«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود،
لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت، يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، أما أنت وبيت أبيك فتبيدون، ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك»!! (أس4: 13و14).
ما زلت أقف مبهورًا أمام عظمة هذه الكلمات البديعة الشامخة، والتي تدل على قلب واثق ونفس مطمئنة، قلب برؤ من ضعف الإيمان فصار أفضل مما كان! ونفس ترى الأمور رؤيةً صحيحةً، بل وتصحح للآخر رؤيته الخاطئة، هذا على الرغم من كونها ترى في ليلة حالكة الظلام!! ذلك لأنها ترى لا بفعل شعاع المنطق بل بنور أشعة الإيمان! آه ما أعظم الإيمان! وما أروع رؤية الإيمان! الإيمان الذي يعلو على المنطق وينتصر عليه، فيجعل صاحبه يرى الله في الوقت الذي فيه لا يستطيع أن يرى بالمنطق أي شيء آخر من شدة الظلام!! نعم إن المنطق السليم بركةٌ بل ولازمٌ للإنسان، لكن هناك مواقف في الحياة لا يصلح معها إلا الإيمان. فإن كان المنطق السليم لصاحبه هو كنظارة الميدان، التي تمكِّن المحارب من رؤية الخطر القادم من على بعد كبير، فإن الإيمان لصاحبه هو كمرصد هابل الذي يمكِّن الناظر من رؤية النور القادم من أبعد النجوم.
وسر الجمال في هذه العبارة يكمن في كونها تجمع بين ”المتناقضات“ ثم تصدم القارئ في ”المسلمات“ أي أنها تصدمه في ما يتفق عليه جميع الناس أنه حقيقي وبديهي ومنطقي!
أما عن المتناقضات، فهي تكلمنا عن أستير الملكة من جانب، وسائر عموم شعب اليهود من جانب آخر.
تكلمنا عن بيت الملك من جانب، وعن العراء المطروح فيه الشعب المغضوب عليه بلا أدنى حماية أو غطاء من جانب آخر.
تكلمنا عن الفرج والنجاة من جانب، وعن عدم النجاة والإبادة من جانب آخر.
إلا أن العجيب جدًا أنها جعلت الإبادة والهلاك من نصيب الملكة ساكنة القصر، بينما الفرج والنجاة من نصيب من هم في العراء!!! وهكذا تصدمنا في المسلمات.
ما أروع رؤية الإيمان!! الإيمان الذي يعلو على المنطق وينتصر عليه، فيجعل صاحبه يرى الله في الوقت الذي فيه لا يستطيع أن يرى بالمنطق أي شيء آخر من شدة الظلام!!
لقد كانت أستير صاحبة حصانة، لا حصانة دبلوماسية ولا حتى برلمانية، بل حصانة ملكية، حصانة سيدة القصر، قصر ملك الملوك أحشويروش، وما أدراك ما قصر أحشويروش! بل وما أدراك ما الاحتياطات الأمنية الجبارة حول هذا القصر! ولذا فبينما انفرش مسح ورماد لكثيرين، كانت هي لا تزال تنام على الحرير، وبينما علت الصرخات المرة من عموم اليهود، كانت هي تنعم بموسيقى القصور، وبينما كان الكل ينتحب من هول الخطر، كانت هي داخل أسوار القصر ليس عندها خبر!
ولذا فبينما يقول الكتاب عن اليهود:
«وفي كل كورة حيثما وصل إليها أمر الملك وسنته كانت مناحة عظيمة عند اليهود، وصوم وبكاء ونحيب، وانفرش مسح ورماد لكثيرين» (أس4: 3)
يقول في العدد التالي مباشرة:
«فدخلت جواري أستير وخصيانها وأخبروها فاغتمت الملكة جدًا وأرسلت ثيابًا لإلباس مردخاي ونزع مسحه عنه فلم يقبل» (أس4:4)
لاحظ أنهم أخبروها عن مردخاي وليس عن اليهود وقانون الإبادة، وبالتالي كان كل ما فكرت فيه هو نزع مسح ابن عمها العزيز!! وعندما لم يقبل مردخاي نزع مسحه يقول الكتاب:
«فدعت أستير هتاخ واحدًا من خصيان الملك الذي أوقفه بين يديها، وأعطته وصية إلى مردخاي لتعلم ماذا ولماذا؟» (أس4: 5).
