إنَّ تغيير كل من: الخصي الحبشي في أعمال8، وشاول الطرسوسي في أعمال9، وكرنيليوس قائد المئة الروماني في أعمال10، يبدو أنه يقدم لنا أمثلة تُظهر أنَّ نعمة الله تتَّجه لجميع الناس على السواء.
وهناك بعض المقارنات والمفارقات الشيِّقة بخصوص تغيير هؤلاء الرجال:
- كان هؤلاء الرجال الثلاثة على مستوى عالٍ من الأخلاق والاستقامة، ومع ذلك كانوا جميعًا هالكين ومحتاجين إلى الخلاص.
- كان لكل واحدٍ من الثلاثة رسولٌ خاص أُرسِل إليه ليحدِّثه. «كيف يسمعون بلا كارز؟». إنَّه امتياز عظيم أن نحمل كلمة الحياة للنفوس الهالكة.
- كان واحد منهم حبشيًا، والثاني يهوديًا، والثالث أمميًا. وهم بذلك يمثِّلون الجنس البشري كله: فالخصي منحدر من نسل حام؛ وشاول من سام؛ وكرنيليوس من نسل يافث.
- كان الأوَّل سياسيًا (وزير لخزائن كنداكة)؛ وكان الثاني لاهوتيًا عظيمًا؛ وكان الثالث خبيرًا عسكريًا. وهذه العينات الثلاث هي أصعب الفئات التي يمكن الوصول إليها بالإنجيل.
- تأثَّر الأوَّل بقراءة الكلمة؛ والثاني برؤية وسماع الرب في المجد؛ والثالث برؤيا ملائكيَّة، ثم كرازة الرسول بطرس.
- كان واحد منهم في طريقه إلى البيت؛ والثاني مسافرًا من البيت؛ بينما كان الثالث في البيت.
- كان واحد منهم يتوقع الحصول على السلام، لكن ها هو يعود إلى بيته دون أن يوفَّق في بحثه؛ وكان الثاني مُحطِّمًا للسلام؛ وأما الثالث فكان يطلب سلام الله.
وكثيرًا ما نقابل هذه الحالات الروحيَّة الثلاث. فالبعض مثل الخصي يريدون أن يخلصوا، لكنَّهم لا يعرفون كيف, والبعض الآخر مثل شاول لا يبصرون احتياجهم بسبب عماهم الديني الذي يوحي إليهم بالاكتفاء والشِّبع ؛ بينما الكثيرون يحتاجون فقط إلى لفت انتباههم إلى الرسالة، حتى يُمسكوا بها حالاً بالإيمان، كما حدث مع كرنيليوس.
الخصي الحبشي
أعمال 8
هنا نجد أن الإنجيل ينتقل من اليهودية، ويصل إلى مرحلة تالية، كما أوصى الرب في بداية السفر. ولقد أخذ الإنجيل يستمرّ في توسّعه في الأصحاحات التَّالية، إلى أبعد من ذلك، حتى وصل إلى أقصى الأرض.
تُخبرنا الآية الافتتاحية لهذا الأصحاح: «وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم (نتيجة موت استفانوس) فتشتَّت الجميع في كوَّر اليهوديَّة والسامرة، ما عدا الرسل». ونفهم بعد ذلك من التاريخ أنَّ الرسل أيضًا ذهبوا بعيدًا برسالة نعمة الله. ولا شكّ أن بقاءهم في أورشليم في ذلك الوقت كان من الله. لقد تحمَّلوا مخاطر كثيرة في مركز القيادة في أورشليم، فقد كانوا على مقربة كبيرة من فم الأسد. وربَّما كان هناك احتياج إلى بقائهم في هذا المركز للإشراف على عمل الرب، ولعلَّنا نتعلَّم شيئًا عن هذا الاحتياج من أعمال 15. لأنَّه في الوقت الذي لم يكن فيه العهد الجديد قد كُتِب، كانت القيادة لهؤلاء الرجال بتعيين من قِبَل الرب، فلهذا كان الاحتياج شديدًا لهؤلاء الرسل.
كان فيلبس واحدًا من ضمن هؤلاء الذين تركوا أورشليم وذهبوا إلى السامرة، وهو الذي جاء ذِكره بعد استفانوس في قائمة الرجال الذين وقع الاختيار عليهم في أعمال6. وقد يعتقد البعض أن فيلبس هذا هو الذي ذُكر كأحد رسل الرب في الأناجيل، ولكن لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا لأن العدد الأول ذكر أن الرسل لم يغادروا أورشليم، وبالإضافة إلى ذلك، لو كان فيلبس واحدًا من الرسل لمَا كان هناك احتياج إلى مجيء بطرس ويوحنا من أورشليم ليمنحوا الروح القدس للذين خلصوا ببشارة فيلبس، ولكان فيلبس نفسه يملك هذا السلطان.
لقد كرز فيلبس بالمسيح وكانت بركة الله ملازمة لكرازته. فلقد ثبَّت الله خدمته بآيات وقوَّات، عُملت بواسطته. حتى أن سيمون الساحر نفسه أعلن إيمانه، لكن سلوكه فيما بعد ألقى الشك حول أمره. يعتقد البعض خطأ أنه كان مؤمنًا حقيقيًّا ضلَّ بسبب الرغبة في الحصول على السلطان (وكثيرًا ما يُبتلى المسيحيِّون الحقيقيِّون بهذا الأمر في هذه الأيام). على أية حال، إننا نجد فيه درسًا هامًا للخطاة كي يتحذَّروا، إذ قد يكونوا قريبين جدًّا، ومع ذلك يظلّون في دائرة الهلاك الأبدي.
