عمود يعقوب الثاني: عمود معرفة عدم أهلية الثقة في الجسد
«ثُمَّ قَامَ يَعْقُوبُ وَذَهَبَ إلَى أرْضِ بَنِي الْمَشْرِقِ ... ثُمَّ قَالَ لابَانُ لِيَعْقُوبَ: ألأنَّكَ أخي تَخْدِمُنِي مَجَّانا؟ أخْبِرْنِي مَا أجْرَتُكَ. وَكَانَ لِلابَانَ ابْنَتَانِ اسْمُ الْكُبْرَى لَيْئَةُ وَاسْمُ الصُّغْرَى رَاحِيلُ. وَكَانَتْ عَيْنَا لَيْئَةَ ضَعِيفَتَيْنِ وَأمَّا رَاحِيلُ فَكَانَتْ حَسَنَةَ الصُّورَةِ وَحَسَنَةَ الْمَنْظَرِ. وَأحَبَّ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ فَقَالَ: أخْدِمُكَ سَبْعَ سِنِينٍ بِرَاحِيلَ ابْنَتِكَ الصُّغْرَى». فَقَالَ لابَانُ: «إنْ أعْطِيَكَ إيَّاهَا أحْسَنُ مِنْ أنْ أعْطِيَهَا لِرَجُلٍ آخَرَ. أقِمْ عِنْدِي». فَخَدَمَ يَعْقُوبُ بِرَاحِيلَ سَبْعَ سِنِينٍ وَكَانَتْ فِي عَيْنَيْهِ كَأيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِ لَهَا ... وَنَظَرَ يَعْقُوبُ وَجْهَ لابَانَ وَإذَا هُوَ لَيْسَ مَعَهُ كَأمْسٍ وَأوَّلَ مِنْ أمْسِ. وَقَالَ الرَّبُّ لِيَعْقُوبَ: «ارْجِعْ إلَى أرْضِ آبَائِكَ وَإلَى عَشِيرَتِكَ فَأكُونَ مَعَكَ ... فَاغْتَاظَ يَعْقُوبُ وَخَاصَمَ لابَانَ ... الْآنَ لِي عِشْرُونَ سَنَةً فِي بَيْتِكَ. خَدَمْتُكَ أرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً بَابْنَتَيْكَ وَسِتَّ سِنِينٍ بِغَنَمِكَ. وَقَدْ غَيَّرْتَ أجْرَتِي عَشَرَ مَرَّاتٍ! لَوْلا أنَّ إلَهَ أبِي إلَهَ إبْرَاهِيمَ وَهَيْبَةَ إسْحَاقَ كَانَ مَعِي لَكُنْتَ الْانَ قَدْ صَرَفْتَنِي فَارِغا. قَدْ نَظَرَ اللهُ مَشَقَّتِي وَتَعَبَ يَدَيَّ فَوَبَّخَكَ الْبَارِحَةَ». فَأجَابَ لابَانُ: الْبَنَاتُ بَنَاتِي وَالْبَنُونَ بَنِيَّ وَالْغَنَمُ غَنَمِي وَكُلُّ مَا أنْتَ تَرَى فَهُوَ لِي. فَبَنَاتِي مَاذَا أصْنَعُ بِهِنَّ الْيَوْمَ أوْ بِأوْلادِهِنَّ الَّذِينَ وَلَدْنَ؟
فَالْانَ هَلُمَّ نَقْطَعْ عَهْدًا أنَا وَأنْتَ فَيَكُونُ شَاهِدًا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَأخَذَ يَعْقُوبُ حَجَرًا وَأوْقَفَهُ عَمُودا وَقَالَ يَعْقُوبُ لإخْوَتِهِ: الْتَقِطُوا حِجَارَةً». فَأخَذُوا حِجَارَةً وَعَمِلُوا رُجْمَةً وَأكَلُوا هُنَاكَ عَلَى الرُّجْمَةِ. وَدَعَاهَا لابَانُ «يَجَرْ سَهْدُوثَا» وَأمَّا يَعْقُوبُ فَدَعَاهَا «جَلْعِيدَ» وَقَالَ لابَانُ: هَذِهِ الرُّجْمَةُ هِيَ شَاهِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ. لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «جَلْعِيدَ» وَ«الْمِصْفَاةَ» لأنَّهُ قَالَ: لِيُرَاقِبِ الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِينَمَا نَتَوَارَى بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ. أنَّكَ لا تُذِلُّ بَنَاتِي وَلا تَأخُذُ نِسَاءً عَلَى بَنَاتِي. لَيْسَ انْسَانٌ مَعَنَا. انْظُرْ. اللهُ شَاهِدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَالَ لابَانُ لِيَعْقُوبَ: «هُوَذَا هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَهُوَذَا الْعَمُودُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. شَاهِدَةٌ هَذِهِ الرُّجْمَةُ وَشَاهِدٌ الْعَمُودُ أنِّي لا أتَجَاوَزُ هَذِهِ الرُّجْمَةَ إلَيْكَ وَأنَّكَ لا تَتَجَاوَزُ هَذِهِ الرُّجْمَةَ وَهَذَا الْعَمُودَ إلَيَّ لِلشَّرِّ. إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَالِهَةُ نَاحُورَ ألِهَةُ أبِيهِمَا يَقْضُونَ بَيْنَنَا. وَحَلَفَ يَعْقُوبُ بِهَيْبَةِ أبِيهِ اسْحَاقَ. وَذَبَحَ يَعْقُوبُ ذَبِيحَةً فِي الْجَبَلِ وَدَعَا اخْوَتَهُ لِيَأكُلُوا طَعَامًا. فَأكَلُوا طَعَاما وَبَاتُوا فِي الْجَبَلِ. ثُمَّ بَكَّرَ لابَانُ صَبَاحًا وَقَبَّلَ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ وَبَارَكَهُمْ وَمَضَى. وَرَجَعَ لابَانُ إلَى مَكَانِهِ» (تك٢٩: ١، ١٥-٢٠؛ ٣١: ٢، ٣؛ ٣٦: ٤١-٥٥).
