعظم من الإسكندر الأكـبر، وعديم الرحمة أكـثر من قيصر، وأقسى من جنكـيز خان؛ وقريبًا جدًا سيُستعلن. إنه وحش رؤيا ١٣.
الأمل:
لكن حتى بعد أن يحدث هذا عليه أن يرحل، ليُفسح المجال لشخص آخر. عليه أن يتذلل كما يشاء سيده، لأن الكتاب يُقرر: «تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ ... وَيَعْـتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (في ٢: ٩-١١؛ إش ٤٥: ٢٣). للتو بعد أفول هذه الظلمة، ستُسمع هذه الصرخة العجيبة: «مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟ هذَا الْبَـهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ»، لتأتى الإجابة: «أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ، الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ» (إش ٦٣: ١).
إننا لم نُخبَر بوقت تتميم هذا؛ ليس لنا أن نعرفه، إلا أننا واثقون من حتميته، لأننا نقرأ الوعد العجيب: «لأَنَّهُ بَعْدَ قَلِيل جِدًّا سَيَأْتِي الآتِي وَلاَ يُبْطِئُ» (عب ١٠: ٣٧). هذا الاقتباس في العهد الجديد هو إعادة صياغة للنص الوارد في حبقوق ٢: ٣، حيث نال النبي الوعد «لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ». ونحن نرى الشخص المجيد الذي سيُحققها عند مجيئه للأرض. إن مَن فدانا، وغـيَّر حياتنا، سيعود أيضًا ليُغـيِّر الأرض، ثم الكون، ويأتي بالخلاص لشعبه. كل شيء سيأتي في وقته، وفى ترتيبه الصحيح.
شهود كثيرون:
لقد رأت مريم أيضًا هذا اليوم وتهللت قائلة: «تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي». ثم استطردت: «صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَـيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ» (لو ١: ٤٦-٥٣).
«أَمَّا الرَّبُّ فَفِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. فَاسْكُتِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ الأَرْضِ» (حب ٢: ٢٠). عندما سمع النبي هذا ركع على ركبتيه وصلى: «يَا رَبُّ، قَدْ سَمِعْتُ خَـبَرَكَ فَجَزِعْتُ. يَا رَبُّ، عَمَلَكَ فِي وَسَطِ السِّنِينَ أَحْيِهِ. فِي وَسَطِ السِّنِينَ عَرِّفْ. فِي الْغَضَبِ اذْكُرِ الرَّحْمَةَ» (حب ٣: ٢). هذه الصلاة هى لكل مَن مَـيَّز أن الأرض ما هى سوى برية جدباء، ونحن لا ننتـمي إليها. إننا نـترنم: “هذا العالم ليس موطني، ما نحن إلا عابرون فيه”. ليس غـير أولئك المُمسكين بحق بهذه الأمور هم المُقدّرين للأمور العجيبة التي تليها.
الأماكن المرتفعة العالية:
مهما كانت حالة العالم، مهما كان هيجان الأمم، ومهما رأينا أن «الأَشْرَارُ فَكَالْبَحْرِ الْمُضْطَرِبِ لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ، وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِينًا» (إش ٥٧: ٢٠)، فلنا هذه الثقة: الله هو الله، وهو مُمسك بنا بقوة وبأمان. بل وأكثر من ذلك، لأنه حتى في هذا العالم، وفى الوقت الذي ينكمش فيه الناس، ويعانون، بل وينحنون للقاهرين والطغاة، فنحن لا نفعل، بل كالأيائل تأخذنا أقدامنا إلى فوق، إلى المرتفعات (حب ٣: ١٩)، حيث نتنسم جو السماء المنعش النقي، وننظر بمنظور الله إلى الحروب والمنازعات والكبرياء والكذب والرياء والعنف والمجاعات والأمراض والموت. مهما كانت الحالة، فإننا نشدو بأوتار آلات السماء، آمنين في تلك الأماكن المرتفعة العالية.