«كيف يتبرر الإنسان عند الله ؟» (أيوب 2:9)
أكبر أصدقاء أيوب سنًا هو الذي أجاب على سؤاله الأول. وكان ”إليفاز“ رجلاً حكيمًا لبقًا تقيًا، وخطابه الأول ربما هو أفضل خطابات الأصدقاء (ولم تكن خطابات الأصحاب جميعًا تعادل خطاب أيوب في الصياغة ولا المحتوى، هذا باستثناء خطاب أليهو، وكذا خطاب يهوه نفسه). وفي خطابه حاول ”أليفاز“ بكل طاقته أن يبين لأيوب أن كل واحد يحصد ما يزرع «كما قد رأيت أن الحارثين إثمًا والزارعين شقاوةً، يحصدونها» (أي4: 8). وكل ما قاله صحيح من حيث المبدأ، ولكن لا ينطبق على حالة أيوب. ومع أنه صحيح في حد ذاته، فإنه خطأ في توابعه، لأن الله – لحكمة عنده - كثيرًا ما جعل الشرير يعيش في بحبوبة، بينما يحرم خائف الله من ضروريات الحياة. لقد استخلص ”أليفاز“ وصديقاه نتائج خاطئه، كما يحدث كثيرًا في أيامنا هذه. حسب رأيه، أن نكبات أيوب برهنت على أن تقواه السابقة كانت مجرد رياء كاذب. ويصف بأسلوب بليغ حلمًا رأى فيه روحًا، لكي يبين لأيوب أن مصدر آلامه هو حماقته. وكان أيوب يتوقع - وهو على حق في ذلك - فهمًا أكبر وتعاطفًا أعمق مع آلامه. ويقول: «حق المحزون (سند الخائر) معروف من صاحبه». ويعود فيقول: «ارجعوا، لا يكونن ظلم (لا تظلموني) ارجعوا أيضًا. فيه حقي (أي ستجدون أن الحق معي)» (أي6: 14، 29). وهو لا يستطيع أن يعترف أنه يستحق هذه المحاكمة.
وكلمات أصدقائه أقسى عليه من بلايا جسده المتألم. فموت أبنائه وضياع ممتلكاته كانت ضربات رهيبة، والمرض الذي أصابه الشيطان به كان امتحانًا رهيبًا، ولكن صمت أصدقائه وكلامهم كانا كلاهما كسهام سامة بلا عدد اخترقت روحه. وفي هؤلاء الرجال الثلاثة وجد الشيطان أداة مناسبة، دون أن يدركوا ذلك. وبدلاً من أن يقدموا تعزية حقيقية لأيوب، دفعوه إلى اليأس. وبدلاً من أن يذكِّروه أن صلاح الله باق إلى الأبد، وأن منطق طرقه وإن كانت خافية لفترة، سيظهر مجدها في النهاية، اتهموا ذلك الرجل المسكين في قلوبهم أولاً ثم علنًا، بأشنع الجرائم، هذا ببساطة لأنهم لم يستطيعوا أن يفسروا آلامه بطريقة أخرى. من إذًا يندهش أن أيوب ملأه الغيظ وتمنى أن يسحقه الله ؟ (أي6: 9). لقد كانت نظرته أعمق من نظرة أصدقائه، واستطاع أن يميز تعاملات الله بشكل أوضح منهم. ولذلك تلقوا من الله توبيخًا في النهاية أقسى من التوبيخ الذي وُجِّه لأيوب . لقد كان خطأه في أنه سلَّم بأن الله هو الذي يعذبه، وفي جرأته أن يدعو الله أن يجاوبه. إلا أننا نجد في كلماته المُرة ومضات من النور تضيء كشعاع رجاء في حلكة الليل، تجعله يرى من بعيد خلاص الله من كل متاعبه. وهكذا ينهي خطابه الحزين بأن يتقدم بطلبته إلى الله نفسه، وليس لأصدقائه، ويعترف فعلاً بحاجته لغفران تعدياته، وصفحًا عن آثامه (أي7: 20-21).
ليس هناك أخطر من تطبيق الحق بطريقة خاطئة. ويمكن أن يتسبب شخص في ضرر بالغ باستخدام كلمة الله في غير موضعها الصحيح. وهذه إحدى طرق الشيطان, ولا يقينا منها إلا العشرة المتصلة والشركة المستمرة مع الله
أما السؤال الثاني فيجيب عليه ”بلدد الشوحي“. وقد ركز على شخص أيوب أكثر من أليفاز، ويسمي كلمات أيوب ”ريحًا شديدة“ (أي 2:8).
