«مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ» (أم ١: ٧)
كلما نتعلَّم أكثر، كلما ننمو أكثر. وكلما ننمو أكثر، كلما نتعلَّم أكثر. ينطبق هذا على الحياة المسيحية، لأنه كلما نتعلَّم عن الله، وعن خططه لنا من كلمته، كلما نجلّه ونحترمه ونهابه. هذا الخوف التقويّ الصحي، له تأثير إيجابي عميق على حياتنا للصالح، وللوقاية ولحفظنا من السلوك الأحمق الذي يؤدي إلى المخاطر. إن عدم مخافة الله هي حماقة، ودليل على الجهل الذي يقود إلى العُجب وعدم الطاعة، وعدم الإيمان والفوضى.
الخوف كَنهج
عندما يديننا الروح القدس على خطية، نخاف غضب الله ونتحول إليه بالتوبة. وكلما ننمو روحيًا نتعلَّم أكثر عن هذا الخوف الصحي الذي يقنعنا أن نسير في طرقه. وهو نهج تعليمي. لقد أمر الرب موسى «اِجْمَعِ الشَّعْبَ ... لِيَسْمَعُوا وَيَتَعَلمُوا أَنْ يَتَّقُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ وَيَحْرَصُوا أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ» (تث ٣١: ١٢). لقد أوصى الله موسى أن يشرح أهمية ذلك للأجيال المتلاحقة. فجيل واحد يعيش في مخافة الله يكون له التأثير الفعال: «وَأَوْلادُهُمُ الذِينَ لمْ يَعْرِفُوا يَسْمَعُونَ وَيَتَعَلمُونَ أَنْ يَتَّقُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ كُل الأَيَّامِ التِي تَحْيُونَ فِيهَا عَلى الأَرْضِ التِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِليْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا» (ع ١٣).
وإذ نعلم أن الله محبة، ربما نتساءل: لماذا نخافه إذًا؟ من الطبيعي أن نناقش أمورًا صعبة. ويمكن لتعليم الشيوخ والمؤمنين الأكثر خبرة أن يكون ذا فائدة لإدراكنا. لهذا الغرض رسم الكاتب إلى العبرانيين مفارقة بين السماوي والجسدي، والروحي والطبيعي، فكتب: «ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدّاً لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لأَنَّ أُولَئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّامًا قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ» (عب ١٢: ٩، ١٠).
من خلال ضعف جسدنا ومكر الشيطان نحن عرضة لأن نضل أنفسنا. أن نخاف الله ونخضع لتأديبه هذه هي الحكمة. إن فعل ذلك هو أمر بلا شك في صالحنا، حتى ونحن لا نعي تمامًا ما هو هذا “الصالح” في نظر الله. الله وحده يعلم المستقبل والمخاطر المحيطة بنا.
خوف مع رعدة
إن كلمة “هيبة” كما استخدمها كاتب العبرانيين تُعبِر عن أحد مظاهر الخوف. وقاموس فاين لكلمات العهد الجديد يشرح أن الكلمة الأصلية لها معانٍ متنوعة في الإنجليزية، مثل كلمة إجلال، واحترام، وإكرام. في العهد القديم نجد أن كلمة هيبة تترجم أيضًا “خوف”، مع كلمات ذات صلة مثل “رعدة”، “رعب”. هذه الصلة صحيحة تمامًا.
ربما نأتي أمام الله وجهًا لوجه بطرق متعددة. من تجربتي في أيام شبابي أني تعرضت لخطر محدق يومًا ما بسبب حماقتي. فيما بعد، سألتني أخت تقية متقدمة في الأيام، كنت أصحبها إلى الاجتماع بسيارتي، إن كنت قد تعرضت للخطر في وقت ما. كانت صدمة شديدة لي أن أجد أن الله حرك هذه الأخت العزيزة الشيخة أن تصلى لي، أو لأي من قديسيه الغاليين عليه في أي وقت من النهار أو الليل. حقًا امتلأت خوفًا أن الله يراقبني هكذا عن كثب. هذا الاختبار لم يبرح فكرى لزمن طويل.
إننا نرى هذه الوجهة من الخوف تستعرض عندما رأى الرسول يوحنا رؤيته عن الرب المقام المزمع أن يدين كنائسه، وإسرائيل والعالم. فكتب يوحنا، على ما يبدو بخوف ورعدة: «فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ» (رؤ ١: ١٧). كذلك موسى، عندما ناداه الله من العليقة المتوقدة «فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ» (خر ٣: ٦).
يمكننا فهم بعضًا من مشاعر المشاركين في تلك الروايات التصويرية التي لشعب الله. هذه إحدى عجائب الكتاب المقدس: فهو مكتوب ليس فقط لنخوض ببساطة في الكلمات وحدها؛ لكننا نرى مشاعر أيضًا ونستشعر أحاسيس أولئك المصوَرين.
خوف الله والطاعة
عند تلك النقطة يمكننا أن نلاحظ كيف يمكن لمخافة الله أن تحفز الطاعة في أشد الظروف. كان إبراهيم “خَلِيلَ اللَّهِ” (يع ٢: ٢٣)، وبالرغم من ذلك أجازه الله في بعض التجارب والاختبارات الصعبة جدًا. وأحد الأمثلة لذلك عندما قال له الله أن يأخذ إسحاق، ابنه الوحيد، إلى جبل المريا ويقدمه هناك محرقة. وحينما أمسك ملاك الرب يده ووجهه إلى الكبش الممسك في الغابة، قال لإبراهيم: «الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ» (تك ٢٢: ١٢).
