خواطر في سفر هوشع
(7)
على الدرب الطويل، يُكرمنا القلب النبيل، ناسلاً لنا من شمائل الكلمة، ومُكتالاً لنا بلا تعيير. في مقالتنا هذه، ودَدتُ أن ننصرف إلى تأملات بسيطة، مُرجئًا المعاني النبوية، والتفصيلات الدراسية. فسنختار أربع آيات للتأمل، نتناول اثنتين منها في هذه المرة، ثم نستكمل حديثنا في المرة القادمة بمعونة الرب:
1- «لذلك هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها. فتتبع محبيها ولا تدركهم وتفتش عليهم ولا تجدهم. فتقول: أذهب وأرجع إلى رَجُلي الأول، لأنه حينئذٍ كان خيرُ لي من الآن» (هو2: 6، 7)
ولعل القارﺉ لهذهِ العبارات، يستلفت نظره أسلوبٌ يبدو غريبًا على أحاديث الرب الحبية: ”أُسيِّج طريقك بالشوك“، ”أبني حائطها“، ”تتبع ولا تدرك.... تفتش ولا تجد...“. ومن أين للسيد مثل هذهِ اللغة، مع أنه هو صاحب العبارات الفياضة بأنغام الرقة والطمأنينة، التي لا تُقدم للنفس السقيمة إلا حضنًا دافئًا، فيه القلب يهيم، متشددًا بأنغام الأبد بل مرتقٍ فوق كل واقع أليم؟
فلماذا الحائط ولماذا السياج من الشوك؟
أخي، إن حياتنا في إجمالها وفي تفصيلها، لا تشهد للسيد، إلا عن سياج المحبة والإحاطة بالعناية والقدرة الإلهية، أليس هذا ما يعلمه حتى الشيطان؟ ألم يقل للرب مرةً، مظهرًا ما في قلبِهِ من حقدٍ ذميم على تقيٍ وحائدٍ عن الشر: «أليس أنك سيَّجتَ حولَه وحولَ بيتِهِ، وحول كل ما له من كلِ ناحيةٍ...؟» (أي1: 10). ألم يأتنس سائح القفر، بل وشريد الخرائب، بهذهِ الإحاطة الحُبية؟ فنقرأ: «وجَدَهُ في أرض قفرٍ، وفي خلاءٍ مستوحش خَرِب. أحاط به، ولاحظه، وصانه كحدقة عينِهِ» (تث32: 10). ألم يُصلِّ الرسول المغبوط إلى إله ربنا يسوع المسيح، لكي تستنير عيون أذهاننا لنعلم المزيد عن «ما هى عظمة قدرتِهِ الفائقة نحونا نحن المؤمنين» (أف1: 19)؟ أي عظمة قدرة إلهنا الفائقة، التي تلف حياتنا، وتُحيط بنا بل وتسيِّج طريقنا. فما سياج الشوك هذا؟ وما هذا الحائط إذًا؟
ولعلك تتذكر أماكن أخرى في الكتاب المقدس، يُذكر فيها الحائط ولكن مع الفارق، أنه لا يُذكَر كمُعيق للوصول إلى الهدف بل بالعكس، أقصد بلوغِهِ. فعندما يُشَبَّه يوسف بأنه: «أغصان قد ارتفعت فوق حائط» (تك49: 22)، لا نجد أن الحائط، قد منع يوسف من الإقدام والنمو، بل كان هو الوسيلة المختارة من الله للارتقاء والسمو. أما عندما نقرأ عن الحوائط المُعيقة، فغالبًا ما نجد أن صانعها هو الإنسان، وليس الله. أليس هذا ما نجده في حديث البقية العائدة: «هوذا واقف وراء حائطنا» (نش2: 9). فهي التي بَنَت الحائط وليس هو. وأما في هذِهِ الآيات موضوع تأملِنا، فنجد أن الرب، هو الذي سيَّج طريقها بالشوك لكي يُعرقِلَ مسارها، ولكن أي مسارٍ يا تُرى؟ وهو الذي بنى حائطها حتى لا تجد مسالكها وتفشل رغائبُها؟ وأية رغائب يا تُرى؟ إنها رغائب السعي وراءَ سادةٍ سواه، بل جنوح القلب للتعلق بمن عداه.
