«لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر» (أس14:4)
عزيزي المؤمن: هل أوصدت في وجهك كل الأبواب، حتى صرت لا تجد ملجأً للنجاة؟
هل ضاقت عليك كل الطرق، فلم تعد تجد لنفسك سبيلاً أو مسلكًا؟
هل أغلقت دونك كل النوافذ، حتى لم يبق لك شعاعٌ واحدٌ يحمل النور إليك؟
هل طال زمن صبرك وانتظارك، حتى خبا الرجاء عندك، وباد كل أمل لك في الخلاص؟
هل انهار كل البناء، فقبعت مكومًا تحت الركام، وامتلأت يقينًا بأنه لا نجاة؟
إن كنت واحدًا من هؤلاء، فيا ليت صوت صياحي يأتيك من خلف الأبواب الموصدة، من وراء النوافذ المغلقة! بل يا ليته يصلك حتى ولو كنت تحت الركام، يصلك صارخًا في أذنيك: ثق حبيبي وقم، توجد لك نجاة، إله النجاة لا يعدم مكان!
لقد أوصد الباب الأخير في وجه مردخاي، عندما استعفت أستير من الدخول إلى الملك لأجل نجاة شعبها، فأظلمت الدنيا في عينيه للحظات، قبل أن يبرق من جديد في قلبه شعاع الإيمان. وعندما أبرق نور الإيمان، على الفور حول عينيه إلى مصدر النور فرأى إله النجاة! فطفق ينطق بأسمى الكلمات.
ولقد سبق وتوقفنا عند رد مردخاي على أستير ورأينا فيه: إله النجاة الذي يشفي من ضعف الإيمان، ثم رأينا إله النجاة الذي عنده وحده الأمان. وهنا سنتوقف لنرى معًا ”إله النجاة الذي لا يعدم مكانًا منه يرسل النجاة لشعبه المحتاج“.
تأمل معي عزيزي القارئ هذه العبارة مرة أخرى:
«لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت، يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر».
إنها تأتي لذهني بسبعة أفكار يمكنني صياغتها كالأتي:
- الملجأ الأخير: لأنكِ (أي أستير)
- الوقت العصيب: في هذا الوقت
- الخذلان الكبير: إن سكت سكوتًا
- الإيمان العظيم: يكون
- الحل الشامل: الفرج والنجاة
- الأساس الراسخ لليهود: مواعيد الله
- الملجأ الآخر: من مكان آخر
ما أمر الخذلان، ولا سيما عندما يكون من الملجا الأخير! إنه كالعلقم في الحلق، وكالصفع على الخد، عندما يوصد في وجهي الباب الأخير الذي إليه لجأت، ومنه رجوت، وفيه وثقت، وعليه عقدت كل الآمال
الملجأ الأخير: لكل منا في حياته ملاجئ وحصون يلجأ إليها عند اللزوم، أقرباء، أصدقاء، المال، السلطان، إلخ؛ لكن يبقى أن هناك دائمًا ملجأ أخيرًا نحتفظ به للوقت العصيب. وقد كان الملجأ الأخير لمردخاي هو أستير. الوقت العصيب: ”في هذا الوقت“ تعني الكثير بالنسبة لمردخاي، فهو لم يأت عليه وقت مثل هذا الوقت، إنه الوقت العصيب، وعلى الرغم من أن كل منا تواجهه في الحياة أوقات صعبة كثيرة، لكن يبقى أن هناك حدث معين نظل طول العمر نشير إليه بالقول: ”هذا الوقت“. إنه وقت مختلف عن كل الأوقات. إنه الوقت الذي فيه تفاجئنا البلايا أو تهاجمنا الخطوب.
الخذلان الكبير: لكن آه، ما أمر الخذلان، ولا سيما عندما يكون من الملجا الأخير! إنه كالعلقم في الحلق، وكالصفع على الخد، عندما يوصد في وجهي الباب الأخير الذي إليه لجأت، ومنه رجوت، وفيه وثقت، وعليه عقدت كل الآمال.
الإيمان العظيم: لكن ما أروع الإيمان في وقت الخذلان وهو يقول: ”يكون“! يا لها من كلمة جبارة ولا سيما عندما تقال في الوقت العصيب! فكلمة يكون تتكلم عن كينونة قائمة لها وجود، وفي حالة مردخاي لا يوجد في الأفق أي أمل أمام العين الطبيعية، لكنه بالإيمان يرى ”الفرج والنجاة“ كينونة قائمة حية وحاضرة أمام عيني إيمانه، بينما هي في نظر الناس مجرد أضغاث أحلام!! هذا هو فعل الإيمان، إنه يجسد الرجاء، ويجعله واقعًا حيا منيرًا ماثلاً أمام العين. هو كما قال عنه الرسول: «الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى» (عب11: 1).
الحل الشامل: ماذا رأى مردخاي وبماذا آمن؟ لقد آمن بحل كامل وشامل: ”فرج ونجاة“. ولماذا قال الفرج والنجاة؟ لأننا في كثير من ضيقات الحياة نراها تنفرج، لكنها للأسف لا تكتمل بالنجاة، بل تترك لنا خلفها الإحباط ومزيدًا من الآلام. لكن إيمان مردخاي هنا لم يرها تنفرج فقط، بل رآها انفرجت واكتملت بالنجاة !
الأساس الراسخ: لكن على أي أساس يُبْنَى الإيمان؟ بأي صخرة تمسك المرساة؟ إنها صخرة مواعيد الله، لذلك يقولها مردخاي بكل ثقة يكون الفرج والنجاة ”لليهود“، فعندما يقول ”لليهود“ هو يُذَكّْر أستير بمواعيد الله لهذا الشعب، ذلك لأن واحدة من امتيازات اليهود الكثيرة هي ”لهم المواعيد“ (رو9: 4).
