(1ملوك19: 10)
لم تكن حالة نفسية طيبة تلك التي رفع فيها إيليا شكواه المرة ضد بني إسرائيل قائلاً «قد غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبيائك بالسيف فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها» (ملوك 19 :10).
فأساسًا، يقدم لنا إيليا مثالاً متميزًا للشهادة الأمينة لله في اليوم الشرير. ففي وسط حالة الضلال العامة وقف بشجاعة في صف «يهوه»، ولم يهمه عدد من يساندونه في موقفه، سواء قليل أو كثير، ولا يشك أحد أن غيرته على اسم يهوه كانت غيرة صادقة، وأنه تمسك بها بكل قوته في وجه كل المقاومات. ولكن في الوقت الذي رفع فيه شكواه عند «حوريب» كان قد انشغل بشكل غير مقبول بنفسه وبشهادته، واعتبر نفسه المحارب الوحيد الذي انقلبت ضده كل الظروف. وفى ذلك الموقف وضع إيليا الله في مكان خطأ في رؤياه. فإيليا يبدو كأنه العامل العظيم الذي لا غنى عنه، وحياته في ذلك الوقت في خطر، فما هو مصير الشهادة إذًا؟ لقد كان يرى في فكره أن كل الشهادة الأمينة قد انتهت في إسرائيل، وأن الشيطان أصبح سيد الموقف.
كم هو مؤلم أن تركز قلوبنا المُتعبة على توكيد الذات، وأفضل خدام الله وأكثرهم أمانة ليسوا محصنين ضد هذا الفخ. صحيح أن الله يستطيع أن يحفظ الإنسان الوحيد، وأن يجعله قوة للشهادة في المشهد المظلم، كما في حالة إبراهيم «لأني دعوته وهو واحد وباركته وأكثرته» (إشعياء51: 2). وصحيح أيضًا أنه يستطيع أن يقوي الضعيف ليصنع منه ״داود״» (زكريا 12 :8)، ولكن لا يجوز أن يعتبر الشاهد نفسه أنه الوحيد الذي لا غنى عنه، وأن كارثة ستحل إذا اختفى من المشهد. والجماعات معرضة أن تقع في هذا الخطأ مثلها مثل الأفراد. فإذا سعت جماعة من المؤمنين، كبيرة أو صغيرة، إلى إعادة مبادئ الحق التي تناثرت، فإن غيرتهم وطاعتهم ستتحول بلا شك إلى شهادة أمينة، وسيستندون بلا شك على الله لكي يحفظهم ويباركهم. ولكن إذا تحول انشغالهم إلى أنفسهم كشهود،
وأعطوا شهادتهم للآخرين أهمية في عيونهم عن حالتهم الروحية، فإن الله يسحب مساندته لهم، ويسلمهم للفشل والعار. أليست هذه الحقيقة واضحة بشكل مؤلم للكثير منا؟
لقد أدى انشغال إيليا بنفسه إلى امتلائه بمشاعر قاسية تجاه شعب الله الضال حوله. «أم لستم تعلمون ماذا يقول الكتاب في إيليا، كيف يتوسل إلى الله ضد إسرائيل» (رومية 11 :2). «يتوسل.. ضد إسرائيل»! مادحًا نفسه ومسيئًا إلى شعب الله! هل يليق هذا بشاهد أمين لله؟ وهل بكلماته هذه يعكس مشاعر قلب الله وطول أناته على شعبه، وعدم رفضه لهم بالرغم من ضلالهم وخطاياهم؟ لقد تكلم ”موسى“ بطريقة مغايرة تمامًا، ولذلك من المشجع أن نستمع إلى توسله المؤثر إلى الله من أجل إسرائيل بعد عبادتهم للعجل الذهبي (خروج 32و33). ومع أنه كان يشعر بالجرم العظيم الذي ارتكبوه في حق «يهوه»، لكن لم تخرج من فمه في حضرة الله كلمة ردية عنهم. بل على العكس، أصر على تذكير «يهوه» أنهم شعبه بالرغم من جرمهم الشنيع، وأن مجد اسمه مرتبط ببركتهم. وكان مستعدًا أن يمحو الله اسمه من الكتاب الذي كتبه، بدلاً من أن يرفضهم.
