انقضوا هذا الهيكل!
«فَسَأَلَهُ الْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟». أَجَابَ يَسُوعُ: «انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ الْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟». وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ. (يو2: 18-22).
الإشارة الثانية إلى موت المسيح
في الأعداد السابقة نجد الإشارة الثانية إلى موت المسيح بحسب إنجيل يوحنا. كانت الإشارة الأولى في الأصحاح الأول بفم المعمدان، عندما قال عن المسيح إنه «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (1: 29)، والآن في الأصحاح الثاني، عندما كان الرب يسوع في أورشليم في عيد الفصح، نطق بهذا الإعلان العظيم عن موته وقيامته.
وعيد الفصح هذا الذي نطق فيه المسيح بهذه الأقوال كان هو أول عيد فصح يحضره الرب في أورشليم بعد خروجه للخدمة. وكلماته التي قالها كانت ستتم في آخر عيد فصح سيحضره في أورشليم.
وأما خلفية النطق بهذا الإعلان العظيم فكان مشهد تدنيس هيكل الله. فإن جشع حنَّان وقيافا حوَّل بيت الله إلى بيت تجارة. وبالنظر إلى غيرة المسيح على بيت الله، فإنه صنع سوطًا، وطرد من الهيكل الباعة والصيارفة، لكن هذا لم يعجب اليهود الأشرار، وهنا جاءت إشارة المسيح إلى موته وقيامته.
والمسيح أمام فشل اليهود وتنجيسهم لهيكل الله، فإنه أشار إلى هيكل آخر، لا يمكن أن يقرب إليه الدنس، وليس ذلك فقط بل به كان المسيح سيصنع التطهير والكفارة للخطايا. لقد تحدث عن الهيكل الحقيقي لا الرمزي، الهيكل الحقيقي الذي كان الله فيه بالفعل لا بالرمز. فإن ”الله كان في المسيح“ (2كو5: 19)، أما ما كانوا يفتخرون به، فقد أسماه الرب بعد ذلك ”بيتكم“، أي بيت اليهود، وأعلن خرابه القريب (مت23: 38). تمامًا كما ذكر يوحنا عن الفصح، إنه عيد اليهود.
غيرة بيتك أكلتني
عندما طرد المسيح الغنم والبقر، وعندما كب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة، يذكر البشير أن تلاميذه تذكروا أنه مكتوب «غيرة بيتك أكلتني» (يو2: 14-17). ولقد سبق في تاريخهم الماضي أن أتى أشخاص أتقياء غاروا غيرة الرب، نتذكر منهم إيليا النبي البطل، الذي غار غيرة للرب إله الجنود (1مل19: 10)، ولكنه بالأسف أمام تهديد إيزابل الشريرة له بالقتل فقد مضى لأجل نفسه، وفي جبل الله حوريب توسل ضد الشعب، مثيرًا سخط الرب ضد إسرائيل (1مل19: 3و 14). وقبله أتى فينحاس بن ألعازار بن هارون، وقيل عنه أيضًا إنه غار غيرة الرب (عد25: 11)، وهذا لم يهرب، بل لقد تقدم بالرمح في يده وشرعه في جنب الخطاة الأشرار، ولم يحاول أن يثير سخط الرب على الشعب، بل على العكس فإنه رد سخط الرب عليهم، وكفَّر عن بني إسرائيل. لكن هنا نجد شخصًا أعظم من الكل بما لا يُقاس، لم يهرب من الموت خوفًا من بطش الأشرار، ولا شرع الرمح في جنب الأشرار، بل كان عتيدًا أن يواجه الأشرار الذين سيحاولون قتله، وقَبِلَ أن يُطعَن وهو البار بالحربة في جنبه. نعم قَبِل هو - تبارك اسمه - أن يموت ليفدي الأشرار، وقَبِل ذلك ليرد اعتبارات مجد الله، فواضح أن دم المسيح البار، لا دماء الخطاة الفجار، هو الذي يمكنه أن يكفِّر عن خطايا الشعب.
