)
إن الأحداث المُدوَّنة في الأصحاح الافتتاحي من سفر راعوث، رغم وقوعها في غابر الزمان، وفى ظروف مختلفة تمامًا عن ظروف الزمان الحاضر، إلا أنها غنية بالإرشاد والتحذير والتشجيع لكل المؤمنين في كل العصور.
هذه الأحداث مرتبطة بثلاث نساء، أولاهن نُعْمِي التي نرى فيها قصة قديسة قد انحدرت، لكن طرق الله المُنعمة تعاملت معها لكي ترد نفسها. وأما في عُرْفَة، فإننا نجد التحذير الجاد لمن يعترف الاعتراف الحسن بالتدين، لكنه في النهاية يعود أدراجه إلى العالم. وأخيرًا نتشجع في قصة رَاعُوث بمن ليس فقط يعترف الاعتراف الحسن، بل - بحسب اللغة المسيحية - يحمل كل السمات التي تصاحب الخلاص.
ولكي نفحص المدلول الكامل لقصص هؤلاء النساء الثلاث، لا بد أن نذكر طابع الأيام التي عشن فيها. ففي الأصحاح الأول من سفر راعوث، نتعلَّم أن تلك الأحداث جرت «فِي أَيَّامِ حُكْمِ الْقُضَاةِ» التي يتلخص طابعها في العدد الأخير من السفر السابق، حيث نقرأ «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ» (قض21: 25).
لقد أوصى موسى الشعب من جهة سلوكهم بعد أن يملكوا الأرض قائلاً: «لا تَعْمَلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا نَحْنُ عَامِلُونَ هُنَا اليَوْمَ أَيْ كُلُّ إِنْسَانٍ مَهْمَا صَلحَ فِي عَيْنَيْهِ» (تث12: 8) لكن بعد هذا التحذير بحوالي ثلاث مئة سنة نجد الشعب في الأرض، لكن - بحسب ما دونته الأصحاحات الختامية من سفر القضاة - في حالة أدبية منحطة، اتصفت بفساد وعنف تامين. وهذه الحالة المتدنية ترجع لسببين: أولهما أنهم طرحوا عنهم سلطان الله عليهم كملكهم، وثانيًا، ونتيجة لذلك «كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ»، فاستبعدوا سلطة الله من ناحية، وأصّروا على الاستقلال البشري من ناحية أخرى.
من الواضح جدًا أن كل الشقاء والتشويش الحادث في العالم اليوم، ينبع من هذين السببين، لأن استبعاد السلطان الإلهي، وتوكيد الإرادة الذاتية، يعملان على الدمار في العالم السياسي، والدائرة الاجتماعية، والحياة الأسرية. فالحكام والسادة والوالدون لا يخافون الله، والمرؤوسون والخدام والأولاد يتصرفون بموجب إرادتهم الذاتية المستقلة.
إلا أن العالم ليس هو اهتمامنا المباشر، لكن ما يجب أن نعلمه جيدًا هو الحقيقة المؤسفة، أن تلك المبادئ التي تجر العالم إلى الخراب، قد أتت بالفعل بالخراب إلى الكنيسة في مسؤوليتها. بل، وبالإضافة إلى ذلك، فعندما نقترب أكثر إلى دائرة بيت الله، حتى بين أولئك الذين سعوا لأن يسلكوا بالانفصال عن فساد المسيحية، ستجد كم من مرات اقتادتهم ذات الشرور إلى التيه والانقسام، إذ لم نكن صادقين نحو المسيح كرأس جسده. لقد أخفقنا في التمسك بالرأس، وبالتالي فعلنا ما حسن في أعيننا.
واللحظة التي نتوقف فيها أن نستقي كل مواردنا من المسيح، الرأس المُقام والمُمَّجَد لجسده الكنيسة، هي اللحظة التي نكف فيها عن العمل تحت توجيه الرب وقيادة الروح القدس، حيث نبدأ أن نفعل ما يحسن في أعيننا. قد لا نفعل أشياء خاطئة أدبيًا في نظر العالم، وربما نكون مُخلِصين ومجتهدين جدًّا في الأعمال الصالحة، ولكن لو كانت أنشطتنا تتجاهل مطالب الرب وتوجيه الرأس، فإننا ببساطة نعمل ما يحسن في أعيننا.
إن النتيجة الأولية للاستغناء عن سلطان الرب والتصرف بالاستقلال عنه، هو الإتيان بالجوع وسط شعب الله لذلك نقرأ «صَارَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ»، وهى نفس الأرض التي بحسب وعد الله لا بد أن تكون أرض شبع، تفيض لبنًا وعسلاً، لكنها أصبحت أرض جوع ولا تكفي لاحتياجات شعب الرب.
ويا للأسف فذات الشرور تجلب نتائج شبيهة في المسيحية. ألا نعترف أن هناك مجاعة وسط شعب الله لنفس الأسباب، حيث فشلنا في أن نُعطى المسيح مكانه كرأس الجسد؛ كمصدر كل الإمداد الروحي الذي «يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ» (أف4: 16). ولم يَعُد المسيحيون يتمسكون بالرأس، ولا يُعطون للرب مكان السلطان، لذلك يفعلون ما يحسن في أعينهم، ويُنشئون جماعات وطوائف لا تُحصى، حيث يجوع شعب الله لنقص الطعام الروحي. ومع أن بيت الله كان يجب أن يكون مكان الوفرة والشبع، فقد أصبح - تحت مسؤولية الناس - مكانًا للمجاعة.
ودائمًا وأبدًا يكون وقت الجوع هو وقت امتحان للمؤمن الفرد. فالمجاعة تمتحن إيماننا. فما أقل تكلفتنا لكي نُحسب بين شعب الله، عندما يزدهر كل شيء خارجيًا، أما حينما تظهر الشدائد، ويجب أن نواجه الصراعات، هنا تظهر الضعفات، وحينئذ توضع حقيقة إيماننا تحت الاختبار.
وهكذا فنحن أيضًا نهرب من امتحان المجاعة في يومنا هذا. إن الله في رحمته أنار الكثيرين في الأساس الصحيح للاجتماع معًا إلى اسم الرب، واجتُذِب الكثيرون بخدمة الكلمة، وقبلوا طريق الانفصال، ولكن عندما جاء وقت الامتحان، وصارت الأعداد قليلة، والضعف الخارجي أصبح ظاهرًا، وقلَّ مجال الخدمة، وأصبح المكان شديد الضيق، وازدادت مطاليب الاستقامة، والضعف فاحصًا جدًّا، والصراع شديدًا، فالكثيرون، تحت ضغط الظروف، تركوا مركزهم، وذهبوا إلى مكان آخر من اختيارهم، آملين أن يجدوا طريقًا للهروب من التجربة والراحة من الصراع.
تحت وطأة التجربة ينحرف البعض عن طريق الله الذي رسمه لشعبه، كما في حالة نُعْمِي؛ ويظهر زيف اعتراف البعض الآخر، كما حدث مع عُرْفَة؛ بينما تكون التجربة هي سبب إعلان البعض عن إخلاصهم وولائهم للرب، كما هو واضح من قصة رَاعُوث المباركة.
(يتبع)
هاميلتون سميث