كلمة ”بشارة“ تعني خبر سار أو خبر طيب. وبعد حوالي أربعة آلاف سنة من سقوط الإنسان، ثبت فيها فشله وعجزه تمامًا تحت كل التدبيرات السابقة، أعلن الملاك جبرائيل أخبارًا سارة من مكان بعيد، إلى أرض كانت قد تعطشت لهذا الخبر قرونًا طويلة «مياهٌ باردةٌ لنفسٍ عطشانة، الخبر الطيب من أرضٍ بعيدةٍ» (أم25:25).
«وفي الشهر السادس أُرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المُنعَم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدتِ نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع» (لو26:1-31).
هنا نرى إتمام قصد الله الأزلي، فقبل مجيء المسيح بحوالي 700 سنة تنبأ إشعياء النبي عن ولادته من عذراء «ويعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إش14:7).
اختار الرب العذراء المطوبة مريم، وهيّأها لهذا المركز العظيم: أن تكون الإناء لدخول ربنا يسوع المسيح إلى العالم. لقد ظهرت نعمة الله الغنية في اختيار هذه الفتاة البسيطة لهذا الشرف العظيم. وهي آمنت بأنه لا يستحيل على الرب شيء، فسلَّمت نفسها لمشيئة الله.
وعندما أتى ملاك البشارة إلى مريم، لم يكن هذا نتيجة صلوات، كما في حالة زكريا، بل من فيض نعمة الله التي تجلت في إتمام هذا القصد الإلهي.
«سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك. مباركة أنت في النساء.. لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله». كانت هذه هي تحية الملاك جبرائيل لمريم، وفي بشارته لها نرى 7 حقائق هامة عن المسيح:
1- ها انت ستحبلين وتلدين ابنًا الميسح إنسان حقيقي، مولود من العذراء مريم بقوة الروح القدس، إنه ليس مخلوقًا لكنه هو الخالق.
2- وتسمينه يسوع هو يهوه المخلِّص، هنا نرى لاهوته وخدمته.
3- هذا يكون عظيمًا هو عظيم في شخصه، وعظيم في عمله.
4- وابن العلي يُدعى هو ابن الله، الابن الأزلي، الابن الوحيد.
5- ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه هو الوارث الشرعي لعرش داود، سيجلس على كرسي الانتصار بعد أن يضع كل الأعداء تحت قدميه.
6- ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد إتمامًا للوعد الداودي
7- ولا يكون لمُلكه نهاية لا يملك فقط ألف سنة، بل سيملك أيضًا إلى أبد الآبدين.
والجدير بالذكر أن يوسف ومريم كانا موجودين في مدينة الناصرة وقت إعطاء البشارة، لكن كان ينبغي أن يُولد المسيح في بيت لحم طبقًا لنبوة ميخا النبي «أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلِّطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (2:5)؛ لذلك صدر المرسوم من أوغسطس قيصر بأن تُكتتب كل المسكونة وتتحرك كل أجهزة الامبراطورية لتنفيذ المرسوم الامبراطوري، أو بالحري لإتمام مقاصد الله.
تميزت شخصية مريم بالتقوى والخضوع، لم تكن تفكر في نفسها أو في ظروفها، لكنها سلّمت نفسها لكي تُصبح الإناء الذي يستخدمه الله، كما أنها كانت مثالاً رائعًا للإيمان، كان قلبها مُجهَّزًا لتقبل نعمة الله. وعندما سألت الملاك «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟»، كان سؤالها يُظهر أن مثل هذه الولادة مستحيلة إنسانيًا، على أنه لم يكن مثل تساؤل زكريا، فهي لم تطلب علامة كما طلب زكريا، الأمر الذي دل على عدم إيمانه، لكنها آمنت وسلّمت نفسها تمامًا لإرادة الله وقالت «هوذا أنا أَمَة الرب» (لو38:1). ومن ناحية أخرى كان سؤالها لاستيضاح الأمور، لا تساؤل الشك أو عدم الإيمان كما أشرنا، وعندما تكون هناك صعوبة في فهم أمور الله ونسأل سؤالاً، لا نحصل على توضيح لهذه الأمور الروحية فحسب، بل تُعطى لنا حقائق أخرى مفيدة. ونرى في مريم مثالاً رائعًا في هذا، قبل أن تسأل سؤالها كانت هي محور الكلام، لكن عند الإجابة تكلّم الملاك عن أمور تخص الجانب الإلهي؛ إذ تكلم عن الروح القدس، وقدرة الله، وابن الله القدوس الذي سيظهر في الجسد. واستطرد الملاك قائلاً «هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه».
قالت المطوبة مريم «هوذا أنا أَمَة الرب. ليكن لي كقولك»، وهنا نرى في هذه الشخصية الرائعة الخضوع والاتضاع، وهكذا نحن أيضًا عندما نُخضِع إرادتنا للرب، ونكون في ملء مشيئته، يمكنه أن يستخدمنا، وتتم فينا مقاصد نعمته.
بكل المقاييس كان الأمر بالنسبة لمريم غير عادي، وبدون شك ساورتها أفكار محيّرة، وما كان في وسعها أن تستوعب هذه الأمور الإلهية، ربما كانت مضطربة من الناحية الإنسانية، ولا سيما أنها كانت تعرف مقدار الخجل الذي ستتعرض له من عالم موضوع في الشرير، ولا شك أنها تحيرت كيف تشرح هذا الأمر لخطيبها يوسف، ونحن نعرف مقدار الحيرة التي وقع فيها يوسف عندما علم أنها حُبلى، ولكنه إذ كان بارًا لم يشأ أن يُشهرها وأراد تخليتها سرًا، لكن الملاك ظهر له في حلم موضِّحًا له الأمر. وفي هذا درس مفيد لنا: قد نواجه صعوبات ومتاعب بسبب خضوعنا لمشيئة الرب، بل والأكثر من ذلك نجتاز أحيانًا في حيرة وارتباك، لكن الرب في محبته ونعمته يُظهر لنا ذاته، ويوضح لنا فكره، ويعطينا القوة والمعونة، ويجيب على تساؤلات قلبنا، ويسكِّن روع مخاوفنا.
ما أروع ما ترنمت به مريم، يمكننا أن نرى ثلاثة أفكار في ترنيمتها:
1- نعمة الله الغامرة، ورحمته الممتَدة إلى الأجيال القادمة «تعظِّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه» (لو46:1-50).
2- كل ما يتعلق بالعالم الموضوع في الشرير، وعندما يظهر الرب بالمجد والقوة يضع حدًا لكبرياء وعظمة الإنسان، يقيم المسكين ويرفع المتضع، يعدل الأوضاع المقلوبة، ويضع الأمور في نصابها «صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم، أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين، أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين» (لو51:1-53).
3- أمانة الله في مواعيده للآباء «عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة، كما كلَّم آباءنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد» (لو54:1،55).