العمود الأول في حياة يعقوب كان عمود الثقة في ذاته، وأُقيم بمناسبة وعده لله بأن يُعَشر له كل ما يعطيه الله إياه. وبطبيعة الحال ليس لدينا أي سجلًا بأن يعقوب تمَّم هذا، بالرغم من تأكيده على هذه النية. أما وعد الله – ويا له من فارق! - فكان مُطلقًا واضحًا وبسيطًا ومباشرًا تمامًا، ولم يرتبط بكلمة “إن”. كان يمكن ليعقوب أن يقول: “إن كان الله معي” (ولم يَفِ بوعده)، أما الله فحفظ وعده تمامًا بالطبع. ثم تأملنا كيف أن فكرة الثقة في الذات أو الجسد هي فكرة غير حكيمة على الإطلاق. إلا أنه من وقت إقامة هذا العمود في أصحاح ٢٨ وصولًا إلى العمود التالي استمر يعقوب على ذات المبادئ التي ميزته، وهي الثقة في الذات. بغض النظر عن المكابح التي اعترضته، إلا أنه ظل يحاول أن يساعد الله فيما كان الله سيُتمّمه له، معتقدًا أنه من الضروري مساعدة الله، ظنًا منه أن الله يمكن أن يستخدمه ليحصل على البركة التي يريدها. لكن كان عليه أن يتعلم أنه ليس أهلًا للثقة، وكان عليه مواجهة تلك الحقيقة. ومع ذلك كان تاريخه في أصحاح ٢٩ مميّزًا جدًا من نواحي كثيرة. لو لم يتصرف حسب بعض المبادئ التي نراها هنا لما أصابته كل هذه المشاكل.
في الأعداد ١-١٤ نرى صورة للبركة الآتية على كل الخليقة بدحرجة الحجر عن فم البئر لتتدفق المياه ويفيض روح الله، ويسكب الله روحه على كل جسد. وهكذا جاء يعقوب وسأل الرعاة إن كانوا يعرفون خاله فأشاروا إلى راحيل وهي آتية بغنم أبيها إلى البئر. ويبدو أن غنمها كان أقل عددًا من القطعان الأخرى. لذا يتبادر إلى أذهاننا هنا القول: «لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم سر أن يعطيكم الملكوت» (لو١٢: ٣٢).
هناك البعض ممَن سينالون بركة قبل وقت اجتماع كل الكون وهو ما نراه في الأعداد التالية. رأى يعقوب راحيل وعندما رآها تقدم ودحرج الحجر عن فم البئر وسقى غنم لابان خاله. لا بد أنه كان مفتولًا العضلات ليقوم بما كان يقوم به الرعاة مجتمعون. كان لزامًا عليهم أن يجتمع جميعًا ليتمكنوا من دحرجة الحجر سويًا، أما يعقوب فتقدم ودحرجه بمفرده لما رأى راحيل. إن المبدأ الذي يبرز هنا هو أن الحجر الذي هو الناموس كان يحجز البركة التي يحصل عليها الإنسان من الله، وهذا بالفعل وحده ما يحجز ما يريد الله أن يمنحه للإنسان. يعتقد الإنسان أنه يستحق طالما يحاول جاهدًا، لكن لا زال الحجر موضوعًا على فم البئر حائلًا دون خروج الماء. ويتكرر المشهد في الحجر الموضوع على قبر لعازر (يو١١: ٣٩، ٤٠)، وكذلك الحجر الذي يستخدمه يعقوب لنفسه كما نرى فيما بعد.
هنا يُنحى الناموس جانبًا، وأما في التدبير الذي نعيش أنت وأنا فيه فهناك بركة قبل وقت البركة التي لكل الكون حاضرة لنا الآن. وها نحن نرى القوة التي نالها يعقوب على مبدأ المحبة القوي. للمحبة قوة ليست لدى الناموس. بل للمحبة القوة على إبطال الناموس نهائيًا. فأعطت مشاعر يعقوب نحو راحيل إياه القوة التي استخدمها الله. آه لو تصرف يعقوب بالاتساق مع هذا المبدأ واتبعه، لما مر بكل تلك الصعاب التي واجهته. وينطبق هذا على كل ابن لله أيضًا، فلو تصرفنا دائمًا بالمبدأ الإلهي للمحبة الإلهية العاملة في قلوبنا لكنا بكل تأكيد قللنا عدد التجارب التي نواجهها، ووجدنا الحياة أبسط بكثير مما هي عليه الآن. في الواقع، يجب أن تكون المحبة الإلهية هي ما تميز كل ما يحدث للمؤمن. هذه حقيقة في المسيحية. «وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رو٥: ٥). إن المحبة تعمل بطرق كثيرة؛ فهي تغار لبركة وخير من لها، ودون ذلك تكون جسدية، أي ليست الحقيقية التي من الله. إن الله يسر بأن يرى بركة البشرية؛ وإذ تصرف يعقوب طبقًا لهذا المبدأ استطاع أن يحصل على قوة مميزة. وحينما أفتقر إلى القوة يعنى أنني بحاجة إلى قوة الله؛ وما هي؟ إنها محبة الله التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس؛ هناك تكمن القوة الحقيقية.
بمجرد أن ننزل عن هذا المستوى إلى مستوى الناموس، ونحتاج إلى أشياء معينة، ونعد بوعود معينة نفقد قوتنا. يا ليت الرب يوقظ نفوسنا حيال هذا الأمر!
(يتبع)