لاحظ هنا أنها إلى ذلك الوقت كانت لا تعلم ماذا ولا لماذا!!! وما أجمل هذا التعبير: ”ماذا ولماذا؟“ والذي يبين جهلها الشديد بما حدث. نعم إنها بعيدة جدًا عن الأحداث! بعيدة جدًا عن الخطر!!
هذا هو حال الملكة، فماذا عن حال سائر اليهود؟
إن عموم شعب اليهود ومعهم مردخاي، لا حول لهم ولا قوة، لا باع ولا ذراع، بل هم شعب منكوب أدركه غضب هامان الرديء، ومن يقف في وجه هامان بعد ما أعطاه الملك كل ما أعطاه؟ لم يتبق لهم سوى النوح العظيم والنحيب ولبس المسوح والجلوس في الرماد!
إذًا فالمنطق يقول: إن شعب اليهود هالك لا محالة، بينما أستير في غاية الأمان.
لكن مردخاي يرفض هذا المنطق، وها هو يصدم أستير، بل ويصدمنا جميعًا معها عندما يعلن لها أن قصر أحشويروش الملك، أعظم حصن للأمان عرفه الناس في ذلك الوقت، بل وربما في كل التاريخ، لا يضمن لها أية نجاة! بينما عموم شعب اليهود المساكين، وعلى الرغم من قوة القانون الذي يقضي بإبادتهم، وعلى الرغم أيضًا من اعتذارها هي عن الوساطة لأجلهم، لن يهلكوا، بل سيكون لهم الفرج والنجاة، حتى وإن تخلى الكل عنهم!!
أي أن:
من هو في أعظم حصن للأمان عرفه الناس لن ينجو!! بينما من هو في أعظم خطر عرفه الناس لن يهلك! أ ليس هذا ضد المنطق الذي يحكم أحكم الناس وأعقلهم؟ نعم هو ضد المنطق، لكنه ليس ضد الإيمان. والسبب هو أن عين الإيمان ترى الله في المشهد حيث تحت جناحيه لا خطر، حتى وإن كان قانونٌ بإبادتك قد صدر، وبعيدًا عنه لا أمان، حتى ولو كنت في قصر الملك!
إن عين الإيمان ترى الله في المشهد حيث تحت جناحيه لا خطر، حتى وإن كان قانونُ بإبادتك قد صدر، وبعيداً عنه لا أمان، حتى ولو كنت في قصر الملك!
عزيزي القارئ:
هذا هو مردخاي، وهذه هي لغته بعد أن استرد عافيته الروحية واستعاد اتزانه المفقود. فماذا عن حالتك أنت إن غابت الشمس وحل المساء؟ كيف سترى في عتمة الليل إن فاجئك الظلام؟ وماذا ستكون لغتك؟
هل فكرت مرة أن الظلام قد يحل فجـأة؟ فماذا ستفعل عند ذاك؟ هل أعددت نفسـك له بمصبـاح الإيمان؟ وهل شحنت هذا المصباح الذي لن يسعفك سواه إن حل الظلام؟
آه ما أسخف مفاجئات الحياة! فهل أنت مستعد لها بالسكنى تحت جناحي الإله؟
تعال بنا لنتعلم من مردخاي، نتعلم منه روعة الإيمان الذي يرى، رغم شدة الظلام، إله النجاة الذي عنده وحده الأمان، تعال لنبدأ من حيث انتهى هو، فها هو يعطينا خلاصة تجربته لكي لا نسقط كما سقط هو في البداية، عندما حل عليه الظلام وهو في حالة استرخاء .
ودعنا نتوقف عند العبارة الأولى فقط من كلامه والتي يقول فيها لأستير:
«لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود»
وأعتقد أننا إذا فحصناها بدقة سنجدها تحتوي على ثلاثة أفكار تقودنا جميعها إلى إله النجاة الذي عنده وحده الأمان، هي:
أولاً: نصيحة هامة: «لا تفتكري في نفسك». خطورة الحوار الداخلي.
ثانيًا: حقيقة أكيدة: «لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك». هشاشية بيوت الملوك.
ثالثاً: بشارة مفرحة: «لا تفتكري في نفسك أنك تنجين في بيت الملك دون جميع اليهود». توجد نجاة للمساكين.
أولاً: النصيحة الهامة: ”لا تفتكري في نفسك“
وتأتي في ترجمة داربي كالآتي: ”Imagine not in thy heart“ بمعنى ”لا تتخيلي في قلبك“.
