الإنسان الأول والإنسان الثاني
«ولما قال هذا نفخ (عليهم)، وقال لهم اقبلوا الروح القدس». هناك جزء آخر من الكتاب المقدس يتجه إليه الذهن الروحي بالارتباط مع هذه العبارة، هو الأصحاح الثاني من سفر التكوين، هناك نقرأ ما سجله الوحي الإلهي عن الكيفية التي بدأ بها الإنسان طريقه في هذا العالم، حيث نجد القصة المفصلة لخلق الإنسان الأول، آدم الأول، ونتعلم في تكوين 1 أن الله أوجد خلائق أخرى نتيجة لأمره بواسطة كلمته تعبيرًا عن قوته. لقد قال: «لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها. وكان كذلك» (تك1: 24)، وقد قال أيضًا: «لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء» (تك1: 20). وهكذا زودت الخليقة بالحيوانات الدنيا، بواسطة كلمة الله البسيطة وبقوة الله. لكن حينما حان وقت وضع الإنسان على الأرض التي كان سيسود عليه، نجد أن الله يشترك فى مشورة هامة من جهة خلقه «نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم» (تك1: 26، 27).
وفي الأصحاح الثاني حيث يدخل الرب الإله في علاقة مع خليقته، نجد تفاصيل أكثر «وجبل الرب الإله آدم (أو الإنسان Man) ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم (أو الإنسان) نفسًا حية» (تك2: 7). لقد نفخ الله نسمة الحياة في أنفه، فأصبح الإنسان فى الحال مخلوقًا مسئولاً. إني أعرف جيدًا أنه توجد نظرية زائفة تقول إن الإنسان قد تطور من كائن أدنى. مثل هذه النظرية بالحقيقة هي مهينة لله، ومهينة أيضًا للإنسان. حاشا أن تكون هذه الفكرة صحيحة، إنها ضلالة شيطانية بها يستخدم الشيطان قلب الإنسان غير المتغيِّر لكي يدخل نظرية تبعد الإنسان عن الله وتتخلص من الله كلية.
لكن دعونا نتحول عن نظريات الإنسان، ونصغي ثانية إلى ما سجله الوحي الإلهي عن كيفية تكوين الإنسان «وجبل (كوّن، أوجد، شكّل) الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية»، ذلك هو السبب الذي لأجله دعي الإنسان في الكتاب المقدس ”ابن الله“. هنا تجدون مصدر خلوده. إن الإنسان كمن هو ذرية الله، هو خالد، والإنسان الشرير هو خالد أيضًا، إن الخلود مرتبط بمنشأ الإنسان، لكن الحياة الأبدية هي الحياة الموجودة فقط في الرب يسوع المسيح، وتأتي منه هو فقط. إنني أعرف جيدًا نظرية أخرى مهلكة من نظريات الأيام الأخيرة تسمى الرجاء الأرحب (the larger hope) إنها ليست إلا كفرًا، إلحادًا مطليًا بالذهب، لكنه إلحاد واضح، وهي محاولة لمحو شهادة الله عن خلود الإنسان وأبدية عذاب الأشرار.
وهكذا نرى مشابهة بين تكوين 2، وما يوضحه الأصحاح العشرون من إنجيل يوحنا، ففي تكوين 2 نجد الإنسان الأول يبدأ فى الحياة هنا على الأرض حيث سيكون هو الرأس والسيد، لكنه كما نعلم قد أخطأ وسقط، وبالتالي فشل، أما في يوحنا 20 فأنت ترى إنسانًا آخر، الإنسان الثاني، آدم الأخير، ابن الله الأزلي آتيًا إلى هذا المشهد، صائرًا إنسانًا. وفي موته وقبره قد أنهى بالنسبة لله وللإيمان تاريخ الإنسان الأول. لقد انتهى تاريخ الإنسان الأول في صليب المخلص، وأصبح الآن الأساس واضحًا لإظهار ”آدم الأخير روحًا محيًا“ كما يسجل لنا الوحي في كورنثوس الأولى 15. إنه المقام من الأموات «نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس».
الرب يوصل حياة القيامة لتلاميذه
لقد ”نفخ (عليهم)“ حياته الشخصية، حياة القيامة، موصلة بالروح القدس، ورغم أنه يتكلم عن الروح القدس، إلا أنه لم يكن قد أرسل بعد، لأن يسوع لم يكن قد صعد بعد إلى السماء، لكنه وصل لهم كقوة الحياة بواسطة المخلص المقام، إنهم يحيون بحياة المخلص المقام. إن الحياة الإلهية التي قد وصلت إليهم بعمل الروح القدس بواسطة الكلمة في الولادة الجديدة تأخذ الآن صفتها المسيحية الكاملة. إن الروح القدس هنا ينظر إليه كالحياة. كما لو كان الرب قد قال: ”إنكم قد أتيتم إلىّ وامتلكتموني كحياتكم، لقد أحييتم معي، ولكنها حياة بالارتباط معي. أنتم أحياء من الأموات ومتحدون معي في كل ما لي بالقيامة، وكل هذا سيكون لكم بقوة الروح القدس“. إنه له المجد يظهر الصفة الحقيقية للمسيحي ومقامه، كإنسان في المسيح بواسطة نشاط وقوة الروح القدس.