صديقى هناك تكامل وانسجام شديد بين نعمة الله المانحة وحكمة الله المانعة، فهو دائمًا بالنعمة يمنح، ولكن أحيانًا بالحكمة يمنع، ونظرًا لغيرتِهِ الشديدة علينا، وتصميمه على الاحتفاظ بنا لحسابِهِ، عندما تميل قلوبنا للابتعاد عنه، تظل واحدة من وسائل رد نفوسِنا إليه، الحوائط وسياج الشوك لكي لا نصل إلى أهدافِنا غير الشرعية، فنتبع ولا ندرك... ونفتش ولا نجد، فتكون النتيجة أننا نعود فنقول، ولكن ماذا نقول؟ «أذهب وأرجع إلى رَجُلي الأوَّل، لأنه حينئذٍ كان خيرُ لي من الآن»
والنفسُ ليست تهدأُ ما لم إليك ترجعُ
2- «لكن هأنذا أتملقُها وأذهب بها إلى البرية وأُلاطفها وأُعطيها كرومها من هناك، ووادي عخور بابًا للرجاء. وهي تُغني كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر» (هو2: 15،14)
مع أن هذهِ الآيات لا تلحق بالآيات السابقة التي تأملناها مباشرةً، ولكننا بجمعها معًا، نجد تكاملاً دقيقًا، في معاملات الرب الحُبية التأديبية معنا، عندما نضل الطريق ونسترسِل في البعد. ففي الآيات السابقة، نراه يُسيج طريقنا بالشوك، ويبني الحوائط حتى لا نجد مسالكنا، فنقول: «أذهب وأرجِع إلى رجُلى الأول»، ولكن ما أن نُبدي بادرةً حقيقية للتوبةِ والرجوع إليهِ، فهو طيب القلب، وأول من تقع عيناهُ على «فِج التين وقُعال الكروم» (نش2: 13)، فما أن يلمَحَهُ، إلا وسريعًا ما يُحيي في القلب ألحانَ الحنين: « قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالي». أو أقول لك بأسلوب آخر، يعذب لنا:
وهو يُجيب المُرتجى | | ويُظهر كُلَ الرضا |
لا يذكُرُ شرَ الخطا | | ويصفح عما مضى |
وإذا رجعنا للقرينة، أقصد إلى الإصحاح الثاني من نبوة هوشع موضوع تأملنا، سنجد أنه بدءًا من العدد الخامس وحتى العدد الثالث عشر، يكثُرُ الوعيد بل وتكثُرُ المعاملات التأديبية، ولكن بدءًا من العدد الرابع عشر وحتى العدد الثالث والعشرين، أي إلى نهاية الإصحاح، تكثرُ الوعود بل والتعويضات الحُبية. ففي الجزء الأول نقرأ: «أُسيِّج طريقك بالشوك… أبني حائطها… أرجع وآخذ قمحي… أنزِعُ صوفي وكتاني… أكشِفُ عورتها… أبَطِّلُ كُلَ أفراحها… أُخرِّبُ كرمَها وتينها… وأجعلها وَعرًا… وأعاقبها… » وأما في الجزء الثاني فنقرأ:«أتملقها… أذهب بها إلى البرية… أُلاطفها… أُعطيها كرومها… أنزع أسماء البعليم من فمها… أقطع لهم عهدًا… أخطبك لنفسي… أستجيب… أزرعها لنفسي… وأرحمُ… وأقول للوعَمِّي: أنت شعبي،… » صديقي، إنه يُذِل، والوحي لا يُنكر علينا هذهِ الحقيقة، ولكن يعلِّمنا أن: «السيد لا يرفض إلى الأبد. فإنه ولو أحزَنَ يرحم حسب كثرة مراحِمهِ. لأنه لا يُذِلُّ من قلبِهِ، ولا يُحزنُ بني الإنسان» (مرا 3: 31-33). فالذُل عندَهُ وسيلةٌ وليس هدفًا. وأمام هذه الآيات الموفورة المعاني، سنقف أمام فكرتين بالتحديد:
أ) أذهبُ بها إلى البرية :
وهنا يفرض السؤال نفسُهُ: « وهل إن أراد العريس أن يتملَّق عروسَهُ أو يُغريها، وإن أراد مُلاطفتها، هل البرية هي الجو المُناسب لذلك، أم البساتين اليانعة حيثُ مناظر الطبيعة الخلاَّبة، التي تجعل خرير الوِد ينساب بين الطرفين؟». إن الإجابة واضحة من الآيات وضوح الشمس، إن البرية هي الأجواء المُختارة مِن قِبَل العريس. وكيف؟
عزيزي هل تظُن أن الظروف الصعبة، ووعورة الدرب هي التي أبعدتكَ عن السيد؟ هل يضع لك الشيطان مثل هذهِ المبررات فتُلقي بالمسؤولية على صروف الزمان وليس عليك؟ كلا... فهل تعلم لماذا سيصحُبها العريس إلى البرية؟ ليس إلا ليُذكِّرَها «بمحبتِها الأولى»، وبصفوة مشاعرها نحوَهُ. فلم تكُن البرية إلا مكانًٍا، فيه تأججت المحبة وتوطدت أواصر الارتباط بالسيد، فالشعور بالاحتياج من شأنِهِ أن يجعل القلب يبحث عنهُ بل يتلمَّسُهُ، إن كُنا نُخلِص لهُ ولأنفسنا. ألم يُرسل نبيَهُ ليُذكِّرَها؟ «قد ذكرتُ لكِ غيرة صِباكِ، محبة خِطبتِك، ذهابِك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة» (إر2: 2). فمن وِجهة النظر هذهِ، سيذهب السيد بها إلى البرية، ليجعلها تعيش صفوة محبتها له من جديد .
ب) وادي عخور بابٌ للرجاء:
إن كلمة عخور هي اسم عبري ومعناهُ ”إزعاج“ أو ”كدر“ وهو يُذكر في الكتاب في عِدة أماكن، لكن يا قارئي تذكَّر أن أشهر حادثة ارتبطت بهذا الموضع، هي حادثة خيانة عخان بن كرمي، المُزعِج الذي من سبط يهوذا، الذي أخفى شيئًا من مغانم أريحا عند فتحها، عاصيًا أمر الله، فرجَمَهُ الشعب بالحجارة هو وعائلته، وأحرقوهم بالنار، وكان هذا القضاء بحسب أمر الرب (يش 7).
ولكَ أن تتخيل يا قارئي، مدى التدهور النفسي، بل والتوتر العصبي الذي كابدَهُ الشعب في هذا الوادي، الذي بكل تأكيد، امتلأ بصراخ مَن انهالت الحجارة على أجسادِهِم، ساحِقةً إياهم، بل امتلأ أيضًا الوادي برائِحة لا حريق النفاية، بل أجساد البشر، وكُل هذا بالإضافة إلى الشعور بشر الهزيمة أمام عاي . لقد دُعيَ بحق وادي عخور أي وادي الكدر. ولكن، أيستلفتُ نظرَكَ وعدُ، لا وعيد، السيد؟
«وادي عخور بابٌ للرجاء»! أتجتذِبُكَ النعمة التي تُحوِّل اللعنة إلى بركة؟ إن في ذات المواضِع التي فشلت نفوُسُنا فيها فشلاً ذريعًا، بل التي فيها تجرَّعنا مرارة العلقم بسبب فشلنا المتكرر، تفتح لنا النعمة ”بابًا للرجاء“ على مِصراعيهِ.
فاهدِ نفسي يا يســوعُ | | تبقـــى دومًا قُربكَ |
وإذا ضلــت خُطــــاهـا | | عـــن مســارِ دربِكَ |
علمنها تُسرِعُ الخطـــوَ | | رجـــــوعًا نحـــوكَ |