ويعلن في الوقت نفسه أن أيوب وأبناءه نالوا جزاءً عادلاً عن أفعالهم. وقصة أصدقاء أيوب يجب أن تكون تحذيرًا لنا. فليس هناك أخطر من تطبيق الحق بطريقة خاطئة. ويمكن أن يتسبب شخص في ضرر بالغ باستخدام كلمة الله في غير موضعها الصحيح. وهذه إحدى طرق الشيطان
, ولا يقينا منها إلا العشرة المتصلة والشركة المستمرة مع الله. كم هو مهم إذًا التحريض: كن ”مبطئًا في التكلم“، خاصة في الأمور الروحية. فالإستنتاجات المتسرعة، والأحكام غير المتأنية، تلزمنا بتوبة مريرة، بقدر ما خجل أصحاب أيوب بالتأكيد عن أخطائهم بعد فوات الأوان. وفي نهاية خطابه يشير ”بلدد الشوحي“ إلى أن الله لا يتخلى عن الإنسان الكامل، بل يملأ فمه بالضحك وشفتيه بالهتاف (أي8: 21)، ولم يكن يدرك عندئذ أن هذا سيتم حرفيًا مع أيوب.
وخطاب ”بلدد الشوحي“ لغته شعرية ومليئة بالصور البلاغية، كباقي الخُطَب، ولكنه لم يأتِ بجديد، ولم تؤدي كلماته إلى فهم أفضل للسؤال الذي أتعب أيوب. ولذلك يبدأ أيوب خطابه الثالث بالقول: «صحيح قد علمت إنه كذا، فكيف يتبرر الإنسان عند الله ؟» (أي9: 2). والكلمات عن الله التي تليها هي كلمات بصيرة، تليق بالمخلوق تجاه الخالق. ويبين سؤال أيوب أن كلمات ”بلدد الشوحي“ لا قيمة لها، ولا راحة لأيوب فيها. ومن الناحية الأخلاقية (الأدبية) هو السؤال الحيوي للإنسان حال وجوده على الأرض منذ السقوط. ويتوقف على الإجابة عليه السلام القلبي للإنسان. وهنا يكمن سر وصول الضمير للراحة. وقد سعى مؤمنو العهد القديم منذ آدم فصاعدًا لحل هذه المشكلة. ولكن قبل الطوفان وبعده، قبل الناموس وبعده، احتارت كل نفس مخلصة بشأن هذا السؤال. ما معنى عبارة: ”يتبرر عند الله“؟ أولاً، يجب أن نتذكر أنه في مفردات الله ليس هناك كلمات ليس لها معنى محدد. وليس مسموح هنا بأية مقارنة أو نقصان في الصفات. وما هو صالح في عينيه لا يتطلب أي تحسين، وأن قبول الإنسان أمام الله يتضمن أن يكون بارًا في فكره وكلامه وتصرفاته؛ وأن يكون في حالة تليق بالله كلي القداسة. وهو وحده الذي يضع مستوى القياس.
فكر قليلاً في هذا أيها القارئ العزيز، وستوافقني أن هذا ما يجب أن يكون. وكل من فهم هذا، لا يحتاج أن نقول له: «ليس بار، ليس ولا واحد». وكل من لا يريد أن يخدع نفسه، لا بد أن يعترف أن أفكار قلبه كثيرًا ما تكون نجسة وظالمه وشريرة. وباختصار، أنه في داخله، (والسؤال هنا يتعلق بهذا) لا يمكن أن يكون بارًا أمام الله.
والآن ربما يقول قائل: مع أن هذه هي حالة الإنسان، إلا أنه لا يتبع هذا حتمًا أن يظل الإنسان هكذا. فما ليس موجودًا الآن يمكن أن يتحقق بعد فترة. أ لم يعمل مؤسسو الأديان ومعلموها، منذ القديم فصاعدًا، على تحسين أخلاقيات البشر؟ هل نقول إنه ليس هناك أي تقدم ملموس في تطوير نفوس البشر؟ أ لم يعلمنا المفكرون والشعراء في جميع العصور أننا يجب أن نشحذ كل قدراتنا من أجل الأفضل؟ أم ليس هناك علاج، وليس هناك أمل في الشفاء؟ هل ليس لدى الإنسان قوه أو موهبة أو اختراع ليقاوم عدم البر، وهو أشر الخطايا، ويخلص العالم منه؟
كل هذه الأسئلة يمكن أن نجيب عليها بإجابة واحدة حاسمة هي ”لا“، «هل يغيِّر الكوشي جلده، أو النمر رقطه؟»؛ «من (يستطيع أن) يخرج الطاهر من النجس؟ لا أحد». هل يستطيع العبد الذي يقضي كل وقته في عمل شاق لسيد قاسي أن يفدي نفسه؟ هل يستطيع إنسان أن يُفلت من قيود الخطية؟ هل يسمح له الشيطان أن يتحرر؟ هل يستطيع إنسان أن يمكر على إبليس؟ وهل يستطيع بعد أن وقع في أسره أن يحاربه ويتغلب عليه؟ هل يمكن أن يسمح الحراس للأعداء الأسرى أن يهربوا؟ وهل ترك ذاك الذي وُصف أنه «كان قتالاً للناس من البدء» أية أسلحة لضحاياه ليحاربوه بها ويحرروا أنفسهم؟ كل هذه الأسئلة الإجابة الوحيدة عليها هي ”لا“. ليس هناك أي رجاء للخلاص للإنسان الساقط. فمهما بذل من جهد، ومهما بلغ علمه، لا يستطيع أن يتبرر أمام الله. فليس هناك علاج له من الداخل، وليس هناك أمل في الإصلاح من جانب الإنسان، سواء بالنسبة للفرد، أو بالنسبة للجنس البشري ككل.
