أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2005
المولد العذراوي للمسيح الحقيقة والمدلول

من أهم ما يرتكز عليه إيماننا الأقدس هو الحق الخاص بشخص المسيح: سواء لاهوته، أو مولده العذراوي، أو حياته القدوسة، وموته الكفاري فوق الصليب، وقيامته من بين الأموات، ومجيئه الثاني.

حقيقة المولد العذراوي للمسيح إذًا هي واحدة من الحقائق الجوهرية التي نتمسك بها، ولا نفرط فيها.  وسنتاول هذه الحقيقة الآن، لنتحدث عن تحقيقها، ونبيّن مدلولاتها.

أولا: المولد العذراوي في النبوة

يُذكر الميلاد العذراوي في العهد القديم مرة واحدة فقط، ولكن فيها كل الكفاية للإيمان.  وقد وردت هذه النبوة في الأصحاح السابع من سفر إشعياء، ويذكر لنا هذا الفصل مناسبة إعطاء هذه النبوة.  فلقد تحالف ملك إسرائيل وملك أرام ليعزلا ملك يهوذا، الملك أحاز، ويقيموا ملكًا آخر مواليًا لهما، يساعدهما في تحالفهما ضد ملك أشور.  ولا شك أن الشيطان كان وراء هذه المؤامرة، محاولة منه لمنع إتمام الوعد الداودي.  ولقد خاف الملك أحاز جدًا من هذه المؤامرة، ولكن نظرًا لأنها كانت موجَّهة ضد الله وكلمته ومسيحه، كان من المستحيل لها أن تفلح.

ولقد أرسل الله نبيه إشعياء ليطمئن الملك أحاز، قائلاً له كلمات قاطعة مانعة: «هكذا يقول السيد الرب: لا تقوم لا تكون»، أي أن هذا الذي ينوونه لن يتحقق أبدًا.  ولكي يُقوي الرب إيمان أحاز الملك، ويملأ قلبه بالسلام، عرض عليه أن يطلب آية من الرب، وأفهمه أن الله لا يضع أية حدود لتلك الآية، وشجّعه بأن يعمِّق طلبه أو يرفِّعه إلى فوق.  لكن الملك أحاز، غير المؤمن، رفض عرض الرب، متظاهرًا بالتواضع، وأجاب: «لا أطلب ولا أجرِّب الرب».

وإذ رفض أحاز أن يطلب آية من الرب، فإن الرب نفسه قدَّم آية من اختياره هو.  والآية التي أعطاها الرب لأحاز لم تكن مجرد آية عجيبة، وهي بدون شك كذلك، بل إنها تتعلق بتحقيق الوعد الداودي.  فهي ذكرت مجيء ذلك الابن الملك، وأوضحت أن أسلوب مجيئه إلى العالم هو بطريقة تفوق التصور والأفهام.

إذًا فعندما ظهر شر الإنسان وخبث الشيطان لمنع رجل مشورات الله من الوصول، فقد استخدم الله الفرصة ليعطي توكيدًا على البشارة الأبدية التي أُعلنت لأول مرة في جنة عدن، عن نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية.  فليس فقط لن يتمكن هذان الملكان من تنحية نسل داود، بل إن الله يعلن مجدَّدًا عن وصول ابن داود الحقيقي، ويذكر لأول مرة تفصيلات عن كيفية مولده.
في هذا المشهد الكئيب، حيث يطل الشيطان من جديد لمقاومة خطة الله على الأرض، وإذ يُظهر الإنسان عدم الإيمان، الأمر الذي يذكرنا بمشهد السقوط في الجنة، يعطي الرب نفسه الآية، هي امتداد لإعلان الجنة.  وهي آية عجيبة، كما أنها آية خلاص.

يقول إشعياء: «يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ ”عِمَّانُوئِيلَ“» (إش7: 14).
وعندما يقول إشعياء: ”ها العذراء“؛ فكأنَّه يتطلع بمنظار النبوة، عبر القرون والأجيال الممتدة أمامه، ويقول: ”ها هي“.  كما أن عبارة ”ها العذراء“، تدل - بحسب الأصل العبري - أنه كان يقصد عذراء بذاتها، وليس أية عذراء في إسرائيل، حيث ترد في الأصل مُعرَّفة وليس نكرة.

