تحدثنا في العدد السابق عن إله المساكين، وعرفنا أن هذا الإله يهتم بالمسكين ويعينه ولا يحتقره، ومع أنه قد يتأنى عليه لكنه لا ينساه أبداً. وأنه لا بد أن يرتفع به إلى ذرى المجد، بل إنه عندما أتى إلى العالم جاء مسكينًا وفقيراً. وهو اختار المساكين لإتمام السر العظيم.
وإن كانت الأرض اليوم مكتظة بالمساكين فليس ذلك إلا لأنهم ما زالوا مصرّين على العيش بالاستقلال عن إله النجاه. أما مَنْ عاد إليه بتوبة صادقة فهو أعد لهم الغنى والمجد الروحي الآن، والغنى والمجد الأبدي عند مجيئه.
إني أود أن يعرف كل شاب وشابة، كل مريض أو فقير، بل كل مَنْ يضع نفسه تحت هذا اللقب ”مسكين“، أن البؤس الحقيقي الأبدي ليس هو الحرمان من المال أو الصحة أو الجمال أو الحق أو الحرية أو العدل. بل إن البؤس الحقيقي فعلاً هو أن يُحرَم الإنسان من علاقة حقيقية حية مع خالقه.
لذلك عندما أقول إنه توجد للمساكين نجاة فإني أقصد في المقام الأول هؤلاء المساكين الذين لهم علاقة حقيقية بإله النجاة.
والآن أود أن أتوجه ببعض الأسئلة لإخوتي المؤمنين:
- هل أنت شاب مؤمن ليس له علاقة بشخصية كبيرة تتوسط له للحصول على عمل، به يدبر نفقات الحياة؟
- هل أنت أب تقي ينظر لأولاده متألمًا إذ يشعر بعجزه عن تلبية احتياجاتهم الحاضرة أو مهمومًا بمستقبلهم، في ظل نقص الإمكانيات مع زيادة ضغوط الحياة؟
- هل أنتِ أرملة مؤمنة تعولين أطفالاً وتشعرين بأنك مسحوقة بين مطرقة كثرة الطلبات وسندان ضعفك كامرأة، واحتياجك الشخصي لمن يحملك ويحتويك؟
- هل أنت أخ فقير ليس عندك مال ولا جاه تواجه به ظلم رئيس أو مدير، أو اغتصاب جار شرير، أو افتراء إنسان شرس أثيم، أو حتى غدر من قريب أو صديق؟
- هل أنتِ شابة مؤمنة لم يسمح لها الرب بقدر من الجمال، وتعاني من ظلم سطحية الفكر الذي يقيِّم الفتاة على قدر جمالها؟
- هل أنت أخ مريض ليس عنده من المال ما يكفيه للوصول إلى أفضل الأطباء، ولا أن يدخل أفضل المستشفيات، أو يشتري أغلى العلاجات؟
إني أود من قلبي أن يعرف هؤلاء جميعًا وغيرهم ممن يمكن أن يضعوا أنفسهم تحت هذا العنوان ”مساكين“، أنه توجد للمساكين نجاة، بل يوجد للمساكين إله ينجيهم هو بحق إله المساكين، هو إلهكم يحبكم ويهتم جدًا بكم، إن بؤسكم لم يختفِ أبدًا من أمام عينيه، وأنينكم دائمًا يصل إلى أذنيه. إنه يزن جيدًا معاناتكم وحرمانكم، وفي وقته سيسرع لنجدتكم، لكن....
اسمحوا لي أن أسألكم جميعًا سؤالاً واحدًا أراه هامًا للغاية: ما هو موقفكم من هذا الضيق الذي تجتازونه؟ وما هو رد فعلكم لهذا الحرمان الذي تعانونه؟
- هل ملأكم بالرثاء للنفس فصرتم منحنيين خائرين؟
- هل ملأكم بالضجر من الحياة فصرتم متذمرين ناقمين؟
- هل ملأكم بالمرارة تجاه إخوتكم المؤمنين فصرتم تتصيدون لهم الأخطاء وتدينونهم باستمرار؟
اسمحوا لي أن أكون صريحًا معكم فأقول: إن كان هذا حالكم فأنتم لستم بمساكين، على الرغم من كل ما تجتازون فيه! وبالتالي لن تنعموا بروعة إله المساكين.
