«وَيَكُونُ لَكِ لإِرْجَاعِ نَفْسٍ وَإِعَالَةِ شَيْبَتِكِ. لأَنَّ كَنَّتَكِ الَّتِي أَحَبَّتْكِ قَدْ وَلَدَتْهُ، وَهِيَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ سَبْعَةِ بَنِينَ» (را ٤: ١٥).
يا نفسي العليلة، لقد طالَ كلَلُكِ، وسُقمٌ اعتراكِ، فلقد رُشَّ الشيبُ على أفرايمَ وفي تغيُّبِهِ لم يعرِف وأما أنتِ فتعلمين! يا رأسي الكليلة، لقد طمَتْ أسقامُكِ، واعتلالٌ اعتلاكِ، فلقد حُلِقَتْ سبعُ خُصَلِ رأسِ شمشونَ ولم يكن يعلم، وأما أنتِ فلستِ مِن الغافلين!
وأفراحُ بيتِ لحمٍ تدُقُّ، وتعلو أنغامُ الحصَّادين، ولكن أين أوتارُ قلبِكِ ليعزِفَ؟ ارتَخَتْ وانقطعَ آخِرُها مع أصواتِ كَنَّتيكِ والباكين؟ وها حقلُ بوعز بِكلِّ يانِع أثمارِه وإيفةُ الشعير مِلءُ كفِّ الفتاةِ، ولكن أين وسيعُ جُعبتكِ، أضاقت ولم يغدُ حنككِ مِن المتذوقين؟ وها بيدرُ بوعز وها ليلةُ الوعودِ، وعلى ذيلِ صفحاتِها، توقيعُ الشريفِ. وستةٌ مِن الشعير، عربونُ الأفراحِ، والرَّجُلُ لا يهدأ، فأجيبي يا نفسي لماذا لا تمتلئين؟
فأجابت نفسي: عراقةُ الوطنِ، ومستعذَبُ اللحنِ وقوتُ البدنِ والوعدُ بواحدٍ مِن الفاكِّين، رخيمٌ، ثمينٌ، ولكن عذبٌ لي وللحصَّادين. ولكن أين ملءُ الفؤاد؟ فمن ذا الذي يجعلُني أنا مِن الحاضنين؟
فمَن ذا الذي يُرجِعُ نفسي ويعول شيبتي، فمن لي بابنٍ وليٍّ؟ فكنَّتي التي أحبتني أحبُها، ولكن أتفعلُ بمفردها ما يفعلَهُ سبعةُ بنين؟ تمهَّلي يا نفسي، فللعظيمِ انتظرتِ، وإن كنتِ تحسبين بوعزَ وليًّا ثانٍ، وهو بالحق كذلك، ولكنني أُبشِّرُكِ أنه أيضًا آخِرٌ، والخمرُ آخِرًا أجوَدُ بما لا يُقاسُ مِن الدُّونِ لمذاقِ الذوَّاقين! وأقولُ مع أنه حُسِبَ ثانٍ، بعد الوليِّ الأول برجالِه العشرةِ، ولكن أيضًا آخِرٌ كما هتفَ له وبهِ واحدٌ مِن المبتلين: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ (أخيرًا) عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ» (أي ١٩: ٢٥).
أتكُن هذه هي المفاجأةُ الكُبرى أن يدخُلَ بوعزُ على راعوثَ، فتُرزَقُ منه واحدٌ من أمثالِ كثيرين؟ أو تدعوه الجاراتُ عوبيد، فيُكتبُ هكذا في سجلِ المولودين؟ كلاَّ ... ولكن سِجلّ السماءِ يفاجئنا بالعُجابِ. فها ذراعُ مَن أودعت محلونَ وكليونَ يومًا، بواطِنَ أرض الموآبيين، تعود فتتشددُ، وقد أنهضتها آمالٌ تألقت بعد أن خابت، ونفسًا تجددت بعد أن شاخت، فالمولود هو عوبيد وهو أبو يسى أبي داود. وكأنَّ النفس التي شاخت فعجزت أن تُمسِكَ بكلِّ الهبات، والعين التي ذابت، فلم تُذِهب عنها تقرُّحَها وميضُ، بل وبريقُ البركات، حضر لمشهدها توًا مَن هو أثمنُ مِن كل البركات، معلنًا عن نفسِهِ لاهوتًا وناسوتًا وملكوتًا بمجموع الإعلاناتِ: «أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي لأَشْهَدَ لَكُمْ بِهذِهِ الأُمُورِ عَنِ الْكَنَائِسِ. أَنَا أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ. كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ» (رؤ٢٢: ١٦)! أنحن في خاتمةِ سفرِ راعوث أم في خاتمةِ سفر الرؤيا وزُبدِ الإعلاناتِ؟ فهل تقبعين يا نفسي في أحزانِكِ أم تُرجَعينَ؟ فهذا ما اقترفتيه طويلاً، ولكن هذه سماءُ المعجزات!