وفي كلمات إشعياء نلاحظ أشياء ثلاثة:

1- أنه يبدأ بكلمة ”ها“، وهي كلمة للفت الانتباه لأمر عظيم سيرد بعدها.  حيث سيقدِّم الرب نفسه آية الآيات.

2- الآية التي يعلنها إشعياء هنا هي ميلاد معجزي، بدون زرع بشر. فيقول: ”ها العذراء تحبل“.

3- وأما سر هذا المولد العذراوي الذي يفوق المدارك، فهو أن هذا المولود هو عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا

أن تحبل عذراء، هذا منتهى العجب!  لكن كون الطفل المولود هو عمانوئيل، الله معنا؛ فهذه آية أروع من أن العذراء تحبل.  وكان هذا الحبل العذراوي العجيب والفائق، يليق بمَقدِم «الكائن على الكل (الله) المبارك إلى الأبد».

وبهذا الإعلان الجديد يلقي الوحي ضوءًا أكبر على إعلان الجنة من جهة ”نسل المرأة“، إذ حدد النبي أنه سيأتي من ”عذراء“، ففُهم لماذا قيل عنه إنه ”نسل المرأة“ (تك3: 15)، وليس ”نسل الرجل“.  وهكذا نرى أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص (2بط1: 20)، كما نرى أن نور النبوة يزداد في اللمعان، إلى أن نصل إلى ملء الزمان.

مشكلة مفتعلة والرد عليها

ولقد أثار عدم الإيمان مشكلة مفتعلة.  فالتعبير الشائع عن العذراء بالعبري هو ”بتولة“، ولكن النبي هنا استخدم تعبير ”عالما“، وهي تعبير أقل شيوعًا.  ويقول البعض إن هذا التعبير يعني امرأة صغيرة أو فتاة، ولا يعني عذراء.

ونحن ندع الكتاب المقدس يرد عليهم. فكلمة ”عالما“ وردت في الكتاب المقدس سبع مرات: ست مرات بخلاف المرة المذكورة هنا.  فهي الكلمة عينها التي وردت عن رفقة قبل زواجها من إسحاق، في تكوين 24: 43.  كما وردت أيضًا عن مريم أخت هارون وموسى في خروج2: 8؛ ووردت أيضًا في مزمور68: 25؛ أمثال30: 19؛ وفي كل المرات السابقة تُرجمت ”فتاة“، ثم نشيد الأنشاد 1: 3؛ 6: 8 وفي هاتين المرتين ترجمت الكلمة إلى ”عذراء“.  والفكرة الرئيسية والواضحة في كل هذه المرات ليست امرأة صغيرة، بل عذراء لم تتزوج.  ولا يوجد إطلاقًا أي دليل يجعلنا نعتقد بخلاف ذلك.

إن كلمة ”علما“: من أصل كلمة يعني الحياء والخفر.  وهي لا تستخدم قَطّ عن امرأة متزوجة.  وأما كلمة ”بتولة“ فغير مناسبة: صحيح إن كلمة بتولة تستخدم في العبري عن العذراء، لكنها أيضًا تستخدم عن الفتاة المتزوجة، وعلى الأقل في حالتين استخدمها الوحي عن الفتاة بعد زواجها.  فمثلا يقول: «نوحي... كعروس (بتولة) مؤتزرة بمسح من أجل بعل صباها» (يوئ1: 8. انظر أيضًا تثنية22: 19).  وأما كلمة ”عالما“ فهي لا تُقال مطلقًا عن أنثى متزوجة، بل عن فتاة تعيش مع والديها، ولم تتزوج بعد، ولكنها بالغة يمكنها الزواج.

وعندما تُرجمت التوارة العبرية في الإسكندرية قبل ميلاد المسيح بأكثر من قرنين، ولم يكن لدى علماء اليهود حساسية ما في ذلك الوقت، ولا شيء يخشونه، فإنهم ترجموا الكلمة العبرية إلى ”بارثينون“؛ وهي كلمة يونانية تعني ”عذراء“.  وطبعًا لن يعرف أحد معنى كلمة ”عالما“ أكثر من السبعين عالمًا الذين ترجموا الترجمة السبعينية.  ولكن بعد ميلاد المسيح، عندما وجد أحد علماء اليهود، واسمه أكيلا، أن المسيحيين أخذوا من هذه الآية استدلالاً على كون يسوع هو المسيا، ولأنهم ينكرون هذا الأمر، فقد ترجم كلمة ”عالما“ إلى امرأة صغيرة.