بعد أن يغلق الباب الأخير، دائمًا يرى الإيمان الباب الآخر! ذلك لأنه يرى إله المكان الآخر، إله النجاة الذي لا يعدم مكانًا منه
الباب الآخر: لكن من أين يكون الفرج والنجاة، وقد أغلق الباب الأخير؟ هنا روعة الإيمان، فهو دائمًا يرى الباب الآخر! وما أعظم الفارق بين الأخير والآخر! الأخير توحي باليأس، بينما الآخر تملأ النفس بالرجاء. فبعد أن يغلق الباب الأخير، دائمًا يرى الإيمان الباب الآخر! ذلك لأنه يرى إله المكان الآخر، إله النجاة الذي لا يعدم مكانًا منه يرسل النجاة.
المكان الآخر وكيفية النجاة
وأود هنا أن أتوقف عند هذا ”المكان الآخر“ الذي آمن مردخاي أن منه سيرسل الله لهم النجاة. فمردخاي هنا يرى أن الله سيتدخل لإنقاذهم مستخدمًا ”مكانًا آخر“، أي وسيلة معينة، وبالتالي فهو تدخل إلهي غير مباشر، لأنه من خلال وسيلة. وهذا الأمر يجذبنا لإعمال الفكر في كيفية إنقاذ الله لشعبه في شتى ضيقاتهم، كما نتعلم من كلمة الله.
ولا شك أن هناك مئات الطرق التي يستعملها الله لينجي بها شعبه الصارخ إليه، لكنني لاحظت أن هناك أسلوبين رئيسين تندرج تحتهما طرق الله للنجاة والإنقاذ، ويمكنني للإيجاز وصفهما بالقول:
”النجاة بالقدرة“، و ”النجاة بالسلطان“.
في الأولى يتدخل الله كمن هو كلي القدرة، بينما في الثانية يتدخل الله كمن هو كلي السلطان.
وبالطبع عندما يتدخل الله ككلي القدرة هو أيضًا يستعمل سلطانه، وعندما يتدخل الله ككلي السلطان هو أيضًا يستعمل قدرته، لكنني أتكلم عن الطابع العام لكل من الأسلوبين.
أولاً: النجاة بالقدرة:
وفيها يتدخل الله لينجي شعبه بصورة مباشرة بدون استعمال أي عناصر من الخليقة كوسيلة للنجاة،
في هذه الطريقة :
أ. قد يدعو الله الأشياء غير الموجودة لتصبح موجودة، وتتم النجاة. وهذا ما فعله، على سبيل المثال لا الحصر، مع سارة، فقد أرجع لها شبابها، وأطلق الهرمونات من جديد في جسدها، فعادت قادرة على الحمل والولادة من جديد بعد أن وصلت لسن التسعين! وهذا عينه ما فعله الرب يسوع أيضًا مع لعازر عندما أقامه من الأموات، فهو لم يستعمل فقط سلطانه الإلهي غير المحدود ليستدعي الروح والنفس من مكانها لتدخل الجسد من جديد وتطلق فيه الحياة، بل قبل ذلك هو بقدرته الإلهية أعاد خلق هذا الجسد من جديد لأنه كان قد أنتن.
ب. كذلك في هذه الطريقة قد يستحدث الله القدير قوى جديدة يرتقي بها فوق القوانين التي سبق هو ووضعها لتحكم الخليقة دون أن يكسرها أو يلغيها . هذا ما فعله على سبيل المثال عندما استجاب لصلاة يشوع وجعل الشمس تقف في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل! أو ما فعله الرب يسوع عندما جعل بطرس يمشي على الماء!
يمكنني توضيح هذا بمثال من الطيران، فمخترع الطائرة استطاع أن يستحدث قوى جديدة ترتقي بطائرته على قانون الجاذبية الأرضية فتحلق عاليًا في السماء دون إلغاء لقانون الجاذبية، أو حتى كسره.
هذه الطريقة تظهر الله كمن هو كلي القدرة، لكنها لا تخلو بالطبع من استعمال الله لسلطانه.
ثانيا : النجاة بالسلطان:
وفيها يتدخل الله لينجي شعبه مستخدمًا العناصر المختلفة الموجودة في الخليقة كوسائل للنجاة. فهو يستخدم الريح والماء، البشر والحيوانات، الملائكة الأبرار والملائكة الأشرار. يستخدم أي من هذه، أو كل هذه، باعتباره كلي السلطان وكلي الحكمة، ليجعلها تعمل مشيئته في إنقاذ شعبه.
فعلى سبيل المثال عندما أهلك الله العالم القديم، كان يقدر أن يهلكه بكلمة كما سبق وأوجده بكلمة، لكنه لم يفعل ذلك بل استعمل وسيلة طبيعية هي الماء، بعد أن أطلق العنان للطوفان، بسلطانه غير المحدود. وفي نفس الوقت حفظ نوحًا وعائلته، مستعملاً وسيلة طبيعية هي فلك النجاة والذي استهلك بناؤه سنوات كثيرة!
كذلك في القضاء على سدوم وعمورة، كان يمكن لله أن يستعمل قدرته غير المحدودة ويقول كلمة ليفني كل مدن الدائرة، لكنه لم يفعل بل استعمل وسيلة طبيعية هي الكبريت والنار. وفي نفس الوقت أنقذ لوطًا وبنتيه مستعملاً وسيلة طبيعية هي إرسال ملاكين ليخرجوهم من مكان الحريق، مع أنه كان بالطبع قادرًا كل القدرة على أن ينجيه من النار وهو في قلبها، كما فعل مع الرجال الئلاثة شدرخ وميشخ وعبد نغو.
(يُتبَع)