أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2008
مزموران متشابهان - ومن فم الرب لم يسألوا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

مزمور 14؛ مزمور 53

يلفت نظر الدارس، ويثير تساؤلات المتشكك، ويعطي مجالاً لتطاول الكافر، وجود مزمورين متشابهين هما مزمور 14 ومزمور 53. ومع إقرارنا بأن نسبة التشابه بين المزمورين كبيرة جدًا، لكننا نضيف أنهما ليسا متطابقين. ودراسة هذا الأمر بالاتضاع أمام إله الكتاب، هذا الإله الذي يسمو فوق النقد سموًا لا نهاية له، يعظم كلمة الله كما يعظم إله الكلمة. ونذكر أن هذا السفر عينه قال عن هذه الكلمة: «كلام الرب كلام نقي، كفضة مصفاة في بوطة في الأرض، ممحوصة سبع مرات» (مز12: 6).

 نعم هناك تشابه كبير، ولكن هناك أيضًا اختلافات هامة. والمزموران ليسا صورة طبق الأصل، لكنهما بلغة “سبرجن” نسخة منقحة من المزمور، بقلم الكاتب نفسه، في ظروف تاريخية مختلفة، وتتحدث أيضًا عن مشهد نبوي مختلف.

 وبداية نقول إنه ليس شيئًا مستغربًا ولا هو فريدًا من نوعه في الكتاب المقدس أن يعالج الوحي موضوعًا أكثر من مرة. ونجد أمثلة عديدة لذلك في الأناجيل الأربعة، وفي الرسائل، مثل رسالتي يهوذا وبطرس الثانية، ورسالتي أفسس وكولوسي. وفي العهد القديم في أسفار الملوك والأخبار، وفي بعض الأسفار النبوية، حيث تتكرر مقاطع بألفاظها (انظر إشعياء 2: 2-4 مع ميخا4: 1-3)؛ فالروح القدس قد يرى أن يكرر موضوعًا له أهمية خاصة، في أكثر من مكان. وواضح أنه لا يوجد موضوع أخطر من موضوع هذين المزمورين سواء في الدروس الأدبية أو النبوية التي يحتويان عليها.

 فبالنسبة للدروس الأدبية، فهذان المزموران يقرران بصورة قاطعة فساد جميع البشر، فليس من يعمل صلاحًا، بل وليس من يطلب الله، والجميع فسدوا، بمعنى لا يوجد أي أمل فيهم. ونحن نعلم أن الرسول بولس، وهو يشرح إنجيل الله في رسالة رومية، وقبل أن يذكر الكُلفة الهائلة التي تكلَّفها الله ببذل ابنه الوحيد، ليقدم البر مجانًا لكل من يؤمن من البشر كافة، اقتبس هذه الآيات، مؤكدًا تعليم الوحي بأنه لا يُنتظر أدنى صلاح في البشر، ولا حتى مجرد توجه من نحو الله. فاستلزم أن يتداخل الرب بنعمته ليخلص البشر من هذه الحالة.

في كل من المزمورين يرد اسم الجلالة سبع مرات. وجميل أنه في المزمورين اللذين يحدثاننا عن زمان إثم النهاية عندما يصل الأمر إلى إنكار وجود الله نهائيًا، فإن المرنم في كلا المزمورين يؤكد تأكيدًا سباعيًا على وجود الرب مسيطرًا على الناس والأحداث

 وبعد أن كرَّر الرب الدرس مرتين في سفر المزامير، واقتبسه الرسول في رسالة رومية، تُرى هل تعلم البشر أن يكفوا عن انتظار صلاح في البشر؟ بل أقول هل كفَّ رجال الدين حتى في المسيحية عن المناداة بأن على الإنسان أن يعمل أفضل ما عنده لكي يخلص؟ حقًا لقد قال الوحي: «لكن الله يتكلم مرة، وباثنتين لا يلاحظ الإنسان» (أي32: 14).

 وأما بالنسبة للدرس النبوي فهذان المزموران يحدثاننا عن فترة من أصعب فترات التاريخ البشري، فيه لا يكون سر الإثم عاملاً فحسب، كما هو حادث اليوم، بل إذ يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، أعني الروح القدس والكنيسة، فإنه سيُستعلن الأثيم الذي سيعمل على أن يلاشي من ضمير البشر تمامًا فكرة وجود الله، بل وسيعلن أنه هو نفسه الله، ويطلب لنفسه السجود (2تس2: 3-9)، تحت طائلة الحرمان من حق الحياة، يصل إلى الجوع لحد الموت، والقتل بحد السيف أيضًا (رؤ13: 13-17). هذه هي قوة العبارة التي تتصدر كل من المزمورين: «قال الجاهل في قلبه ليس إله».