الحديث عن التقدم نحو الصلاح، ونحو الفضيلة والقداسة، هو مجرد وهم وخداع وكذب من الشيطان فهو كذاب منذ البدء
والحديث عن التقدم نحو الصلاح، ونحو الفضيلة والقداسة، هو مجرد وهم وخداع وكذب من الشيطان، فهو كذاب منذ البدء. ماذا إذن؟ هل سقوط الإنسان حالة ميئوس منها تمامًا؟ أ لا يوجد أحد قادر ومستعد في الوقت نفسه على فداء عبيد الشيطان؟ أ لا يوجد بطل قوي في العالم كله يستطيع أن يخلص الغنيمة من يد المغتصب؟ أ ليس هناك من
طبيب يستطيع أن يشفي الجرح المميت للجنس البشري؟ تبارك اسم إلهنا، فلقد تلقي أيوب فعلاً إجابات مرضية على هذه الأسئلة، مع أنها ليست واضحة أو مفصله كما نجدها في العهد الجديد.
فأولاً، يقوده روح الله لينطق بالكلمات: «أما أنا فقد علمت أن وليّي ( فاديًّ ) حي»، ويتكلم معه ”أليهو“ بعد ذلك عن ”مرسل وسيط واحد من ألف“ (أي19: 25؛ 33: 24) وبذلك يستطيع الله أن يتراءف عليه، ويقول للوسيط: «اطلقه عن الهبوط إلى الحفرة، قد وجدت فدية».
ونحن لا نعرف إلى أي مدى فهم مؤمنو العهد القديم هذه الكلمات، لأن كلمة الله تقول إنهم كانوا يخدمون بهذه الأمور، ليس لأنفسهم بل لنا، وأننا نحن اُخبرنا بها الآن (قارن أيوب33: 23مع 1بطرس1: 12). ولكن بلا شك سمع أيوب بالروح الكلمات: ”وجدت فدية“، عندما ألقى نفسه في خجل وندم وتوبة عند قدمي ديانه. وهذه هي الطريقة الوحيدة للتبرر أمام الله. ويبين لنا الإصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين بوضوح أن جميع قديسي العهد القديم تبرروا بالإيمان فقط، وبذلك استطاعوا أن يرضوا الله. إلا أنه، ماذا كان أساس إيمانهم؟ لأن الإيمان لا بد أن يكون له شخص نثق به، أسس نستند عليها، وغرض ننظر إليه . أ ليس هو نسل المرأة، الذي سحق رأس الحية، وسحقت الحية عقبه (تك3: 15)، لكي يبطل الموت، وينير الحياة والخلود بواسطة الإنجيل؟ نعم، لم يكن أساس إيمان أيوب غير ذاك الذي هو أساس إيماننا، مع أنه لم يكن ممكنًا حينئذ إخباره أن الله «بار ويبرر من هو من الإيمان بيسوع» (انظر روميه3: 26).
ولم تعد هناك حاجة اليوم للقول إن الإنسان الذي تبرر بالإيمان يجب أن يسلك بالبر، فإن هذا في الحقيقة جزء آخر من الحق تم توضيحه في رومية6: 1 وفي أماكن أخرى من العهد الجديد. ولكن قبل أن ننتقل إلى السؤال الثالث والأخير من أسئلة أيوب ، أناشد القارئ الذي لم يجد بعد إجابة كافية على السؤال «كيف يتبرر الإنسان عند الله؟» أن يبحث، في روح الصلاة، عن إجابة هذا السؤال في كلمة الله، وأن يفعل ذلك دون تأجيل أو تأخير.
(يُتبَع)