إذًا فلقد كان المسيح مزمعًا أن يفعل أكثر جدًا مما صنع. ليس فقط أنه يطرد خارجًا الأشرار الذين دنسوا بيت الله ، بل أن يخرج هو نفسه ليتألم خارج الباب (عب13: 12)؛ وليس أن يَطعن بحربة الأشرار، كما فعل فينحاس بن أليعازار، بل هو الذي كان سيُطعن بالحربة وهو القدوس البار (يو19: 34). وبالدم والماء اللذين خرجا من جنبه، صنع تطهيرًا للخطايا وكفارة لها (عب1: 3؛ 2: 17).
ديانة مجرد المظهر لا الجوهر
كما ذكرنا، فقد تم إعلان المسيح الأول عن موته في أول عيد فصح يحضره بعد خروجه للخدمة، وكان تنفيذ ذلك سيتم في آخر عيد فصح له في أورشليم. فنحن نعلم أن المسيح مات – كما يخبرنا البشيرون - يوم الفصح ذاته.
وهناك إشارة لافتة بصدد صليب المسيح انفرد بها يوحنا البشير، فهو يخبرنا أن اليهود لم يدخلوا إلى دار الولاية خوفًا من أن يتنجسوا (18: 28)، لأن الفصح المشوي كان جاهزًا في البيوت ليأكلوه. والمشابهة هنا أيضًا صارخة، ففي الفصح الأول (يوحنا2) كان اليهود حريصين على تنقية مساكنهم من الخمير، وأما بيت الله فقد جعلوه بيت تجارة. وفي الفصح الأخير كانوا حريصين ألا يلامسوا جدران بيت الوالي الأممي لئلا يتنجسوا بملامسة الخمير، ولكن لم يكن لديهم مانع من نقض هيكل الله الحقيقي، وقتل ابن الله القدوس!
لكننا نعلم أن الله يُسَر بالحق في الباطن (مز51: 6)، ولا يمكن أن ترضيه عبادة المظاهر الشكلية الجوفاء. ونظرًا لغيرة المسيح على تطهير بيت الله، ونظرًا لحرصه على العبادة الأسمى، عبادة العهد الجديد، فإن ذلك ما كان ليتحقق بمجرد طرد باعة البقر والغنم، وكب موائد الصيارف، بل كان يلزم موته هو فوق الصليب. وهو ما نجده واضحًا في الفصل المقتبسة منه الآية التي تذكرها تلاميذه: «غيرة بيتك أكلتني». فهذه الآية وردت في مزمور 69، مزمور الصليب، الذي يتحدث عن المسيح كذبيحة الإثم. ولقد مات المسيح فعلاَ، كما يخبرنا ذلك المزمور، ولكنه قام أيضًا من الأموات، كما ذكر الرب في الآية موضوع دراستنا.
أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟
لقد طلب اليهود الأشرار من الرب آية تجعله جديرًا في نظرهم بأن يفعل ما فعل. ولقد قدم لهم المسيح الآية وهي أعظم آية، إنها آية إقامته لنفسه من الأموات.
ولقد تكلم الرب معهم بخصوص هذه الآية، آية موته وقيامته، لا بلغة صريحة بل بلغة مجازية. ويخبرنا البشير أن أحدًا لم يفهم كلام المسيح هنا، وهو ما كان يحدث كثيرًا على مدى الإنجيل كله (يو3: 3-6؛ 4: 10-14؛ 6: 41-63؛ 10: 1-6). وعادة كلام الرب ما كان يُفهَم إلا بعد أن يتم.
والرب بحكمة قصد أن يستخدم هذا الأسلوب، حتى لا يرى الذين لا يريدون أن يروا. ونحن نعرف أن اليهود ليسوا فقط لم يفهموا أقواله، بل فهموها خطأ، واتخذوها دليلاً ضده في المحاكمة. فتحول شاهد الإثبات عند أولئك الأردياء، الذي عن عمد طلبوا الشهادات الزور (مت26: 59-61)، إلى حجر عثرة عثروا به!
والمسيح بعد أن قال لهم «انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه» يرد مباشرة بعدها أنهم آمنوا به، ولكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه، لأنه كان يعرف الجميع (2: 23، 24). فلقد عرف أنه سيأتي يوم فيه ترتج مدينة أورشليم كلها بسببه وهم يهتفون «مبارك الآتي باسم الرب»، ثم بعد أيام معدودة سيصرخون بأعلى أصواتهم «اصلبه اصلبه» (يو12: 13؛ 19: 6و 15).