فلننتبه إلى هذا المبدأ جيدًا، لأننا أحوج ما نكون إليه اليوم. إن انتفاخ الذات، وانشغالنا بأمانتنا نحن في الشهادة، يولد مشاعر خطيرة في قلوبنا تجاه شعب الله حولنا، وتجعلنا لا نصلح أن نتوسل إلى الله من أجلهم. وهل يدهشنا أيضًا، إذا أثمرت مشاعرنا غير اللائقة تعليقات الناس الساخرة «صحيح أنكم انتم شعب (الشعب)، ومعكم تموت الحكمة» (أيوب 2:12)
وفى حالة إيليا كان لشكواه نتائج مختلفة تمامًا عما كان يتوقع. فلنمر سريعًا على الدروس التي تعلمها من الريح العظيمة والزلزلة، والنار، والصوت المنخفض الخفيف (اللطيف)، ونتأمل قليلاً في الكلمات التي قالها يهوه له «فقال له الرب اذهب راجعًا في طريقك إلى برية دمشق، وادخل وامسح حزائيل ملكًا على آرام، وامسح ياهو بن نمشي ملكًا على إسرائيل، وامسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبيًا عوضًا عنك. فالذي ينجو من سيف حزائيل يقتله ياهو، والذي ينجو من سيف ياهو يقتله أليشع. وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف، كل الركب التي لم تجث للبعل، وكل فم لم يُقَبِّله» (1ملوك 19 :15-18).
هل كان إيليا يريد لشعب الله أن يَطهُر من خطاياه؟ كان عليه هو نفسه أن يمسح من سينفذون قضاء الله – وهو عمل مؤلم بالتأكيد لشخص أحب الناس فعلاً. هل كان يعتبر نفسه الشاهد الذي لا غنى عنه؟ إذا يجب أن يذهب ويمسح من سيخلفه – أليشع بن شافاط. هل اعتبر نفسه الشخص الأمين الوحيد الذي تبقى على الأرض؟ إذا يجب أن يعرف خطأه، ويسمع إعلان الله المُذهل أنه أبقى لنفسه سبعة آلاف قلب مخلص له بين شعب إسرائيل!
دروس خطيرة هذه، وما أسعدنا إذا تعلمناها بحق. فتعظيمنا لأهمية أنفسنا في الشهادة – يؤدي إلى الاستغناء عنا كشهود كلية، وأن يأخذ آخرون مكاننا. ألا نرى هذا يحدث للأسف؟ ألا نسمع البعض يقول نحن الشهود الأمناء، نحن كنيسة فيلادلفيا، كل ما عدانا تقريبًا هو في كنيسة لاودكية. والنتيجة المحزنة هي أننا عندما نبحث عن عمل روح الله الخاص، لا نجده في الذين يمدحون أنفسهم هكذا، بل بين الآخرين الذين لديهم معرفة أقل بكلمة الله كحروف. وهي نتيجة حتمية لسماحنا لأنفسنا للتعدي على مكانة الله في عقولنا وقلوبنا. من افتخر فليفتخر بالرب «لأنه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب» (2كورنثوس 10 :17و18).
وكم يُفرح القلب أنه حتى في أحلك الأوقات يحتفظ الله بسبعة آلاف قلب مخلص له. وحتى إذا لم يُظهروا بجرأة انفصالهم العلني عن الشر – كما كنا نتمنى – إلا أنه من المفرح لنا أن نعرف أنهم يئنون ويتألمون لخطايا عصرهم، ويسعون أن تظل محبتهم خالصة تجاه الله وتجاهنا «عندك أسماء قليلة في ساردس لم ينجسوا ثيابهم، فسيمشون معي في ثياب بيض لأنهم مستحقون» (رؤيا 3 :4).