اسمحوا لي أن أقول لكم:
- أن الرثاء للنفس هو حب لها أكثر من محبتنا لله، بل وإدانة لله الذي نراه قد ظلمها بهذا الحرمان، إنه غياب عن عرش النعمة والسكون في حضرة الله، إنه سكب النفس على النفس بدلاً من سكبها أمام الله.
- أما التذمر والضجر من الحياة فهو غياب كامل للإيمان الذي يرى الله بينه وبين الظروف، وحضور واضح لعدم الإيمان الذي يرى الظروف بينه وبين الله. إنه خلع لخوذة هي رجاء الخلاص، وتنحية لترس هو ترس الإيمان. إنه رفض سافر لمعاملات الله، بل وتمرد علني على سلطانه.
- أما الشكوى من المؤمنين والأنين عليهم فما هي إلا البديل الذي يلجأ إليه القلب الخداع للشكوى من الله والأنين عليه! فمَنْ يشتكي المؤمنين هو في الواقع يريد أن يشتكي الله الذي سمح له بهذا الحرمان! لكن لكونه لا يرى الله ولا يقدر عليه، فهو يسقط ما عنده من ألم ومرارة من ناحية الله على أولاد الله!! هذا بالطبع لكونه يراهم ولأنه يقدر عليهم!
- أما إذا أدت بك ضيقتك ومرارة نفسك إلى إدانة إخوتك المؤمنين وتصيد الأخطاء لهم، فهذه أخطر الكل إذ أن الإدانة في هذه الحالة ما هي في رأيي سوى البديل الديني للحقد والحسد! فالخاطئ يحسد ويحقد على مَنْ يمتلك شيئًا هو محروم منه، أما المؤمن فلكونه يعلم أن الحسد خطية، فيستبدله بإدانة من يمتلك ما لا يمتلكه هو!
ادخل إلى عرش النعمة، وابكِ هناك ما شئت، اترك نفسك تنسكب منك هناك، بل اسكبها أنت بجرأة ولآخر قطرة. اترك كلمة الله تغسلك، واجعل اعترافك بالخطية يطهرك. احنِ رأسك له، واقبل خاضعًا ضغطات يده الحكيمة فهو أشفق منك على نفسك
لذلك فإني أرجو من قلبي إن كان هذا حالك أن ترجع حالاً للرب بتوبة صادقة، ولا تترك نفسك هكذا، فتصبح فريسة سهلة للأسد الزائر الجائل الذي يبتغي ابتلاعك.
ادخل إلى عرش النعمة، وابكِ هناك ما شئت، اترك نفسك تنسكب منك هناك، بل اسكبها أنت بجرأة ولآخر قطرة. اترك كلمة الله تغسلك، واجعل اعترافك بالخطية يطهرك. احنِ رأسك له، واقبل خاضعًا ضغطات يده الحكيمة فهو أشفق منك على نفسك، بل ويعرف خيرك أكثر منك. ليكن عنقك لينًا، وتواضع تحت يده القوية حتى يرفعك في حينه. اسقط حملك عن كاهلك، وألق كل همك عليه، لأنه هو يعتني بك.
تذكر أننا دخلنا العالم بلا شيء، وسنخرج منه بلا شيء مادي، لكننا سنخرج منه بما عرفته واختبرته أرواحنا عن الله، وبما كنزناه من كنوز في السماء.
تذكر أن الروحيات أهم من الماديات، فإن اقتضى الحصول على الروحيات التضحية بالماديات، فليكن.
تذكر أن تشكيل الله لنا لنكون أدبيًا مشابهين المسيح، وعمليًا نافعين في خدمته، أفضل جدًا من أي راحة جسدية أو متعة حسية أو وفرة مادية.
تذكر دائمًا أن إله النجاة هو إله المساكين، وهو ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له. إنه يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء (مز72: 12و13).
(يُتبَع)