ومن هذا الحقل المُبهج للعمل، ومن وسط هذا النجاح العظيم، دُعي فيلبس فجأة بعيدًا بواسطة ملاك الرب ليذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة. وتبعد السامرة عن غزة حوالي 130كم. وقد لا يكون فيلبس قد سافر الطريق كلّه، إلا أنَّه كان طريقًا طويلاً وشاقًا، لا سيَّما في تلك الأيام. وكان الرسل وباقي المؤمنين في أورشليم أقرب إلى الخصي الحبشي من فيلبس بـ 50كم على الأقل، فلماذا لم يُرسل الرب أحدًا منهم في هذه الرحلة؟ لماذا يأخذ فيلبس في وقت مثل هذا، وقت حصاد عظيم؟ نحن لا نعلم، وكثيرًا ما كانت طرق الله ليست مثل طرقنا. وعندما يأمر الرب، ما على الخادم إلا أن يطيع. وهذا عين ما فعله فيلبس. فهو يستطيع على الأقل أن يتعلَّم هذا الدرس الهام، وكذلك نحن: عند الله لا يوجد أحدٌ غير قابل للاستخدام، فالله يستطيع، وهو يستخدم من يريد. ولقد فعل فيلبس مشيئة الله بسرور، حتى أنَّه بادر (ركض) حينما قيل له أن يرافق مركبة الخصي الحبشي.
ولقد وَجَد واحدًا من عظماء الأرض (وزير لكنداكة ملكة الحبشة الذي على جميع خزائنها) عائدًا إلى بيته مغمومًا. لقد ذهب إلى أورشليم، التي كانت فيما مضى مركز الديانة الصحيحة، حيث يحلّ اسم الله، لكنَّه عاد في ظلام روحي مثلما ذهب. ولنا أن نتعجَّب من هذا، خاصةً أن المدينة كانت مضطربة بالكرازة بهذا التعليم الجديد المتعلِّق بيسوع الناصري. وأنَّه كان هناك جمع كبير قد خلص حديثًا، وآيات وعجائب كثيرة كانت قد صُنعت باسم يسوع. لكن يبدو أنَّه لم يصل لهذا السياسي من كل هذه الأمور إلا القليل جدًّا، أو ربما لم يصله شيء على الإطلاق. أ يمكنه أن يكون - مثلما يفعل الكثيرون اليوم - قد تجاهل هؤلاء الذين ليست لهم مكانة بارزة في السلطة الدينية، والتجأ بدلاً من ذلك إلى الأسماء الرنانة في اليهودية؟! لقد ذهب إلى الهيكل الذي كان ”يهوه“ قد تركه، والتمس النور من قادة العمي، العميان نظيرهم! وهذا ما يفعله الكثيرون اليوم. إنَّ القليلين هم الذين يستمعون إلى المتواضعين من العامة، الذين يكرزون بالمسيح، والذين بدلاً من أن يصنعوا اسمًا لأنفسهم، يسعون ليرفعوا ذلك الاسم الذي هو فوق كل اسم، بينما الآخرون يحاولون ”أن يملأوا بطونهم من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله“. لكن لم يعطهم أحد.
على أيَّة حال فإن ذلك الإنسان عاد خاويًا مثلما ذهب تمامًا، لكنَّه على الأقل أحضر معه شيئًا قيِّمًا، عندما ترك أورشليم، هو نسخة لجزء من - إن لم يكن كل - كلمة الله. وكان وهو عائد يقرأ النبي إشعياء. ولم تكن مجرَّد صدفة أن يقرأ الأصحاح الثالث والخمسين، فكل ما كان فيلبس يريد أن يقوله كان جاهزًا له، فهل هناك نص يناسب أي مبشر أفضل من إشعياء53؟
فسأله فيلبس: «ألعلَّك تفهم ما أنت تقرأ؟». ومع أن الخصي كان رجلاً عظيمًا، إلاّ أنَّه كان على ما يبدو متواضعًا، وكان هذا لأجل صالحه الأبدي. فالكبرياء هي تاج الخطايا التي تُبعِد الإنسان عن المسيح. ولهذا فإنه أجاب: «كيف يمكنني أن لم يرشدني أحد؟...... ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشَّره بيسوع». فأخبره عن الخزي الذي لحق بالمخلِّص، وعن موته الكفاري, وبلا شكّ عن رفعته المجيدة. ويحتمل أن يكون أخبره على أنَّ الذين آمنوا بالمخلِّص عليهم أن يتبعوا إيمانهم بالمعمودية، لأنهما عندما أقبلا على ماء «قال الخصي هوَّذا ماء. ماذا يمنع أن أعتمد؟».
ولقد كان عنده الإيمان الحقيقي بالمسيح، ولهذا فقد عمَّده فيلبس.
ثم خَطف روح الرب فيلبس بعيدًا، وذهب الذي تغيَّر حديثًا في طريقه فَرحًا. عندما تعثر النَّفس المشتاقة على المسيح ، على الخادم أن يبرح المشهد، حتى يكون المسيح ”الكلّ في الكلّ“.
أمَّا فيلبس فوُجد في أشدود وبينما هو مجتاز كان يبشر جميع المدن في الشمال حتى جاء إلى قيصرية. فاتَّبع شاطئ البحر شمالاً حوالي 120كم، يبشِّر أينما ذهب. لاحظ أنَّه لم يعد إلى السامرة، ولم يُصبح قسيسًا للرعيَّة في السامرة، لكنَّه خدم الرب كما قاده الروح القدس.
(يُتبَع)