هذا ما فعله بالأسف عدم الإيمان اليهودي، الذي رفض اعتبار يسوع ابن العذراء مريم هو المسيح.  ويؤسفنا أكثر أن عدم الإيمان المسيحي في الأوساط الليبرالية ساير أيضًا عدم الإيمان اليهودي، وتلقف اللاهوت المتحرر الفاسد هذا الفكر ونادى به، منكرين مولد المسيح من عذراء؛ هادمين بذلك فكرة الفداء من أصولها. 

وهذا التفسير قد يروق لبعض اللاهوتيين الليبراليين، أولئك الذين لم يتركوا حقًا واحدًا إلا وحاولوا تشويهه.  وقد يصفّق له بعض الهراطقة والكفرة، ويجعلون منه مادة كتابة أو حديث؛ وأما بالنسبة لنا نحن الذين نؤمن بوحي الكتاب، فإننا نعتبره ضجة فارغة، لا تستحق منا أن ننشغل بها، فإن كلام النبوة في إشعياء، واقتباسها في إنجيل متى، بالإضافة إلى القصة كما وردت في إنجيلي متى ولوقا، بما فيها من ظهورات ملائكية للمطوَّبة العذراء مريم، وليوسف النجار؛ هذه كلها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بحقيقة المولد العذراوي.

المولد العذراوي في الأناجيل

في بداية العهد الجديد يؤكِّد لنا الوحي حقيقة المولد العذراوي.  فيحكي لنا قصة يوسف مع المطوبة العذراء مريم، وكيف أتاه ملاك السماء، وأخبره أن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، ويقول الملاك: «فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم».  ثم يقول: «وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا».

إن المطوبة مريم كان بوسعها - بعد أن حل الروح القدس عليها - أن تلد ابنًا، ويوسف النجار كان بوسعه أن يدعو اسمه يسوع.  لكن من كان يقدر أن يخلِّص سوى الرب؟  لا سيما إنه يخلص لا من المرض أو من الأعداء، بل «يخلَِّص شعبه من خطاياهم».  يخلِّصهمهم من ذنب الخطية وعبوديتها، من نتائجها وعقوبتها.  إن خلاص الرب ليس خلاصًا من عبودية الرومان، ولا من غدر الزمان، بل من عبودية الشيطان، وما تجلبه تلك العبودية على المرء من هوان.

ثم يقول: «هذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي».  وهو أمر عجيب، فربما يقول الواحد منا إن الحدث المتنبأ عنه، هو في الواقع أكثر أهمية من النبوة.  وكان منطقيًا أكثر لو قال متى إن النبوة وُجدت من أجل خاطر هذا الحدث الجلل، وليس أن الحدث صار من أجل إتمام النبوة؛ وإن إشعياء بنبوته كان يهيئ العالم لمولد المسيح العذراوي، وليس أن الميلاد العذراوي صُمِّم لإتمام نبوة إشعياء.  ولكن الحقيقة أن كلا من نبوة إشعياء وتحقيق تلك النبوة كانا من الله؛ وأن هذا الحدث العظيم لم يكن بالانفصال عن تلك النبوة العظيمة.  وعلى قدر ما أنّ الكلمة المتجسِّد عظيم، بهذا القدر عينه الكلمة المكتوبة عظيمة.  والإنجيل عينه، الذي أكد لنا عدم إمكان كسر عظم من المسيح، هو الذي نرى فيه التأكيد باستحالة نقض كلمة من المكتوب (يو19: 36؛ 10: 35).

الله ظهر في الجسد

هذا الحدث الجلل، أعني به ظهور الله في الجسد، عن طريق المولد العذراوي، تُرى ما هو الغرض منه؟

يمكننا أن نتتبع من كلمة الله ثلاثة أغراض هامة له:

1- حنين الإنسان للتواصل مع الله، ورغبة الله في التواصل مع الإنسان

هذا الحنين يظهر لنا في مأساة الوثنيات.  فلقد استغل الشيطان هذا الحنين في قلب الإنسان الذي خلقه الله على صورته كشبهه، وانحرف به لينشر الوثنية في العالم.  بل إننا نستمع إلى هذا الحنين من العديد من رجال الله في العهد القديم. فمثلاً قال أيوب الصديق «هأنذا أذهب شرقًا فليس هو هناك، وغربًا فلا أشعر به، شمالاً حيث عمله فلا أنظره، يتعطف الجنوب فلا أراه» (أي23: 8،9).  كما تجاسر موسى النبي يومًا وقال لله: «أرني مجدك».  فقال له الرب: «لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش» (خر33: 18-20).  بل حتى في العهد الجديد عبَّر عن هذه الأمنية العزيزة واحد من تلاميذ المسيح إذ قال له: «أرنا الآب وكفانا» (يو14: 8).  لاحظ قوله ”أرنا“ وليس ”أرني“، فلقد كان بهذه الطلبة يعبِّر عن رأي الآخرين من التلاميذ أيضًا.

2- ليشاركنا في ظروفنا ومتاعبنا

أعلن الله من القديم أنه غير منفصل عن شعبه.  فقال مثلاً إنه في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلّصهم (إش63: 9).  لكن كيف يمكن للإنسان أن يفهم هذا؟  كيف يفهم الإنسان أن الله المنزَّه عن الشعور بالألم يمكنه حقًا أن يشعر بآلام البشرية؟  أ ليس هو منفصلاً عنّا في برجه، بعيدًا بعيدًا في سماه؟  لكن هذه الحيرة انتهت، وهذا السؤال أُجيب عنه، عندما أتانا الله في المسيح، ووصل إلى نفس مركز بؤسنا.  ولقد شابه المسيح إخوته في كل شيء، ليكون رحيمًا ورئيس كهنة أمينًا.  و«في ما هو قد تألم مجرَّبًا، يقدر أن يعين المجرَّبين» (عب2: 17،18).

3- للقيام بعمل الفداء

على أن القصد الأهم لتجسد المسيح هو أن يقوم بعمل الفداء.  فيقول الرسول: «إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين، خوفًا من الموت، كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية» (عب2: 14،15).
لو لَم يصبح المسيح إنسانًا لاستحال عليه أن يموت، فالله له وحده عدم الموت، ولاستحال أيضًا أن يمثِّل الإنسان أمام عدالة الله ليكون نائبًا عنا.

ولد المسيح!

لقد كان ينبغي أن يكون المخلِّص إنسانًا، لأن الإنسان هو الذي أخطأ ضد الله، وكان ينبغي أن يكون هو الله فليس سوى الله الذي يقدر أن يخلِّص البشر من خطاياهم.  فلقد اختبر الله البشر لآلاف من السنين فثبت فشل الجميع وعجزهم.  بل إن أفضل البشر كانوا هم أنفسهم محتاجين لمن يخلصهم (لو1: 46،47؛ 5: 8؛ 1تي1: 15)؛ وكان الأسلوب الوحيد لكي يخلِّص الله البشرية الساقطة، هو أن يأخذ ابنه صورة هذا الجنس الذي أراد الله أن يفديه.

لو أن المسيح كان مجرد إنسان لما أصبحت فديته مقبولة ولا كافية.  ليست مقبولة، لأن نفسه في تلك الحالة لا تكون ملكه هو، بل ملك الله الذي خلقها، وبالتالي لا يصلح أن يقدمها لله.  ثم إنها ليست كافية لأن الإنسان محدود، وأما الخطأ الذي ارتُكب في حق الله غير المحدود هو أيضًا غير محدود.  ولكن حيث إن المسيح هو الله والإنسان في آن، أمكنه أن يكون الوسيط الذي يضع يده على كلينا، فتمت أمنية أيوب القديمة (أي9: 33)، وأمكنه أن يكفِّر بموته عن خطايا كل المؤمنين، بل وكل العالم أيضًا (1يو2: 2).

لنا أن نتعجب وأن نغتبط، فابن الله صار ابن الإنسان، ليجعل بني البشر أبناء الله!

هذا هو السر العظيم: «بالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16).  وإننا نقول كما قال أحد القديسين: ”إننا نؤمن بما لا نقدر أن نشرحه.  فالمسيح بقي ما كانه (الله)، وصار ما لم يكنه قبلاً (إنسان)“.  وإن فكَّر أحد أن هذا عجيب، يبادرنا إشعياء قائلاً: «يُدعى اسمه عجيبًا» (إش9: 6).