الروح القدس في رومية 8
وأرجو منكم الآن أن تتحولوا إلى فصل آخر، لا شك أنه يوضح بدرجة عظيمة الحق المتضمن في الفصل موضوع تأملنا، وهو موجود فى الرسالة إلى المؤمنين في رومية حيث تجدون بالتفصيل الطريقة التي بها أحضر الإنسان إلى الله بالبر. هناك نقرأ «إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع» (رو8: 1).
لماذا لا دينونة عليهم؟ لأن الدينونة التي على المؤمن قد احتملها المسيح من قبل. ولنلاحظ أن الروح القدس لا يقول: لا شيء من الدينونة على الذين غفرت خطاياهم، لكنه حريص على أن يقول ”الذين هم في المسيح يسوع“. وأين هو يسوع المسيح؟ على الجانب الآخر من الموت، على الجانب الآخر من الدينونة، ومن الصليب ومن القبر. إن الدينونة يجب أن تصل إليه قبل أن تصل إلى أولئك الذين هم فيه. لاحظوا أننا نتعامل مع مخلص منتصر وغالب، ثم نقرأ «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت» (رو8: 2). في هذا الأصحاح يقدم لنا روح الله بطريقتين: حتى عدد 11 نجد أن الروح القدس في المؤمن هو روح الحياة، والعتق، والقوة الأدبية فى المسيح. بعد ذلك أي من عدد 12 إلى عدد 27 نجد نشاط الروح القدس وهو ساكن شخصيًا في المسيحي كشخص إلهي عاملاً فيه. إنها حياة الرب يسوع المسيح التي هي حياتنا. وكما يقول بولس في مكان آخر «مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه فى الإيمان (بالإيمان)، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل2: 20). ثم «متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه فى المجد» (كو3: 4). ما هي حياة المسيحي؟ هي المسيح. ونحن نعلم أن المسيح الآن مقبول ومكرم عن يمين الله. وأين هو المسيحي؟ في نفس القبول وفي نفس الكرامة والعلاقة لأنه يقول «أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم».
إن خلاصة الأمر هو أن المسيح قد أخذ هذا المكان الجديد كالإنسان المقام أمام الله، وهو الآن يستطيع أن يحضر أولئك الذين له إلى ذلك المكان نفسه. والذين له هم أولئك الذين يؤمنون به. إن كنت تؤمن به فأنت له.
مرة أخرى نتحول إلى رومية 8 حيث نقرأ «لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه، فيما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه فى شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد» (ع3). إنني لا أنتظر عرش الدينونة لكي يكشف الخطية في الجسد. كلا، لقد كشفها الله سابقًا، ودانها في الصليب. والمؤمن هو في مركز يجعله عارفًا أنه بدلاً من كونه لا يزال ابنًا لآدم مسئولاً وعرضة للدينونة، قد قابل بموت الصليب دينونة الله، ومات عن المركز الذي كان ينتمي إليه، والحالة التي كان عليها كابن لآدم. ولأن المسيح قد قام، فهو (أي المؤمن) مقام فيه. والمسيح كالمقام من بين الأموات هو حياتي، ولا توجد دينونة على الذين هم في المسيح. إن الله قد «دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم (أو بر) الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح».
من ثم هي حياة جديدة، طبيعة جديدة، ونظام جديد للأمور تمامًا. «فإن الذين هم حسب الجسد، فبما للجسد يهتمون». أنت لا تستطيع أن تأخذ أي شيء من الجسد سوى الجسد، «ولكن الذين حسب الروح فبما للروح». ربما تسأل ما معنى هذا؟ إنه روح الله عاملاً بصفة خاصة كروح الحياة، والحرية، والقوة الأدبية بالمسيح. لاحظوا ما يتبع ذلك «لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام». إنها حياة المسيحي العادية، والتي كل من هو ”في المسيح“ قد وُضع فيها بواسطة الروح القدس، ومن الوجهة الأخرى «اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع. فالذين هم فى الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله». إنني إذا كنت في الجسد فأنا لا أستطيع أن أرضي الله. أنتم ترون هنا شيئين على طرفي نقيض، الذين هم ”في الجسد“ والذين هم ”في الروح“. لقد كنت ”في الجسد“ كابن لآدم، والآن أنا ”في الروح“ كمؤمن، ابن لله، وفي المسيح. إذًا الذين ”في المسيح“ هم عكس الذين ”فى الجسد“.
(يُتبَع)