إذًا فما كان يقصده المسيح من قوله لهم: ”انقضوا هذا الهيكل“ هو أنهم سيقتلون شخصه الكريم، وأنه هو في ثلاثة أيام سيقيم نفسه. وعبارة «انقضوا هذا الهيكل»، ليست أمرًا لهم، بل إنها تشبه قوله لهم في مناسبة أخرى: «فاملأوا أنتم مكيال آبائكم» (مت23: 32). هذه هي لغة النبوة، مثل قول إشعياء: «احتزموا وانكسروا، تشاوروا مشورة فتبطل» (إش8: 9و10). والصيغة بهذا الأسلوب في النبوة لكي يظهر أن الرب يعلم مسبقًا ما سوف يحدث، إذ إنه ليس متفاعلاً مع الأحداث، فهو يعرف شر قلوبهم وما سينتجه.
لقد كان المسيح مستعدًا لأن يموت. بكلمات أخرى أن يُنقض هذا الهيكل الذي هو أعظم من هيكل سليمان، أعني به جسده القدوس الكريم. أ ليس غرض الهيكل إعلان مجد الله؟ أين أمكن إعلان مجد الله بصورة أروع مما تم عندما علق جسد المسيح القدوس فوق الصليب؟
والإشارة إلى موته وقيامته وردت في إنجيل متى متأخرة (مت16: 21)، وأما هنا فوردت مبكرة في بداية خدمته. فإن العداء والرفض في إنجيل يوحنا مقرران من البداءة، والرب يعرفه تمامًا، وهم في الوقت المعين سوف ينقضون هذا الهيكل.
التطبيق النبوي
في إنجيل متى عندما قام المسيح بتطهير الهيكل للمرة الثانية والأخيرة، فإنهم تحدوه ليخبرهم بأي سلطان هو يفعل ذلك. والمسيح هناك نظر إلى الماضي، وحدثهم عن إرسالية المعمدان (مت21: 23-25)، أما هنا فإن المسيح نظر إلى المستقبل، وتحدث إليهم عن موته وقيامته. المعمدان تحدث على أن المسيح له سلطان على اليهود، باعتباره ابن داود، بينما هنا يتحدث المسيح عن سلطانه الأعظم على الموت، به تبرهن أنه ابن الله (رو1: 4). وبموت المسيح وقيامته تأكد حقه لا على اليهود وحدهم، بل على كل الخليقة.
ولقد سبق للمسيح في آخر أصحاح1 أن أثبت أنه كلي العلم، عندما قال لنثنائيل: «قبل أن دعاك فيلبس، وأنت تحت التينة رأيتك»؛ ثم في أول أصحاح 2 أثبت أنه كلي القدرة، عندما حول الماء إلى خمر. وأما هنا فقد أثبت أنه كلي العلم، إذ تنبأ عن موته، كما وحدد المدة التي سيبقى فيها في قبضة الموت! كما وأثبت أنه كلي القدرة، إذ أشار إلى أنه سيقيم نفسه من الأموات! فهذا - بلا شك - أعظم كل الآيات قاطبة.
وبقتلهم شخصه كان التمهيد لخراب هيكلهم الحرفي (قارن متى 23: 32-36)، وبعد ذلك بثلاثة أيام، أي في ”اليوم الثالث“ أقام هو ”هيكل جسده“، وفي اليوم الثالث النبوي، أي بعد ألفي عام، سيبني أيضًا الهيكل الحرفي (زك6: 13).
وفي الختام أقول عن هذا الأصحاح (يوحنا2): يا له من أصحاح عظيم! فهو يبدأ بقيامة الأمة من الأموات ”في اليوم الثالث“ (ع1)، وبالتالي بعرس الأمة، ولكنه لا يختم إلا بقيامة الفادي والعريس في اليوم الثالث، ليس في مثال كما في حادث إسحاق، بل إنه مات وقام فعلاً!
(يُتْبَع)