 وسوف ينتج عن هذا الارتداد العمومي كارثتان طالما ميّزا تاريخ البشر من بدايته وحتى نهايته، أعني بهما الفساد والقسوة. فعن الفساد يقول القسم الأول من المزمور مرتين “فسدوا”، وعن القسوة يقول في القسم الثاني إنهم “يأكلون شعبي كما يأكلون الخبز”! هذان هما سمة العالم في أيام نوح، عندما فسدت الأرض وامتلأت ظلما. والمسيح أخبرنا أنه كما كانت أيام نوح كذلك يكون أيام ابن الإنسان (مت24: 37). ويخبرنا سفر الرؤيا أيضًا صراحة عن هذه الثنائية التي ستكون سمة البشر المميزة قبيل ظهور المسيح بالمجد والقوة لتأسيس ملكوته السعيد (رؤيا22: 11).

 ومع ذلك فكما ذكرنا هناك نقاط اختلاف بين المزمورين، وأبرز تلك النقاط أربع:

 العنوان؛ طول المزمور؛ اسم الجلالة؛ وأخيرًا وجود اختلاف بين ما ورد في ع5، 6 من مزمور 14 وما ورد في ع5 من مزمور 53

وليمكننا فهم هذه الاختلافات بصورة أفضل نذكر في البداية أن هناك خمسة أقسام في سفر المزامير، تحدثنا نبويًا عن فترات مختلفة في المستقبل. وحيث إن هذين المزمورين وردا في القسمين الأول والثاني (القسم الأول يشتمل على المزامير من 1 إلى 41؛ والقسم الثاني على المزامير من 42 إلى 72)، فيحسن أننا نفهم المجال النبوي لهذين القسمين. فالقسم الأول يحدثنا عن الفترة التالية للاختطاف، والتي تمثل الأسبوع السبعين لنبوة دانيآل (9: 24-27)، ولا سيما نصفه الأول، والذي يسمى “مبتدأ الأوجاع” ، وعن اختبار البقية بصفة عامة في تلك الفترة. بينما القسم الثاني يحدثنا بالأكثر عن فترة نصف الأسبوع الثاني، أي فترة الثلاث ونصف الأخيرة، وهي تلك المسماة “الضيقة العظيمة” ، والتي تنتهي بظهور الرب وتأسيس مُلكه السعيد على كل الأرض. وبناء على ذلك يمكن القول أنه بينما مزمور 14 يحدثنا عن خطية الإنسان، فإن مزمور 53 يحدثنا عن “إنسان الخطية”

 والآن نعود إلى بعض نقاط الاختلافات الظاهرية التي أشرنا إليها قبلاً

 أولاً: عنوان المزمور:

 عنوان مزمور 14 هو: “لإمام المغنين. لداود” ؛ بينما عنوان مزمور 53 هو “لأمام المغنين. على العود. قصيدة. لداود”. كلا العنوانين يؤكدان أن كاتبهما داود، بينما يضيف مزمور 53 إضافتان للعنوان، هما على “العود” ، “قصيدة”.

 وعبارة “على العود” وردت أيضًا كعنوان لمزمور آخر هو مزمور 88، والعبارة تفيد بحسب الأصل العبري “نغمة حزن وحيرة”، وهو ما تؤكده لنا محتويات المزمورين، ولا سيما مزمور 88 الذي هو أكثر المزامير قتامة وحزنًا. وبالنسبة لمزمور 53 واضح أن البقية التقية في فترة الضيقة العظيمة ستكون في حيرة شديدة ويائسة، ومن كلمات المسيح في عظة جبل الزيتون نعلم أنه لو لم تُقصَّر تلك الأيام لما خلص جسد، ولا البقية التقية أيضًا، ولكن يقول المسيح إنه لأجل “المختارين تقصر تلك الأيام” (مت24: 22)، فلا عجب أن يأتي أداء هذا المزمور على تلك النغمة الحزينة.

 وأما عبارة “قصيدة” ، فإنها مشتقة من كلمة عبرية تفيد الفهم والتعلم. وكل المزامير المعنونة قصيدة، وعددها 13 مزمورًا، تحوي دروسًا تعليمة هامة للبقية التقية في المستقبل، أولئك الذين قال عنهم دانيآل إنهم الفاهمون (انظر أيضًا متى 24: 15؛ رؤيا 13: 18). وهم سيقرأون تلك المزامير، ويتعلمون منها الكثير.

 ونلاحظ أن هناك 13 مزمورًا بعنوان “قصيدة” ، ومزمور 53 هو المزمور السادس منها، والرقم 13 هو رقم التمرد، والرقم 6 هو رقم الإنسان. وهذا المزمور يحدثنا فعلاً عن الإنسان المتمرد.

 ثانيا: طول المزمو

ر مزمور 14 يتكون من سبع آيات، تحدثنا عن شر الإنسان بصورة مجملة وكاملة، بينما مزمور 53 يتكون من ست آيات فقط. ومرة أخرى نجد في هذين المزمورين معًا الرقم 13 والرقم 6، رقمي الشر والتمرد والعصيان.