من تلك القصة؛ قصة إبراهيم وإسحاق نرى التأديب والامتحان الذي يجيزنا الله فيه، حتى نكبر ونصير مشابهين صورة ابنه، الرب يسوع. وكلما نكبر، نُعطَى مسؤوليات أكثر، ثم نُمتحن. فنستمر نعرف أن الحكمة الحقيقية هي أن نتبع تعليمات الله؛ أن نسير بالإيمان لا بالعيان (رو ١٠: ١٧). فنأتي إلى فهم أوضح لعظمة قوة الله، وعدله، وحكمه وبره البديع والمرعب.
عندما ينمو فهمنا نواجه تحديًا أن نضع ما تعلمناه في المحك العملي. بالطبع لا يمكننا أن نتعلَّم إلا إذا كنا نملك الاستعداد الذهني «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ» (يو ٧: ١٧). إن الحكمة الحقيقية توجد عندما نسلك بشجاعة، ونكون متحفزين لأن نصنع مشيئة الله من نحونا عمليًا. عادةً ما نفشل في ذلك، لكن الله رؤوف ويتحملنا بطول أناة، مانحًا إيانا التوبة ومزيد من الفرص لخدمته.
والسؤال هو: “ممن نخاف؛ من الله أم من العالم؟” بكل تأكيد «خَشْيَةُ الإِنْسَانِ تَضَعُ شَرَكًا» (أم ٢٩: ٢٥). لقد أعطانا إشعياء نصيحة صحيحة عندما كتب: «قَدِّسُوا رَبَّ الْجُنُودِ فَهُوَ خَوْفُكُمْ وَهُوَ رَهْبَتُكُمْ» (إش ٨: ١٣).
خوف الرب وخوف العالم
لقد تفكرنا في مخافة الرب في الحالة المسيحية أساسًا. لكن هناك مجالًا أوسع لنستنتج كيف يمكن أن يعمل هذا لفائدة العالم. أيضًا غياب مخافة الرب يعمل على ضرر العالم، وفي النهاية على هلاك نظام هذا العالم الذي يحكمه الشيطان.
العالم بأسره موضوع في الشرير (١يو ٥: ١٩)، من أجل ذلك، فإن سكان هذا العالم، ونظام العالم، يكرهون الله بدلاً من أن يخافوه. قال الرب يسوع لإخوته: «لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ» (يو ٧: ٧). هذا ما رآه إبراهيم بعد الحادثة المُشينة التي فيها أنكر أن سارة زوجته. لقد قدّم لنفسه عذرًا قائلًا: «إِنِّي قُلْتُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَوْفُ اللهِ الْبَتَّةَ فَيَقْتُلُونَنِي لأَجْلِ امْرَأَتِي» (تك ٢٠: ١١). يمكننا أن نرى من قصص الكتاب المقدس في زمن إبراهيم، أن الشرق الأوسط كان في حالة من الفوضى واللا قانون، ففيه مسجل لنا الحروب المتلاحقة بين الأمم، سواء في الكتاب أو في سجلات التاريخ البشري.
ربما نناقش بقناعة أن خوف الرب يُنتج مجتمعًا مستقرًا وبه سلام. أما فقدانه فيقود إلى الاضطراب والفوضى والجموح – بالأخص حالة العالم في الوقت الحاضر، مع التوقع الوحيد أن الأمور ستسوء. إن شخص الحكمة حذر: «مَخَافَةُ الرَّبِّ بُغْضُ الشَّرِّ»، ثم استطرد ليعلن: «بِي تَمْلِكُ الْمُلُوكُ وَتَقْضِي الْعُظَمَاءُ عَدْلاً» (أم ٨: ١٣، ١٥). هنا نرى أيضًا أن الحكمة مرتبطة بمخافة الرب.
وهكذا يتبين لنا أن مخافة الله يمكن أن تُصلح المجتمع، نرى نحميا وهو يوبخ العظماء وآخرين ممن أخذوا الربا من الشعب بل ويستغلونهم. حينما شكي الشعب من ظلم الأغنياء وذوي السلطة، سجل نحميا: «فَغَضِبْتُ جِدّاً حِينَ سَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ وَهَذَا الْكَلاَمَ. فَشَاوَرْتُ قَلْبِي فِيَّ وَبَكَّتُّ الْعُظَمَاءَ وَالْوُلاَةَ وَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَأْخُذُونَ الرِّبَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَخِيهِ. وَأَقَمْتُ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً عَظِيمَةً ... وَقُلْتُ: لَيْسَ حَسَنًا الأَمْرُ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. أَمَا تَسِيرُونَ بِخَوْفِ إِلَهِنَا ... وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ أَفْعَلْ هَكَذَا مِنْ أَجْلِ خَوْفِ اللَّهِ» (نح ٥: ٦-٩، ١٥).
واضح أن الاحتياج كان لحاكم قوي، ودعم شعبي للشرائع العادلة، مع تفعيل القانون بحزم. لا بد للجموح أن يترعرع، لكن حينما يُحفّز الناس لمخافة الرب، تتغير الأحوال. إن مخافة الرب هي تصحيح فَعَّال للفوضى ومنع ازدهار الشر، سواء في قلوبنا، أو اجتماعاتنا أو أمتنا.