وتأتي في ترجمة K J كالأتي: ”“Think not with thy self بمعنى ”لا تفكري مع نفسك“.
لاحظ عزيزي القارئ: هاتين العبارتين ”لاتتخيلي في قلبك“، ”لا تفكري مع نفسك“.
إنهما يكلماننا عما يسميه أهل العلم اليوم: ”الحوارات الداخلية“، فهم يقولون لنا إن الإنسان في حوار دائم، حوالي 85٪ منه يجريه الإنسان مع نفسه! وهذه حقيقة واقعة فعلاً، فنحن في حوار دائم مع أنفسنا، فإننا حتى في حوارنا مع الآخرين نقيم حوارًا داخليًا مع أنفسنا! وهل تعلم، عزيزي القارئ، أن لهذه الحوارات الداخلية أثر كبير على مشاعرنا ورؤيتنا للأمور، بل وعلى كل قرارات حياتنا؟ ولا سيما أن أهل العلم يقولون لنا أن الإنسان البالغ يخطر على باله حوالي خمسين ألف فكرة خلال اليوم الواحد!! والأدهى أنهم يقولون إن 80٪ منها أفكار سلبية!
وألا تعتقد معي أننا كثيرًا ما عانينا بشدة، بل وكثيرًا ما ارتكبنا أسخف الحماقات، لأننا لم نتعود على مراقبة حواراتنا الداخلية ومراجعتها، فكانت خاطئة وسلبية؟ لقد تعودنا أن نستسلم لحوارنا مع أنفسنا، ونستسهل أن نتكلم ونرد على أنفسنا. فأنا الذي أفكر وأستنتج وأستنبط، ثم أظن وأتخيل، ثم أؤكد لنفسي صحة ظنوني! وهكذا أمتليء بالمخاوف من الحياة، أو المرارة تجاه أشخاص، كل هذا دون مراجعة أو حساب.
نتعود على أن نغمس أنفسنا في كلمة الله، ونجدد بها أذهاننا، لكي تحكمنا إن فكرنا، وتضبطنا إن استنتجنا، وهكذا نحمي أنفسنا من ارتكاب الحماقات، أو على الأقل نحفظ أنفسنا في جو من السلام.
أذهاننا تعمل كطاحونة بكل نشاط، إنها لا تتوقف عن العمل لا في الليل ولا في النهار. فدعونا ندرب أنفسنا على التحكم في نوع الغلال التي تطحنها، فبدلاً من طحن الزوان تعالوا نلقي إليها بالحنطة النقية، نلقي إليها بكلمة الله. آه ما أكثر ما عانيته أنا شخصيًا حينما استسلمت لتخيلي في قلبي، وعندما فكرت مع نفسي! آه ما أكثر ماعانيته عندما فقدت الشعور بالمسكنة الذي يجعلني أخاف من أفكاري، وأرتعب من استنتجاتي ، فأهرع إلى إلهي لأجلس في محضره، مصليًا شاكيًا همي، وساكبًا نفسي مفرغًا أمامه كل مخاوفي، وممتحنا أيضًا كل ظنوني، فإن فكرت أفكر في محضره، وإن تخيلت أتخيل تحت إشرافه، وهكذا أؤمِّن نفسي من حماقة أفكاري. لكن، للأسف الشديد، فإن الجسد البغيض بكبريائه يثق دائمًا في أفكاره، فيسترسل في حواراته مع نفسه، وبالتالي يستثقل الجلوس مع الرب لمراجعة نفسه وامتحان أفكاره، فهو يعتبر أفكاره فوق المراجعة، وينسى قول الكتاب: «المتكل على قلبه هو جاهل» (أم28: 26).
لذلك فإني أناشد من قلبي كل ابن وابنة من أولاد الله، أن نحترس من الاستسلام لحواراتنا الداخلية بدلاً من الجلوس في محضر الله. وأقول لهم بكل حب محذرًا: إن أذهاننا تعمل كطاحونة بكل نشاط، إنها لا تتوقف عن العمل لا في الليل ولا في النهار، قد يكل الجسد أو يمرض فيتوقف عن العمل، أما هي فلا تعرف الإجازات! لذلك إن كنا لا نستطيع إيقافها، ولا حتى التحكم في سرعتها، فدعونا على الأقل ندرب أنفسنا على التحكم في نوع الغلال التي تطحنها، فبدلاً من طحن الزوان تعالوا نلقي إليها بالحنطة النقية، نلقي إليها بكلمة الله
يتبع