 ثالثًا: اسم الجلالة

 في كل من المزمورين يرد اسم الجلالة سبع مرات. وجميل أنه في المزمورين اللذين يحدثاننا عن زمان إثم النهاية عندما يصل الأمر إلى إنكار وجود الله نهائيًا، فإن المرنم في كلا المزمورين يؤكد تأكيدًا سباعيًا على وجود الرب مسيطرًا على الناس والأحداث.

 ولكننا هنا نجد فارقًا. ففي مزمور 14 نقرأ عن الاسم يهوه (وترجمته بالعربي الرب) 4 مرات، والاسم إيلوهيم (المترجم هنا الله) ثلاث مرات. وأما في مزمور 53 فلا يرد سوى اسم إيلوهيم أي الله، ويرد سبع مرات.

في كل من المزمورين يرد اسم الجلالة سبع مرات. وجميل أنه في المزمورين اللذين يحدثاننا عن زمان إثم النهاية عندما يصل الأمر إلى إنكار وجود الله نهائيًا، فإن المرنم في كلا المزمورين يؤكد تأكيدًا سباعيًا على وجود الرب مسيطرًا على الناس والأحداث.

 وهذا يتمشى مع طابع كل من القسمين. ففي القسم الأول من سفر المزامير نقرأ عن اسم الله “إيلوهيم” 49 مرة فقط، بينما اسم الرب “يهوه” يرد 275 مرة؛ بينما في القسم الثاني من سفر المزامير يرد اسم الجلالة الله “إيلوهيم” 189 مرة، بينما اسم الرب “يهوه” يرد 26 مرة فقط.

 وسر اختفاء اسم الرب من مزمور 53 أن البقية التقية في فترة الثلاث سنين والنصف، وهي فترة “الضيقة العظيمة” ستكون مطرودة من الأرض، وهيكل الرب في أورشليم ستكون فيه رجسة الخراب، لذلك لا ترفع البقية فيه صلواتها للرب “إله العهد” ، بل لله “إله الكل”.

 رابعا: اختلاف العبارات

هناك اختلاف في الآيتين 5، 6 من مزمور 14 عن ما يقابلها في الآية 5 من مزمور 53

وهاك نص العبارتين:

 «هُنَاكَ خَافُوا خَوْفاً لأَنَّ اللهَ فِي الْجِيلِ الْبَارِّ. رَأْيَ الْمَِسْكِينِ نَاقَضْتُمْ لأَنَّ الرَّبَّ مَلْجَأُهُ» (مز14: 5، 6).

 «هُنَاكَ خَافُوا خَوْفاً وَلَمْ يَكُنْ خَوْفٌ لأَنَّ اللهَ قَدْ بَدَّدَ عِظَامَ مُحَاصِرِكَ. أَخْزَيْتَهُمْ لأَنَّ اللهَ قَدْ رَفَضَهُمْ» (مز53: 5).

 ففي مزمور 14 يخبرنا عن فاعلي الإثم الذين يأكلون شعب الرب كما يأكلون الخبز والرب لم يدعوا (ع4). ثم يقول عن هؤلاء الأشرار إنهم خافوا خوفًا، وسبب هذا الخوف العظيم أن الله وسط شعبه، أي البقية التقية التي تسمى هنا: “الجيل البار”. وعندما يظهر الرب لنجدة أتقيائه، سوف تأخذ الرعدةُ المنافقين (انظر إشعياء 33: 14).

 أما في مزمور 53، فإنه يتحدث عن خوف البقية التقية، نظرًا لحصار الأعداء لأورشليم، واستحالة خلاصها في نظرهم. يقول المرنم: «هناك خافوا خوفًا، ولم يكن خوف»، بمعنى أنه لم يكن ثمة مدعاة للخوف، لماذا؟ يقول: «لأن الرب قد بدد عظام محاصرك». فهو يتحدث هنا لا عن خوف الأشرار بل عن خوف البقية الأمينة، نظرًا لأن الحالة ستصل إلى وضع لا يحتمل، وسيظنون أنهم هالكون، ولكن في لحظة واحدة سيأتي الفرج عندما يظهر الرب من السماء لنجدتهم وهلاك أعدائهم (انظر إشعياء 17: 12-14).

 واختلاف آخر في هذه الآيات، فبينما يتحدث المزمور 14 عن موقف الأشرار من الأبرار، “المسكين” ، وموقف الرب منه فيقول: «رأي المسكين ناقضتم، لأن الرب ملجأه». فالأكثرية الشريرة من الأمة ستضطهد البقية الأمينة التي يسميهم هنا “المسكين” (انظر صفنيا 3: 12)، ولكن رغم تكتل الكل عليهم تحت زعامة النبي الكذاب، فلا خوف على المسكين، لأن الرب ملجأه. بينما في مزمور 53 يحدثنا عن موقف البقية التقية من الأشرار، فيقول: «أخزيتهم لأن الله قد رفضهم». فعندما يظهر الرب لنجدة الأتقياء سيستخدمهم للقضاء على الجيوش المتحاربة، فتنقلب الهزيمة المحققة إلى نصرة رائعة (انظر زكريا 12: 6؛ 14: 14).

يوسف رياض