مولودًا من امرأة

لقد وُلد المسيح لكي يكون إنسانًا بكل معنى الكلمة.  فهو لم يكن - كما قال بعض الهراطقة في العصور المسيحية الأولى - شبحًا أو خيالاً.  لا، لكنه ظهر ”في الجسد“.  ولذلك وُلد لكي يكون إنسانًا بكل معنى الكلمة.  إن إنسانيته مؤكَّدة من مولده من امرأة (قارن أي14: 1).

ثم إن مولد المسيح من امرأة كان تتميمًا لوعد الله في الجنة، الوعد الذي ورد في تكوين3: 15 عن نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية.  فنحن نذكر قصة السقوط في الجنة، وكيف استخدم الشيطان المرأة - باعتبارها الإناء الأضعف - لإدخال الخطية والبؤس والشقاء والموت إلى العالم.  وفي الحال أتى الرد الإلهي على ذلك.  فالمرأة التي أدخلت الخطية إلى العالم، هي نفسها التي أعطى الله فورًا وعدًا بأنها ستُدخِل المخلِّص، الذي سيهزم الشيطان ويسحق رأسه!

ولقرون عديدة ظلت بنات حواء يعانين العبودية والذل من جنس الرجال، وربما كن بذلك يدفعن غرامة التمرد الذي حدث في الجنة.  صحيح كانت هناك استثناءات قليلة عبر القرون مثل سميراميس وكيلوباترا وزوبيا اللاتي قُدن العالم، أو بالأحرى حكمن الرجال الذين كانوا يحكمون العالم، لكن بصفة عامة ظلت النساء طوال آلاف السنين، حتى في المجتمع اليهودي، جارية ومتاع للرجل، يعانين الظلم والمهانة، واسوأ منه بكثير ما كان يحدث في المجتمعات والحضارات الأخرى.

إلى أن وُلد الفادي يسوع، ليتحقق أعظم حدث في كل تاريخ البشرية على الإطلاق، فحل الروح القدس على عذراء، ولم يكن للجنس الأقوى أي دور في هذا الحدث على الإطلاق!

إذًا فنحن في أول العهد القديم نسمع الوعد بنسل المرأة، وفي أول العهد الجديد نجد تحقيق هذا الوعد!

دلالة ولادة المسيح من عذراء

لكن المسيح لم يولد فقط من امرأة، بل ولد - ويا للعجب - من عذراء! ولهذا المولد العذراوي العديد من الدلالات الهامة:

أول مدلول هو تميز المسيح عن كل البشر الذين قبله والذين بعده.  فلم يدخل قط إنسان إلى العالم بهذه الطريقة. 

والأمر الثاني إن دخول المسيح إلى العالم لم يكن من تخطيط إنسان، لا من طلبه ولا من تصوره أيضًا.  بل إنه جاء بناء على خطة الله الأزلية وفي التوقيت الذي اختاره الله.  وفي هذا يقول الكتاب المقدس «لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه، مولودًا من امرأة» (غل4: 4).

والأمر الثالث ليكون المسيح بمنأى عن خطية آدم التي نسميها الخطية الوراثية.  فإن كان المسيح أتى ليرفع الخطايا، فينبغي أن يكون هو نفسه بلا خطية؛ في حياته الفريدة يكون قدوة بلا خطية، وفي موته الكفاري يكون ذبيحة بلا خطية.

صحيح من آن لآخر تدخَّل الله في مسار التاريخ البشري وأرسل أنبياءه، الذين قيل عن بعضهم إنهم كانوا مقدَّسين لله قبل ولادتهم ومخصَّصين لخدمته من أرحام أمهاتهم، مثل إرميا ويوحنا المعمدان، ومع ذلك فإن الكل، بما فيهم هؤلاء الأنبياء، كان عليهم الاعتراف بما اعترف به داود «هأنذا بالإثم صوِّرت، وبالخطية حبلت بي أمي» (مز51: 5).  لكن المولد العذراوي كان إجابة على الأحجية: كيف يكون المخلِّص إنسانًا، يشاركنا الطبيعة البشرية، ولا يشاركنا الخطية.  يشاركنا الإنسانية، ولا يكون له حصة في هذا التركة الثقيلة، أعني الخطية الموروثة التي ناء بثقلها ظهور كل بني آدم. 

ثم أ لم يكن من الطبيعي أن الطبيعة تعلِّق قوانينها الراسخة لترحب بمقدم صانعها وواضعها الذي أتى يبارك الخليقة ويصنع لها فداء؟!

يوسف رياض